عبد الوهّاب سلطان الدّيروي يكتب: لغة التدريس كما يجب أن تكون!
لما ذا ينبغي أن تكون لغة تدريس العلوم العربية والشرعيّة لغير الناطقين بها هي العربية؟
لغة التدريس في مدارسنا العربية ماذا ينبغي أن تكون؟ هل اللغة الوطنية -وهي الأردية في ديارنا- أم اللغة العربية؟
على أنّ اللغة الوطنية لا يجب أن تكون هي اللغة الأمّ لجميع أبنائها ولكنها على كلّ حالٍ لغة التبادل العامة كما أنّها لغة التدريس في معظم مدارسنا الشعبية؟
بدأ هذا السؤال هو الآخر يشغل الساحةَ التعليمية في الآونة الأخيرة. وهناك من يدعو إلى تبنّي اللغة الأردية لغةً للتدريس باعتبارها اللغة القومية الأكثر اقترابا من اللغة الأم والأكثر تلاؤماً مع البيئة التي يقطنونها والتي سيخرجون إليها دعاةً في أغلب الأحوال إذا لم يصرفهم القدر إلى دولةٍ أخرى غيرها!
التدريس باللغة الأم بالنسبة للعلوم الطبيعية والاجتماعية وما يدور في فلكهما يبدو منطقيّاً إذ إنَّ هذه العلوم لا ترتبط بلغة دون لغة، بل هي تُقصَد لذاتها فھي مطلوبة لكونها علماً أو صناعةً بمعزلٍ عن الوعاء اللغوي الذي يحتضنها، وعليه فيحقّ لها أن تكون لغةُ تدريسِها هي اللغة الأم قبل تكون أية لغة أخرى.
ولكنّ الأمر مع العلوم العربية الشرعيّة مختلف قد لا يصحّ قياسها على العلوم الطبيعيّة. وذلك لأنها ترتبط باللغة العربية ارتباطاً وثیقاً لا یصحّ فكُّها عنه، ولأنّها وعاءُها الذي يحتضنها، وتجريده عن هذا الوعاء وعرضه في غير لغتها الطبيعية قد لا يتفق وطبيعتَها التي فُطرت عليها.
اللغة العربية هي اللغة الأمّ للشريعة التي نبغي تعليمها: بدءً من مصدرَيها: الكتاب والسنة، ومروراً بالتراث العربي الإسلامي الهائل الممتدّ على خمسة عشر قرناً. فهي وعاؤها الأصليّ الذي يؤدّي تجريدُها عنه إلى ثغرات يصعب سدّها بعد ذلك. وإنّ ترجمة هذه العلوم أو تدريسها بغير لغتها الأصلية تصلح للعامّة من الناس من باب الوعظ والتوجيه والإرشاد ولكنّها لا تصلح -كالحلّ الأمثل- لتكوين علماء الشريعة الراسخين الذين يجب أن يحسنو فهمَ التراث وعرضَه في اللغة العربية مباشرة دون أيّ وسيط أجنبيّ.
ولا بأس أن نتساءل هنا: هل هذا يدعو إلى تبنّي اللغة العربية لغةً لتدریسھا ما دام يُعوّضنا عنها التدريس باللغة الأردية التي يمكن الاستعانة بها كوسيط مترجم؟ وقد غدت (الأردية) منذ عشرات السنين هي اللغة التعليمية التي خرّجت أجيالاً من علماء الشريعة قبل أن تظهر في الجامعات معاهد وأقسام مستقلّة للتدريس بالعربية؟
صحيح، ولكن هنا يفوتنا فكرة هي الأهمّ. وهي أنّ هؤلاء السادة العلماء الأكابر أولَوا العربيّة من الاهتمام الإضافي من خلال البرامج التابعة كالحفلات التدريبية والمقارضات الشعرية وتأليف الكتب العربيّة وغيرها من الأنشطة- ما عوّضهم عن الثغرات التي يفتحها عادةً التدريس بالأرديّة، على انهم قلّة شبه نادرة لا ينسحب حكمهم على الأكثريّة التي لم يسجّل لنا التاريخ تفاصيل عملهم.
وإن صحّ ذلك أن يكون مبرّراً فقد لا یکون حلاَّ مثاليّاً؛ لأنّ اللجوء في مثل هذه العلوم إلى اللغة الوسيطة يبعُد بالطالب عن لغتها الأصيلة المتمثلة في العربيّة، وقد بات ثابتاً بالتجربة أنّ فكرة التخلّي عن اللغة الوسيطة (الأردية) يمكن تنفيذها عمليًّا وقابلة للتطبيق فضلاً عن أنها أنفع تعليميًّا، لأن استخدام اللغة الوسيطة في عمليّة التدريس يجلب علينا جُملةً من الأضرار في الأداء التدريسي، وهي كالتالي:
أوّلاً: تدريس العلوم العربية والشرعية بغير لغتها الأم (العربية) يعني أننا نربط عقليّة الطالب بلغة أخرى ليعتمد عليها في فهم النصّ. فيصبح هذا الطالب -بحكم التجربة والمشاهدة- لا یکاد یقتنع بأي نصّ إلا إذا عُرض عليه مترجماً إلى لغته الثانية (الأردو مثلا)، ويحصل هذا حتى في المراحل العليا من الدراسة حيث ينبغي أن يستغني الطالب عن الترجمة.
ثانياً: التدریس بغیر اللغة العربیة في هذا الحقل يتسبّب في إبعاد الطالب عن التراث الإسلاميّ العربي. ويشهد الواقع العمليّ مع الأسف أن معظم الطلاب الذين يرتبطون في فهم نصوص كتبهم بغير اللغة العربية يستوحشون من أيّ كتاب يقع بين أيديهم في اللغة العربية. وقد تجد أحدهم يؤثِر اقتناء “التفسير المظهري” مترجما إلى اللغة الأردية على أن يقتني أصلَه العربيّ.
ثالثاً: وقد تجاوز هذا الأمر إلى الاعتماد الکلّيّ على الشروح الأرديّة لدى فئات من الطلبة كما تجاوز عند غيرهم إلى الاتكاء الكامل على الملخّصات الأرديّة بل قد يجد بعضهم غنيتَه في “حزمة مطبوعة” من أوراق الاختبار وأجوبتها السابقة التي يكتفي بها الطالب آملاً في أن تصادف بعضَ الأسئلة الآتیة في اختباره القادم فيكسب نجاحاً رمزیـّاً يؤهّله للترقّي إلى المرحلة القادمة. والنتيجة بعد ذلك ظاهرة للعيان!
صحيحٌ أنّ اللغة الأردية -کلغة قومیـة وشعبيّة- حاجتنا إليها قائمة.
ولكن هل التدريس بالعربية يحرمنا تعلّمَها؟
أو لنغيّر السؤال: هل التدريس باللغة الأردية يكفي لتعليم اللغة الأردية بما يطوّر لغة الخطاب الديني لدى خرّيجي مدارسنا؟
الجواب هنا مؤسف أيضا بشهادة أهله من كبار العلماء. وذلك لأنّ لغة التدريس الأردية هي الأخرى تأتي مشحونة بالمصطلحات العلميّة التي لا تنفع الخرّيج في تطوير لغته كداعية وخطيب في مجتمع غير عربيّ. وعليه، فإنّ معالجة هذه الظاهرة تتأتّى من خلال برنامج تدريبيّ مستقلّ لتدريب الدعاة والخطباء ومن خلال قسم مستقل لتعليم “الأدب الأرديّ المعاصر” في مرحلة ما بعد التخرّج. وليس من الصواب التوصّل إلى هذا الهدف على حساب التدريس بالعربية.
أمّا الذي یُقنـّع طلابه بأن في تعلّم العربيّة فهماً كفاية ثمّ يُزهّدهم في تعلّمها نطقاً أو كتابةً بحجّة أنهم أعاجم وأنّى لهم أن يوفّقوا للعمل الميدانيّ في العالم العربيّ !
فهذا -إذا خفّفنا في القول- يُنبيء عن قصور بالغ في الهمّة لديهم، وعن تقصيرٍ متناهٍ في تقدير واقعنا المعاصر وتداعياتِه في ظلّ العولمة التي حوّلت العالم إلى قرية صغيرة. وقد شهدت الساحات العلمية أن العالِم المتمكّن من زمام لغاته العالميّة هو المتحكّم اليوم في قراراته المؤسّسيّة، على أنّ باب العطاء والتأليف في العربيّة مفتوح ومجالات العمل العلميّ فيها متاحة. يستدعي ذلك مقالاً برأسه. وكفى بحاجتنا إلى ترجمة تراث علمائنا وتهذيبه والتعليق والاعتناء به دلیلاً علی هذه الحاجة التي يترقبّها العالم واعتبره كبار علماء العرب ديناً في ذمة علمائنا.
أمّا فُرص المشاركات في المؤتمرات والندوات العلميّة التي يشهدها العالم الإسلاميّ في عمومه فحدّث عن البحر ولا حرج. وغنيّ عن التعليق مدى تخلّف أبناء مدارسنا عنها وعوز تمثيلهم فيها وإيثار بعضهم الذي وصل إلى هذه الندوات سياسةَ الصمت الآمن في محافلها.
وهناك من يظنّ أن التدريس بالعربيّة عائق في فهم الفنّ أو العلم الذي يُراد تدريسُه، هذا صحيح بالنسبة لمتعلّم لا يحسن فهم العربية وبالنسبة لمعلّم لا يُحسن التدريس بها ولكن إذا تهيّأ الطالب ابتداءً في فترة تمهيديّة تؤهلّه للفهم في العربيّة فإنّ هذا يحلّ المشكلة من جذوره، تماماً كما نجده في الأساكيل الإنجليزية التي يُلجأ فيها الطفلُ منذ يومه الأوّل للرطانة بالإنجليزية شاء ذلك أم أبى، ولا يلبث الطالب بفضل البيئة المتكاملة أن يفهم أدقّ دروس الحساب والفيزياء بهذه الإنجليزيّة التي كانت أبعدَ شيء عن طبيعته ومزاجه. فلماذا لا يستطيع الطفل المسلم المستأنس باللغة العربية منذ ولادته كونَها لغةَ صلاته ودعائه أن يتعلّمها ابتداء في فترة تمهيديّة ثمّ يفهم الدروس بها.
لعل الشيء الوحيد الذي يشكّل حجر عثرةٍ أمام هذه المسيرة هو اختيار كوادر قادرة على التدريس بالعربيّة.
وبحكم التجربة فإنّ المعلّم الذوّاقة هو الحلّ وهو الحلّ الأخير. وأما دون ذلك من التحدّيات فإنها تخرج منه وإليه تعود.
(المصدر: افتتاحيّة مجلة البلاغ العربية الصادرة عن جامعة دار العلوم كراتشي، العدد: 8، ذو الحجة 1445هـ)