منذ صغري تستوقفني الآية الكريمة في ختام الحديث عن سيدنا إبراهيم وذريته من الأنبياء عليهم السلام (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) البقرة134
إن القرآن الكريم احتضن المؤمنين منذ جيل الصحابة رضوان الله عليهم في رحلة تربوية إيمانية ربطت بين حاضر الأمة المسلمة ومستقبلها عبر الأجيال اللاحقة، مهما تقدّم الزمن ما دام القرآن الكريم يُقرأ ويعيش المسلمون في تأمل آياته البينات، هذه الرحلة القرآنية التربوية ركّزت على ربط الأمة المسلمة المعاصرة بالأمم المؤمنة عبر التاريخ، فكان في ماضي كل أمة من تلك الأمم درس وعبرة ومثل للأمة المسلمة.
يحكي القرآن الكريم عن الذين آمنوا من بني إسرائيل في زمن طالوت ثم يعقّب بقوله تعالى على لسان المؤمنين منهم: (كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّٰبِرِينَ) البقرة249، ألا تنطبق تلك الآية الكريمة على المسلمين في غزوة بدر؟
وهكذا ربط الله تعالى بين ماضي الأمم المؤمنة قبل بعثة الرسول الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وبين حاضر ومستقبل الأمة المسلمة، ومع ذلك لفت القرآن الكريم نظر المؤمنين أن عبرة النظر في التاريخ تتحقق باستلهام القيم الإيمانية والأخلاق الرفيعة ومواقف الثبات النبوي والإيماني على العقيدة والاستمساك بالحق والذود عنه والتضحية في سبيله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، دون أن تتكرر أحداث التاريخ بتفاصيلها ودقائقها، فالذي يتكرّر في التاريخ ليس حوادثه وإنما عبره ودروسه، ولذا صح أن نقول إن دروس وعبر وقيم التاريخ تعيد نفسها، لا “إن التاريخ يعيد نفسه!”
من هنا يأتي أهمية قوله تعالى (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ ۖ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ۖ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)
ففي التفسير قال بن كثير: “إن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيرا يعود نفعه عليكم، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم: (ولا تسألون عما كانوا يعملون)”. إننا هنا أمام حقيقة قرآنية تمايز بين كل أمة مؤمنة أو بين كل جيل مؤمن وبين الجيل الذي يليه من حيث الظروف والملابسات والأحداث، فيراعي كل جيل متغيرات الأزمان والأماكن والظروف واختلاف الأقوام وتطور العلوم وتقدم التقنيات وغيرها من المتغيرات التي تدعو كل جيل مؤمن أن يجتهد لعصره ومستقبله، لا أن يجمد على اجتهاد السلف وعطائه.
الواقع إنني قد نشرت عشرات المقالات والدراسات والمقاربات في السيرة النبوية المطهرة، ثم تساءلت بعد حين: هل هذه دعوة للعيش في الماضي حيث معية سيدنا رسول الله وجيل الصحابة الأفذاذ؟
والإجابة قطعا هي لا. نحن نتأسى بمبادئ وسمات وقيم وأخلاق نغتنمها اغتناما من سيرة سيدنا رسول الله ومواقفه مع صحابته وخصومه ومناوئيه، دون أن يخطر في بالنا مجرد خاطر أن الحوادث المادية التي حدثت في زمن رسول الله صلى الله عليه ستتكرر بحذافيرها. إننا نأخذ من قصة بلال صموده وثباته دون أن نُخرج إلى بطحاء مكة ودون أن يوضع الحجر الملتهب على صدورنا العارية!
في هذا السياق للدعوة إلى المعاصرة ومراعاة الواقع والمتغيرات فما أعظم قوله صلى الله عليه وسلم: “لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية”. فالهجرة بعد الفتح لا معنى لها وإنما ظل المعنى الدائم منها وهو الجهاد والنية.
دائما يحيلني صديقي – وهو بالمناسبة ليس من المؤثرين على توجيه الفكر العام أي أنه مستهلك للثقافة وليس منتجا لها ولكنه مع ذلك عاشق للتاريخ مستغرق فيه يقرؤه بنهم ويدرسه بشغف- أمام أي سؤال عن مستقبل النهضة، إلى مواقف من التاريخ أو التراث، لكم تمنيت أن يحيلني وهو القارئ النهم إلى كتاب جديد في علم السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع لكنه لا يفعل، وهنا أدركت وجها من وجوه الخلل في ثقافتنا العامة، أننا نخلط بين حوادث التاريخ وبين قيمه، متى ندرك أننا نأخذ من التاريخ قيمه ومن العلوم الحديثة تطورها وتراكمها والتقنيات التي ينتجها تطور العلم؟
إن أخشى ما أخشاه أن يتصدى لتوجيه الفكر العام والثقافة أحد اثنين، الأول ناقل للعلوم الحديثة معتمدا على ماديتها الساحقة مفرّغة من قيمها الحاكمة، أو مستسلما لمنطلقات فلسفية في الحياة تتناقض كل التناقض مع قيمنا الأساسية الحاكمة لفلسفتنا في الحياة. أو غارق في التاريخ لا يكاد يرفع عينيه عن كتب التراث ليرى تطور العالم من حوله، الأول ينقل لنا العلم بلا قيم ولا روح ولا مبادئ موجهة وحاكمة، والثاني ينقل لنا القيم مجرّدة بلا مزج مع العلوم الإنسانية والتطبيقية الحديثة، وكلاهما سبب تيهنا الفكري وتشويشنا الثقافي وتخلفنا الحضاري.
والخلاصة أن الأمة المسلمة المعاصرة مرتبطة قلبيا وإيمانيا بالذين خلوا من قبلهم من الأجيال السابقة التي أبلت بلاء حسنا في الإسلام واجتهدوا له ما وسعهم، بل هي أمة مرتبطة وجدانيا وإيمانيا بالأمم السابقة من أتباع الأنبياء والرسل من لدن آدم عليه السلام إلى سيدنا رسول الله، والأمة مطالبة قرآنا وسنة باتباع هدي المؤمنين السابقين في عقيدتهم وحسن عبادتهم والمبادئ التي رسخوها بالعمل والقيم التي مارسوا الحياة في ضوئها ومكارم الأخلاق التي ورّثوها للأجيال التالية، دون أن نغرق في العيش في الماضي أو البحث عن إجابات أسئلتنا المعيشية اليومية في كتب التراث، إن إجابات حياتنا اليومية نجدها في ضوء اجتهادنا لحياتنا المعاصرة، لن يجد الميكانيكي إجابة لأعطال السيارة في كتب التراث، ولن يجد الطبيب المعاصر دواء لداء حديث الاكتشاف في تلك الكتب، وكذلك السياسي والاقتصادي، ولكنهم يجدون فيها الحث على الصدق والأمانة وإتقان العمل وطلب العلم، وهي مبادئ أساسية راسخة لا بد منها دون التفريط في العلوم المعاصرة والاجتهاد للواقع المعاصر.
إن إحدى مآسي العصر أن تجد متصديا للسياسة أو الاقتصاد أو الإصلاح الاجتماعي كل عدته كتب التراث واجتهادات أهل التراث وتصورات السلف. دون تحديث علومه ومعاصرتها في زمن تتحدّث فيه المفاهيم والعلوم كل يوم.
تلك دعوة لعيش عصرنا وترك الانغماس في الماضي.