في ركنٍ راسخ من تراثنا العربي، يقف عبد القاهر الجرجاني شامخًا كأحد كبار أئمة البلاغة والنقد والبيان، لا يُذكر الإعجاز القرآني إلا وتُذكر معه نظرياته، ولا يُبحث في علوم البيان دون التوقف أمام بصيرته الفذّة وفكره المتّقد.
هو أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني، وُلد في مدينة جرجان الواقعة في إقليم طبرستان (شمال إيران حاليًا)، عام 400 هـ / 1009م، ونشأ في بيئةٍ علمية طلابية. لم يكن في نشأته صاحب جاه أو نسب أو مال، لكنه كان صاحب عزيمة، نهل من علوم اللغة والفقه، ثم تفرّغ لعلم النحو، ومنه إلى البلاغة والبيان والنقد، حتى أصبح المرجع الأول لكل من جاء بعده في تحليل النصوص ومواطن الجمال في اللغة العربية.
من النحو إلى البلاغة.. رحلة فكر
درس الجرجاني النحو على يد أبي الحسين بن حسن الفارسي، أحد تلاميذ العالم النحوي الكبير أبي علي الفارسي. وقد مكث عشرين سنة يدرّس “الإيضاح” و”التكملة” دون أن يخرج من بيته، مكتفيًا بمراجعة ما وصل إليه من كتب العلماء الكبار.
ومن النحو واللغة، انطلق إلى البلاغة، فكان أول من بنى علم البلاغة على أسس عقلية لغوية، بعيدة عن الحشو والزخرفة.
أشهر مؤلفاته
يُعد عبد القاهر الجرجاني من أكثر المؤلفين تأثيرًا في تاريخ البلاغة العربية، ومن أبرز كتبه:
دلائل الإعجاز: ويُعد أعظم مؤلفاته، أسس فيه نظريته في النظم، وهي النظرية التي فسّر بها إعجاز القرآن، معتمدًا على العلاقة بين الألفاظ والمعاني، لا على اللفظ وحده ولا المعنى منفردًا، بل على طريقة التأليف بينهما.
أسرار البلاغة: بحث فيه قضايا المجاز والاستعارة والتشبيه والكناية، بأسلوب تحليلي نقدي متقدم جدًا.
العوامل المئة والجمل في النحو: وهما من كتب النحو المقررة في الأزهر ودوائر العلم لقرون.
نظرية النظم.. فتح جديد في تحليل النص
نقطة التحول الكبرى في فكر الجرجاني كانت نظرية النظم، التي خالف فيها من سبقوه، حيث رفض الفصل بين اللفظ والمعنى، وأكد أن البلاغة تكمن في ترتيب الكلام وتنظيمه بما يتوافق مع مقتضى الحال.
قال في “دلائل الإعجاز”:
“ليس النظم إلا أن تضع الكلام مواضعه، وتنسق الألفاظ على حسب معانيها، فتجعل كل كلمة في موضعها اللائق بها”.
أثره في التراث.. وخلود اسمه
خلّف الجرجاني مدرسة فكرية كاملة سار على نهجها كبار البلاغيين والنقاد، من أمثال: الزمخشري، وابن الأثير، والسكاكي، والقرطاجني، وعبد القادر الجرجاني الثاني، وحتى طه حسين في العصر الحديث.
وظلّت كتبه تُدرّس في مدارس العلم، وكتب عنه المستشرقون بإعجاب، مثل “جولد زيهر” و”بروكلمان”، الذين عدّوه أذكى محلل للنصوص القرآنية.
وفاته
توفي عبد القاهر الجرجاني في مدينته جرجان سنة 471 هـ / 1078م، بعد أن ترك تراثًا فكريًا يُعد من أركان الثقافة العربية والإسلامية، لا سيما في مجالات البلاغة، والنقد، والنحو.
كلمات خالدة
“الألفاظ خدم المعاني، والمعاني هي السيدة، فلا تَشْغلنّك الألفاظ حتى تغفل عن المعنى”.
“البلاغة ليست في أن تقول، بل في كيف تقول”.
عبد القاهر الجرجاني ليس مجرد عالم بلاغة، بل هو واضع الأساس العلمي لتحليل النص العربي، وهو أحد أولئك العمالقة الذين أسّسوا للفكر النقدي العربي قبل أن يولد النقد الحديث.
ويظلّ فكره متجددًا، لأنه تجاوز القوالب، وذهب إلى الجوهر: كيف يُفكَّر في اللغة؟ وكيف تُبنى المعاني؟ وكيف يُقنع النص سامعه وقارئه؟
إنه بحق: شيخ البلاغيين وعرّاب الإعجاز.