بحوث ودراسات

عبد العليم شداد يكتب: منذ الاستقلال هل في السودان حكومة؟

كما هو معلوم أن السودان قبل العام 1956 كان إقليما صغيرًا تابعا للإمبراطورية البريطانية وعاصمتها لندن التي يوجد فيها مقر الحكومة حيث العقل المفكر لكل الإمبراطورية، أما ما كان موجودا في بقية الأقاليم (المستعمرات) فهي أنظمة إدارية تستلهم رؤاها وخططها في الحكم من الحكومة الأم الموجودة في عاصمة الإمبراطورية، فالمستعمرات لم تكن تَدار كدول مستقلة، إنما هي أقاليم يديرها موظفون يخضعون للوائح وقوانين الخدمة المدنية في بلادهم ويتم اختيارهم بعد اجتياز المعاينات اللازمة لذلك، فمثلا الحاكم العام الإنجليزي في السودان والذي كان هو أعلى شخص في هرم السلطة داخل السودان كان ترتيبه متدنيا بالنسبة للكثيرين في بلاده، فهو موظف يتبع ل (إدارة خدمات المستعمرات) التي كانت تدير أملاك بريطانيا خارج الحدود وهذه الإدارة تشرف على ستة عشرة وحدة إدارية أخرى، ورئيسها يتبع لوزير في الحكومة البريطانية، ولهذا فقد كانت اعمار جميع من حكموا السودان دون الستين لانهم موظفين يخضعون للوائح الخدمة المدنية البريطانية التي تنص على ان الستين هي سن المعاش، كما كانوا يخضعون لامتحانات تنافسية ومعاينات شخصية قبل اختيارهم ويخضعون للتدريب والتأهيل بعد اختيارهم، ولذلك كانوا ناجحين في تحقيق الأهداف الموكلة اليهم وخاصة فيما يتعلق بتنفيذ المشروع الاجتماعي لصياغة المجتمع السوداني، والقائم على اضعاف دين الإسلام وقيمه في نفوس السودانيين وذلك على حس بما جاء في الوثائق البريطانية نفسها، وتم ذلك عن طريق مؤسسات التعليم الحديثة المدنية والعسكرية وهي المؤسسات التي خرجت النخب التي قادت السودانيين فيما بعد، فكانت معظم هذه النخب تحمل المزاج الغربي فيما يتعلق بالدين، وبالطبع فان هذه السياسة كانت هي سياسة الحكومة الام في لندن فما حدث في السودان حدث في جميع المستعمرات الأخرى.

عند الاستقلال كان السودان ضعيفا في غاية الضعف فالجيش السوداني والذي كان يسمى قوة دفاع السودان كان وحدة صغيرة جدا تابعة للجيش البريطاني فقد كان الهدف من تأسيسه هو المساعدة في حفظ الامن الداخلي، حيث كان عدد أفراده اقل من الستة الاف جندي بما فيهم الجنوبيون، ومجموع ضباطه لا يتعدى المأتى ضابط ولم يكن يملك سلاح طيران ولا بحرية ولا أسلحة قوية، اما الجيش البريطاني في ذلك الوقت فقد بلغ عدده اكثر من اربعمائة الف جندي (قرابة النصف مليون)، إضافة لترسانة ضخمة من الطائرات المقاتلة والمدرعات والمدفعية والسفن الحربية، أما اقتصاد السودان فمن شدة ضعفه فقد كان يقوم على القليل من الصادرات الزراعية التي تتعرض للكساد أو الآفات او عوامل الطبيعة، والحقيقة انه لم يكن هناك اقتصاد اطلاقا فحتى بنك السودان تم انشائه في العام 1960 والعملات التي صدرت بعد الاستقلال لتحل محل العملات المصرية والبريطانية أصدرتها لجنة سميت بلجنة العملة. أما اعداد المتعلمين فقد كانوا قلة قليلة والذين يمكن وصفهم بالجيل السعيد، فلقلتهم تسيدوا الساحة السياسية والاجتماعية لفترات طويلة وصنعوا أسماء جعلتهم نجوم الساحة حتى اليوم.

أما الرخاء الذي يتحدث عنه الناس في تلك الفترة فلأن ملايين السودانيين كانوا يعيشون حياة بسيطة بيوتهم من المواد المحلية وطعامهم من أرضهم فهم لا يكلفون الدولة شيئا يذكر من العملات الأجنبية فمن تعداد السكان البالغ عشرة ملايين كان سكان العاصمة بمدنها الثلاثة ربع مليون فقط، ونظام الإدارة الأهلية أراح الحكومة من جيوش الموظفين النظاميين بالرغم من أنه كان سببا لترسيخ القبلية. وحقيقة الامر أننا يمكن أن نلخص القول في أن السودان عند استقلاله كان دولة صغيرة جيشها صغير ونظام خدمتها المدنية صغير وضعيفة الاقتصاد وقليلة السكان (باعتبار ان الملايين كانوا يعيشون في البوادي والسهول والغابات خارج دائرة التأثير السياسي والاقتصادي) ولذلك كان سهلا على الدول الأخرى ان تكون صاحبة نفوذ قوي داخل البلاد فيما بعد الاستقلال ولفترات طويلة لدرجة ان بعضها كانت تتدير شؤنها مع السودان من خلال أجهزتها الأمنية كأن السودان جزءا تابعا لها لا عبر وزارة خارجيتها حسب العرف المعمول به.

أما الاعمال التي قامت بها الإدارة الأجنبية والتي يعدها الناس اليوم إنجازات فهي أعمال تافهة وبسيطة لإقليم مقارنة بالتطور الموجود في الدولة الأم فكلية غردون مثلاً تأسست في العام 1902 لتخريج الفنيين والموظفين اللازمين للدولة ولم تحمل اسم جامعة الخرطوم إلا بعد الاستقلال، أما في عاصمة الدولة المستعمرة فجامعة أكسفورد تأسست في العام 1096 و كامبردج في العام 1209، أي ان الفرق بين جامعة الخرطوم وأكسفورد اكثر من 800 عام، وهذا يكفي لندرك المسافة الموجودة بين الواقعين وان ندرك اننا لو كنا نعتبر ان ما تم إنجازات فنحن نأخذ الأمور بسطحية تظهر في فهمنا لمعنى الإنجاز.

أعمدة الدولة الحديثة هي الجيش والشرطة وموظفي الخدمة المدنية وذلك إضافة للأرض والشعب ومن يمتلك قيادة الجيش فهو يمتلك الدولة، أما الحكومة فتختلف عن الدولة فهي العقل المفكر القائد لأجهزة الدولة السابق ذكرها وهي الطبيب المعالج للأمراض التي تصيبها فهي العين التي تبصر مواقع الخلل فتقوم بإصلاحها لتؤدي مهامها بفعالية، وهي التي تضع الخطط وتفجر الطاقات لتجعل البلد الذي تقوده بلدا قويا، وهي التي تصيغ الحياة الاجتماعية وفقا لعقيدتها السياسية (أيدلوجية)، وباختصار الحكومة هي عقل الدولة. ولكن في معظم الدول التي كانت مستعمرة استمرت الاجهزة الادارية المكونة للدولة في أداء مهامها بعد زوال الاستعمار اما الحكام الوطنيين الجدد فقد أصبحوا مجرد اداريين كبار ومجالس الوزراء هي مجالس للاداريين الذين يبزلون جهدا بدنيا وذهنيا كبيرا وينتهون الى قرارات فطيرة وينجزون انجازات تافهة لا ترقى لتسميتها انجازات حكومة تملك السيطرة على اجهزة الدولة وأرضها وسمائها. فتكوين مكاتب الوزراء عندنا وعند أمثالنا من الدول الضعيفة لا علاقة لها بمكاتب نظرائهم في الدول القوية، ولا عجب فهؤلاء لا يملكون مصادر للتفكير والتحليل والتخطيط وان وجدت فهي مجرد مسميات ديكورية، ولذلك فإن وزراؤنا مجرد اشخاص عاديين وجودهم ضروري لإكمال الدورة المستندية للدولة فالنظام الاداري اصلا موجود وأجهزة الدولة اصلا موجودة بناها المستعمرون ويشكرون على ذلك بالرغم مما كانت عليه من ضعف، فالشرطة السودانية مثلا تأسست في العام 1910والجيش السوداني يرجع تأسيسه للعام 1925، والخدمة العامة في العام 1924، وكلها تحظى بالاعتراف الشعبي والعالمي فالجيش مثلا بدون اعتراف يصبح مجرد عصابات.

المكتب الرئاسي او الوزاري هو مكتب انتاج قرارات وفقا لتفكير عميق ودراسات والمجموعة الأساسية فيه هم الأشخاص الذين ينتجون هذه الأفكار والوزير يوظفهم للتفكير نيابة عنه ووفقا لتوجيهاته وملاحظاته ويعمل بنتيجة أفكارهم وتحليلاتهم المقنعة والمنطقية فهم أشخاص متابعون لكل ما ينشر في الصحف ووسائل الاعلام المختلفة ويستفيدون منه في أفكارهم وابحاثهم كما أن لهم القدرة على الحصول على الإحصاءات والمعلومات الضرورية للتحليل من مكاتب الدولة المختلفة فهم يستمدون قوتهم من منصب المسؤول الذي يعملون تحت اشرافه، ولذلك هم اول من يبصرون مواقع الخلل في عموم البلد أو في أجهزة الدولة او الوزارة التابعة لهم فيرفعون التوصيات اللازمة بشأنها، وهذه المجموعة المفكرة هي العقل الحقيقي لكل وزارة وقد تتكون هذه المجموعة من عشرات او مئات الأشخاص وذلك حسب الحوجة فالوزير مهمته إدارة هذه العقول والاستفادة منها للمصلحة العامة، واذا كبرت هذه المجموعة فيمكن فصلها في كيان مستقل يسمى مركز التفكير (عددها في الولايات المتحدة حيث أكثر من الفين وتوظف الالاف من المفكرين وقديما كانوا يسمونها صناديق العقل) فلا يمكن ان يصدر مسؤول بالحكومة قرارا عشوائيا، فكل قرار يصدر بعد تفكير و تمحيص ودراسة منطقية ولذلك لا تستغرب اذا علمت ان عدد موظفي مكتب الرئيس الأمريكي يبلغ اكثر من أربعة الاف موظف.

اما عندنا في السودان حيث السطحية تمشي على قدمين فمكتب الوزير هو عبارة عن وزير وموظفي سكرتارية ورجال مراسم وحرس وسائقين، والمطلوب من الوزير أن يجري المقابلات الرسمية ويحضر الاجتماعات ويفتتح المنشآت ويتابع أداء الإدارات التابعة له وغير ذلك من الأحداث اليومية، فكيف تنتج وزارة هذا هو حال وزيرها قرارات وتوجيهات سليمة ووزيرها مستهلك بهذه الدرجة، انها وزارة معطلة ضعيفة الفعالية، فمهمة الوزير نحو وطنه مهمة كبيرة ولا يوجد انسان يفكر في كل شيء في وقت واحد ولذلك فالمجتهد من وزرائنا يبزل جهده في جانب وتخفي عليه جوانب كثيرة، فهم مستهلكين لأقصى حد ومع ذلك غير منتجين، وقد اكتفي بعضهم بالاستمتاع بوجاهة المنصب دون الإنتاج، هذا مقارنة مع الوزراء في الدول القوية الذين يجدون وقتا لعائلاتهم ولممارسة الرياضة وكتابة الكتب والاستمتاع بالحياة، ومع ذلك يصدرون القرارات السليمة ويقودون أنظمة إدارية وخدمة مدنية ناجحة تعمل بكفاءة وتريح الجمهور ولا تعذبه كما الحال عندتا، فكفاءة النظام الإداري هي نتيجة لكفاءة النظام السياسي في الدولة.

وأشد ما تظهر السطحية عندنا عند النظر للأحزاب السياسية فجميعها لا تمتلك عقائد سياسية ومشاريع اجتماعية واضحة ولذلك فهي أقرب للشركات التجارية (ربما يكون الحزب الشيوعي في السودان قديما هو الافضل في هذا الجانب)، فالحزب الحاكم مثلا بالرغم من رغبته المعلنة في الاسلام الا انه لا يوضح أي منهج يريد من بين مناهج الفرق الاسلامية الكثيرة الموجودة في الساحة حاليا، هل هو منهج الشيعة الذين يسبون كرام الصحابة أم هو منهج الروحانيين الذين زهدوا في الدنيا وانعزلوا عن الناس واتجهوا لتربية الروح وتقديس البشر أم هو منهج الذين يجيزون امامة المرأة وينكرون عذاب القبر، أم هو منهج الموفقين الصادقين الذين أنعم الله عليهم. ورغم ذلك وبالنظر للواقع أنا لا اشك اطلاقا في ان تطبيق الاسلام كمنهج حياة هو امنية القادة الحاليين ولكن هناك فرق بين الامنية والعمل بخطة لتحقيقها، فكلنا نتمنى ان نشتري سيارات وأثاثات جديدة وأن نبني منازل فخمة والكثيرون منا يحدثون الناس بأمانيهم تلك، ولكن غالبا ما تخزلنا امكانياتنا فتمضي الايام والسنين ولم نحقق شيئا مما نريد خاصة مع الانشغال بأعباء ومشاغل الحياة اليومية التي لا تنتهي، وهكذا فان امنية القادة الحاليين الصادقة هي تطبيق الاسلام ولكن كيف؟ فهذا ما تعجز عنه امكانياتهم الفكرية والعلمية وما لا يملكون له خطة ولا استراتيجية، فلكل عضو من أعضاء الحزب مفهوم يختلف عن الاخرين للشريعة الإسلامية، نتيجة لغياب الفكرة المركزية ونتيجة للسطحية في النظرة للأمور، ولذلك فانك لا تستغرب عندما تسمع كبار القادة يقرون بعدم تطبيقهم للإسلام ولكنهم يتبعون ذلك الإقرار بانهم سوف يطبقونه، هذا مع مضي خمسة وعشرين سنة حتى الان!

خلاصة القول أن ما كان موجودا قبل الاستقلال هو نظام إداري تابع لحكومة بلاده في لندن، تأثر به قادة السودان الأوائل في تصميم مكاتبهم على نفس الطريقة ومن ثم سار من جاء بعدهم على اثرهم حتى اليوم، فأصبحت مكاتب وزراؤنا مكاتب اداريين ينتسبون للسياسة، فصارت حكوماتنا منذ الاستقلال عمياء صماء، خططها فاشلة، تتحرك بردود الأفعال تقودها الأحداث ولا تقود الاحداث، يعلو صوتها عندما يحدق بها الخطر فغريزة حب البقاء موجودة حتى عند الحيوان، ولذلك فكل ما يكتبه الناصحون أو القادحون لا يعنيها في شيء الا بمقدار تأثيره على الامن الداخلي، وان هذه دعوة صادقة نوجهها لكل فرد في الإدارة (الحكومة) الحالية بصفة خاصة ولكل من له تأثير عليها بان تتحرك لبناء حكومة حقيقية (عقل ناضج يقود دولة السودان)، والدعوة موجهة لكل صاحب قلم أيا كان اتجاهه بان يدفع في هذا الاتجاه فمهما كتب من نصح وتوجيه أو نقد فهو مجرد حبر مسكوب يقرأه الناس وينسونه بعد أيام ولكن لو كانت مكاتب مسؤولينا تسمع وتبصر وتعقل لما كان الحال كما هو الان أو كما سيكون عليه غدا.

هذا مع ملاحظة ان بلادنا بها كل المسميات الحديثة ابتداءً من هيئة الطاقة الذرية الى هيئة النظافة في المحلية، ولكنها جميعا تحتاج للحكومة التي تجعلها منتجة وذات فاعلية.

هذه المقالة تم نشرها في العام 2015

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *