عبد الرزاق المهدي يكتب: التعزير المالي
الأول: التعزير بأخذ المال
ونبدأ به فهو الذي نحن بصدده ووعدناكم بالكلام عنه..
وفيه قولان الأول:
ذهب جمهور الفقهاء ومنهم الأئمة الأربعة: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد في الصحيح عنه إلى أن التعزير بأخذ المال من الجاني لا يجوز.
– واستدلوا بآيات كثيرة منها قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾
والأحاديث في ذلك كثيرة ومنها قوله ﷺ في حجَّةِ الودَاعِ:
«إنَّ دِماءَكُم، وأمْوالَكم وأعْراضَكُم حرامٌ عَلَيْكُم كَحُرْمة يومِكُم هَذَا، في شهرِكُمْ هَذَا، في بلَدِكُم هَذَا، ألا هَلْ بلَّغْت» متفقٌ عَلَيهِ من حديث أبي بكرة الثقفي.
– واستدلوا أيضا بأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قاتل مانعي الزكاة ولم يثبت أنه أخذ أموالهم عقوبة لهم.
– وعملا بقاعدة سد الذرائع فقالوا:
إن القول بأخذ المال تعزيرا فيه تسليط للظلمة من الحكام على مصادرة أموال الناس وأخذها فهذه ذريعة يجب سدها.
– وبأن الأصل في مال المسلم أنه محفوظ بيقين فلا يباح إلا بيقين؛ واليقين نص من الكتاب أو صحيح السنة.
بل نقل بعض الفقهاء الإجماع على ذلك ومنهم الصاوي من المالكية في معرض الكلام على التعزير – في حاشيته على الشرح الصغير ٤/ ٥٠٤ فقال:
وأما التعزير بأخذ المال فلا يجوز إجماعا. انتهى.
وقال الدسوقي من المالكية في حاشيته على الشرح الكبير:
أما العقوبة بالمال فقد نص العلماء على أنها لا تجوز. وفتوى البرزلي بتحليل المغرم لم يزل الشيوخ يعدونها من الخطأ. انتهى.
القول الثاني المخالف للجمهور
ذكر من أجاز التعزير بأخذ المال
ذهب أبن فرحون من المالكية وابن تيمية وتلميذه ابن القيم إلى جواز التعزير بأخذ المال..
وأما الإمام ابن قدامة ويعض الحنابلة فقد جعلوا ذلك محصورا في مسألتين فقط:
وهما سرقة الثمر المعلق وسرقة الماشية من غير حرز.
فقال في المغني: (فصل)
وإن سرق من الثمر المعلَّق فعليه غرامة مثلَيه وبه قال إسحق بن راهويه لحديث عمر بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن رجلا من مزينة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الثمار، فقال: ما أخذ في أكمامه فاحتمل، فثمنه ومثله معه…
قال: الشاة الحريسة منهن يا رسول الله؟ قال: ثمنها ومثله معه والنكال.
أخرجه احمد والنسائي وابن ماجه – واللفظ له.
ثم قال ابن قدامة:
وما عدا هذين لا يغرم بأكثر من قيمته أو مثله إن كان مثليا. هذا قول أصحابنا وغيرهم، إلا أبا بكر. فإنه ذهب إلى إيجاب غرامة المسروق من غير حرز بمثليه، قياسا على الثمر المعلق وحريسة الجبل، واستدلالا بحديث حاطب.
قال ابن قدامة: ولنا أن الأصل وجوب غرامة المثلي بمثله، والمتقوم بقيمته بدليل المتلف والمغصوب، والمنتهب والمختلس، وسائر ما تجب غرامته، خولف في هذين الموضعين للأثر، ففيما عداه يبقى على الأصل.
فكما ترى أن ابن قدامة حصر الغرامة في مسألتين فقط ولم يفتح الباب واسعا.. ثم إنه ومن وافقه لم يزيدوا على الضعف لورود حديث في ذلك تمسكا به كما ذكر ومنع من القياس.
فلا يجوز لأحد أن يجتهد من عنده فأنا وهو لسنا أهلا للاجتهاد بل في أحسن أحوالنا نصلح لأن ننقل الفتوى لا أكثر.
والأشد من ذلك أن يجتهد فيخالف ما قرره الأئمة الأربعة وأتباعهم مجتمعين ومتفرقين!! ويفتح الباب واسعا فيحل أخذ المال تعزيرا في قضايا كثيرة كالسرقة وغيرها أضعافا مضاعفة!!
فكما تقدم بأن القول بأخذ الضعف فقط قال به قلة من العلماء..
وأما القول بالأضعاف المضاعفة فلم يقل به أحد من فقهاء الأمة..
فالأئمة الأربعة وأتباعهم لم يقولوا به ولا قال به الحمادان والحكم بن عتيبة وابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي والليث بن سعد ولا قال به أتباعهم من بعدهم..؟!!
فقط سمعنا به لأول مرة في محاكم المحرر وأخشى أن يكون مأخوذا من القوانين الوضعية كما ذكر بعض الإخوة.
القول الثالث: ذهب الإمام الشافعي إلى أن التعزير بالمال لا يجوز.
قال في كتاب الأم المجلد ٦ كتاب الاقضية:
«لا تضعف الغرامة على أحد في شيء إنما العقوبة في الأبدان لا في الأموال وإنما تركنا تضعيف الغرامة من قبل؛ أن رسول الله ﷺ قضى فيما أفسدت ناقة البراء بن عازب أن على أهل الأموال حفظها بالنهار. وما أفسدت المواشي بالليل فهو ضامن على أهلها فإنما يضمنونه بقيمة لا بقيمتين».
ونقله عنه البيهقي في السنن الكبرى (8/279)
وجاء في حاشية الجمل وهو من الشافعية (5/164):
(لا يجوز التعزيز بأخذ المال).
وقال الخطابي في معالم السنن (2/260): وقال الشافعي في التعزير:
لا يحرق رحله ولا يعاقب الرجل في ماله إنما يعاقب في بدنه جعل الله الحدود على الأبدان لا على الأموال.
فهذا قول الشافعي وأصحابه فمن بعدهم كإمام الحرمين والماوردي والغزالي والنووي وغيرهم بأنه لا يجوز التعزيز بالمال أصلا عندهم وإنما التعزير فقط في الأبدان أي بالجلد والسجن وإن طال بقدر ما يرتدع به الجاني. والله تعالى أعلم.
والعجيب أنهم يقولون لجنودهم:
نحن نعتمد مذهب الشافعي!! بل ويمنعون جنودهم من المسح على الجوربين!! لأنه لا يوجد مسح على الجوربين عند الشافعي.
وتأتيني أسئلة كثيرة في فصل الشتاء من المرابطين على الثغور وخاصة من جنود الهيئة: يا شيخ! هل يجوز المسح على الجوربين؟
فأقول: نعم يجوز إذا كانا ثخينين وهذا على مذهب الحنابلة جميعا وابن حزم وابن تيمية وابن القيم وهو قول أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة وكثير أهل الحديث ومشايخ الحجاز وغيرهم.
وبعد أن أجيبهم أسأل نفسي:
لماذا يشددون على جنودهم ويمنعونهم من رخصة قال بها أئمة كبار أتقياء كأحمد وغيره بينما هم يخرجون عن المذهب الشافعي في مئات المسائل؟!!
عجيب وغريب أمر بعض الناس هذه الأيام!!!