علاء سعد حميده يكتب: مراحل التدين من الطفولة إلى النضج!
في واقعنا المعاصر نعيش في مجتمعات غير معنية –مؤسسيا- بتعليم الدين منهجا وقيما وسلوكا وطريقة تعايش بين منهج الدين ووقائع الحياة.
هذا الرصد الواقعي ليس تجنيا ولا حتى اتهاما، فمنذ نشأت ثنائية التعليم بين ديني (أزهري)، و(عام) في مصر –في عهد محمد علي- ومنها انتقلت إلى أغلب مؤسسات التعليم في الوطن العربي. وكانت الكثرة الغالبة عدديا ونوعيا تميل بكل ثقلها نحو التعليم (العام)، حتى أصبح تعليم الدين بشكل متخصص حصريا على الأزهر والمؤسسات الدينية في العالم العربي، وتشير الإحصائيات إلى أن نسبة خريجي الأزهر في مصر من المجتمع تمثل نحو 12%، هؤلاء الأزهريون أنفسهم ينقسمون إلى خريجي كليات علمية (طب وصيدلة وهندسة وإعلام وتجارة ولغات وعلوم وتربية ونظم معلومات وغيرها) وكليات تعني بالعلوم الشرعية المتخصصة.
بينما يعاني تدريس الدين في التعليم العام من مجموعة من العوامل السلبية أدت إلى تهميش الاهتمام به أبرزها:
1 – عدم احتساب مادة الدين داخل المجموع الكلي لطلاب هذا النوع من التعليم، مما جعله مادة ثانوية لا تستحوذ على اهتمام الطالب وأسرته.
2 – تداعي منظومة المدارس النظامية بشكل كبير واعتماد أغلب تلاميذ التعليم العام على الدروس الخصوصية، مع غياب مادة الدين للسبب السابق.
3 – عدم الاهتمام بإعداد وتدريب مدرس الدين نفسه في مدارس التعليم العام والاكتفاء بكونه في الأصل مدرسا للغة العربية.
4 – خلو المرحلة الجامعية من أي مادة دراسية تعني بالقيم الدينية التي يحتاجها المجتمع.
كل ما سبق يفرز إشكالية حقيقية تواجه المجتمع، فالدين الإسلامي منهج حياة، فهو غير مقتصر على مجموعة من الشعائر والطقوس تؤدى داخل دور العبادة، وإنما شرّع الإسلام كل ما يتعلق بحياة الفرد والمجتمع وكذلك علاقات المجتمع بالمجتمعات الأخرى، ومن هذه التشريعات ما هو كلي عام يقبل الاجتهاد وفق الضوابط، ومنه ما هو تفصيلي محدد الإجراءات.
كما أن المجتمع العربي في عمومه أُسس على الدين، ولذلك يظل ارتباط المجتمع بالدين والتدين أمرا حتميا يسيطر على عقول ومشاعر الكثرة الغالبة من أبناء المجتمع، وسواء كان الفرد عالما، أو جاهلا، بتفاصيل الدين، وسواء كان غافلا لاهيا، أم منتبها واعيا، أو كان معرضا مشاكسا، أو ملتزما متدينا، فإن العقيدة والفكرة والمشاعر الدينية تظل تسيطر عليه وتوجهه، وتشكل ملامح شخصيته. فمنذ سنوات كانوا يتندرون على شعوب المجتمعات العربية بكونها شعوبا متدينة بطبعها، رغم اقترافها لكثير مما ينهي عنه الدين! والحقيقة الدامغة أن الشعوب العربية متدينة بطبعها -على أقل تقدير في صياغة الشخصية- وكل تجاوز عن نواهي الدين يمارسه السواد الأعظم من هؤلاء المتجاوزين يرجعونه هم أنفسهم إلى الظروف الضاغطة، ويحسون نحوه بالتململ، ويطلبون له توبة اغتنمها من اغتنمها وسوّف فيها من سوّف.
من طبيعة الإسلام ومن طبيعة المجتمعات المسلمة مع تهميش دور التعليم المؤسسي للدين نشأت في المجتمعات المسلمة هذه الفجوة. فجوة جعلت من أمر التدين الشخصي مبني في الأساس على معارف وتجارب الأفراد بعيدا عن المؤسسات والمؤسساتية، وكما تتطور حياة الإنسان الطبيعية عبر مراحل متعددة يتعرف فيها على العالم والعلوم من حوله، فإن اعتناق الأفكار الجديدة على حياة الناس يمر بنفس المراحل تقريبا، وكذلك علاقة الفرد مع الدين، ما هي الأساسيات الدينية التي يحصل عليها الطفل المسلم بشكل مؤسسي –عبر مؤسسة الأسرة والمسجد والعائلة ومرحلة التعليم المبكر-؟ بإجابة هذا السؤال بمصداقية سنجد أنفسنا أمام شباب بلغوا تلك المرحلة وكل معلوماتهم عن الإسلام تنحصر في الإيمان بالتوحيد واليوم الآخر ورسالة الأنبياء وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، وبعض العبادات التي يدرج المسلم وهو يرى المجتمع في مجموعه يمارسها من صلاة وصوم وحج، وتوجيه عام باجتناب الكبائر. أما ممارسة الحياة بتوجيه الدين الأمر الذي يشيعه القرآن الكريم سواء بالحث على حسن الخلق، أو ضوابط العلاقات الشخصية داخل الأسرة، أو الضوابط الاجتماعية وآداب الإستئذان وآداب اللباس وآداب الزينة، وآداب النظر، والضيافة، وآداب المعاملات في المال والتجارة، وآداب الحديث وغض الصوت، وتعاليم وشرائع تؤسس للمجتمع والسلطة، وتبني قيم كالعدل والأمانة والموضوعية والشورى والمساواة والتعارف والتعايش والتدافع… إن قارئ القرآن الكريم يجد نفسه أمام كتاب مفتوح للحياة الدنيا وليس كتاب مقصور على الحياة الأخرى بعد الموت.
إن كل قارئ جديد للقرآن الكريم اقتصرت ثقافته القرآنية سابقا على قصارى السور التي تؤصل لعقيدة التوحيد وتؤسس لبعض الأخلاق، سيجد نفسه طفلا صغيرا عاجزا أمام عظمة وشمول وحيوية وإحاطة هذا الكتاب المعجز الخالد، مهما بلغت ثقافته العامة ومؤهلاته الأكاديمية. وهذا القارئ الجديد للقرآن الكريم سيجد نفسه أمام مرحلة اكتشاف جديدة للقرآن الكريم وحقائقه ومعها مرحلة استكشاف جديدة للإسلام ذاته، سيجد نفسه في كل ذلك فردا ودون عمل مؤسسي يدعمه في استكشافه هذا، وسيكون طفلا أمام هذه الاكتشافات المذهلة، سيمارس تدينه الجديد بالتجربة التي ينتج عنها الصواب والخطأ. ومن الجائز أنه يلجأ إلى أئمة المساجد ليسألهم عن بعض تفاصيل ودقائق اكتشافاته تلك، لكن ذلك لن يكون متاحا أمامه في كل تصرف من تصرفات حياته اليومية، فسيخطئ ويحبو ويقف ويتخبط ويقع، ويتعلثم، ويجرب، ثم سينتقل إلى مرحلة أخرى هي مرحلة المراهقة الفكرية _مراهقة التدين- أيا كان عمره الزمني، وسيرى لونين فقط خلال هذه المرحلة، إما أبيض طوبوي وإما أسود جهنمي، وذلك لطبيعة مرحلة استكشاف الدين التي يمر بها، وليس لطبيعة الدين نفسه، ثم سيصل أخيرا إلى مرحلة نضج التدين حين يلم بفلسفة الدين ومنهجيته ودوره في البناء الحضاري العام.
مظاهر التدين الطفولي والتدين المراهق قبل النضج ينتج عنها كثير جدا من التجارب الصادمة اجتماعيا، وعندما أراجع بعض مواقفي الشخصية في مرحلتي الطفولة والمراهقة على طريق التدين واستكشاف الدين، أجد ما ما يخجلني كثيرا، وما يصلح في عالم اليوم أن يتصدر “الترند” بامتياز وجدارة. ولا تخلو مذكرات ملتزم بالدين الشخصية في مرحلة البدايات من مفارقات تفوق تجربة المندوب وغيره. لكننا تجاوزناها واعترفنا بقصور تجربتنا وحداثة معارفنا يومئذ، وعلى المجتمع أن يرشّد هذه الظواهر بردة الفعل الحكيمة العاقلة، أما ردة الفعل التي تنتج في مقابل مراحل إعادة استكشاف الإسلام، من فئات تعاني أساسا من الطفولة والمراهقة الفكرية في محاولة استكشاف أفكار أخرى إلحادية أو علمانية، فإنها أيضا تؤدي إلى صدمات وصدامات مجتمعية، ففي الوقت الذي ينكر فيه هؤلاء الأطفال والمراهقون إلحاديا أو علمانيا مبدأ قرآني عظيم هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (بضوابطه) باعتباره أداة وركيزة من ركائز الضبط الاجتماعي لقيم المجتمع، نجدهم يمارسون وبمنتهي السلطوية والأستاذية والاستعلاء مبدأ الإنكار والاستنكار على المتدينين الجدد ولو كانوا أطفالا على طريق استكشاف دينهم!