في رحاب القرن الخامس الهجري، بزغ نجمٌ من أعلام الفكر العربي، وعَلَمٌ من أعلام البلاغة والنقد، هو عبد القاهر الجرجاني، الذي خطّ بمداد العقل والبصيرة صفحاتٍ خالدة في ذاكرة الأدب العربي.
عبقري النحو والبلاغة
ولد أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني في مدينة جرجان (تقع في إقليم طبرستان، شمال إيران اليوم) في أوائل القرن الخامس الهجري، وقيل سنة 400 هـ تقريبًا. نشأ في بيئة علمية تميل إلى الفقه واللغة، وكان ذا نفسٍ صبور، وهمةٍ عالية، فعكف على طلب العلم في صمتٍ وزهد، حتى نبغ وتفرد.
لم يعرف عن الجرجاني كثرة الترحال، بل بقي في جرجان معظم حياته، لا يلهث وراء الأضواء، بل ترك كتبه تنطق باسمه، وتزاحم بذكائها العقولَ والقلوب.
تتلمذ على يد النحوي أبي الحسين محمد بن الحسن الفارسي، فنهل من علمه، وتأثر بمنهجه في التحليل الدقيق والاستنباط، حتى بلغ في النحو منزلةً قلّ من وازاها، لكنه سرعان ما ارتقى إلى ذُرى البلاغة، حيث خاض مضمارًا جديدًا، لم يُسلك من قبل على هذا النحو من الدقة والعقلانية.
أهم مؤلفاته:
- دلائل الإعجاز
درة تاج البلاغة الإسلامية، وميدان الفروسية العقلية في فهم إعجاز القرآن. خاض فيه الجرجاني معركة الحرف والمعنى، وأرسى نظرية النظم، التي ترى أن بلاغة القرآن ليست في الكلمة المفردة، بل في نَسقها وترتيبها وعلاقاتها بما قبلها وبعدها.
- أسرار البلاغة
سفرٌ بديع في فنون البيان والتشبيه والمجاز، كشف فيه عن أسرار التعبير، وبنى أساس البلاغة العلمية الدقيقة، إذ جعل من البلاغة علمًا له أدوات وتحليل، لا مجرد ذوق وشعور.
- الرسالة الشافية
وهي في النحو، لكنها تُظهر ملامح نظريته اللغوية المتكاملة.
- الرسالة المقدمة في النحو
من أبرز أعماله النحوية، توضح عمق معرفته بعلم النحو وتطبيقه على أسس عقلية.
- العوامل المائة
كتاب صغير في النحو، اشتهر كثيرًا، ولا يزال يُدرّس لطلبة اللغة.
أشهر أقواله:
“ليس النظمُ أن تُؤتى الكلمُ متناسقةً في السمع، متناسبةً في الوضع، بل أن تُعلّق الكلمة بالكلمة على الوجه الذي اقتضاه المعنى.”
(وفي هذا القول خلاصة مذهبه البلاغي: أن البلاغة في النظم لا اللفظ).
“المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العربي والعجمي، وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخيّر اللفظ وسلوك الجادة.”
“المزية في الكلام ليست في اللفظة، بل في نظمها وتركيبها في السياق.”
خاتمة:
رحل عبد القاهر الجرجاني بعد أن خلّف للعقول مفاتيح البلاغة، وللنقاد منهجًا تحليليًا سبق عصره بقرون. لم يطلب شهرةً، ولا مجدًا دنيويًا، بل طلب البيان، وبلغ فيه منزلة الإمامة. وكان بحقّ مؤسس علم البلاغة بمفهومه الفلسفي العميق، ومفكّرًا سبق زمانه، وما زالت كتبه حتى اليوم منارات تهدي السالكين في دروب اللغة والفكر والجمال.