علاء سعد حميده يكتب: نبضة حية من زمن الصحابة!
هكذا الأمة المسلمة آخرها متصل بأولها، وإن أصغر وحدة فيها وهي الإنسان المنفرد البسيط المتجرد من كل أسباب السلمان والصولجان يحمل عمقها الحيوي الاستراتيجي ونواتها الصلبة عم ربيع المصري بائع برتقال يفترش بفاكهته زاوية الشارع. لا يملك حتى حانوتا يمثل أصغر وحدة من وحدات عمل تجاري بسيط ومتواضع وبالتالي لا يملك إلا قوت يومه وعياله أولا بأول بالقدر الذي يكتبه له الرزاق يوما بيوم. لكنه يملك في القلب إيمانا يتوجه ملكا على ربوع الأمة بأسرها. إنسانية الإنسان في صورتها الحقيقية.
فإذا عدنا بالذاكرة إلى مشهد خالد من مشاهد أمتنا المجيدة في أوان النشأة والانطلاق، وفي لحظة من أشد لحظاتها حرجا ودقة وخطرا بالغا، في حال تحرك جيش الإمبراطورية الرومانية قاطعا الفيفي لاقتلاع مدينة سيدنا رسول الله بؤرة النور في هذه الأرض، فيسبقه تجهز جيش رسول الله وتحركه إلى تبوك في الشمال حيث تبعد عن مدينته نحو ثمانمائة كيلو مترات. كانت أشد اللحظات خطرا في تاريخ الأمة الناشئة عبر عنها القرآن الكريم بساعة العسرة،
(لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)
التوبة117،
أبو عقيل
وندب سيدنا النبي الصحابة الكرام لتجهيز الجيش الذي بلغ قوامه ثلاثين ألف مقاتل. فجاء عمر رضي الله عنه بشطر ماله، وجاء الصديق أبو بكر بماله كله تاركا لعياله الله ورسوله، وجاء ذو النورين عثمان بن عفان بأربعمائة من الإبل بجهازها كله، وجاء المسلمون بما قدروا عليه من مال ومتاع وسلاح، وجاء أبو عقيل أخو بني أنيف الإراشي حليف بني عمرو بن عوف، بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغني عن صاع أبي عقيل. فأنزل الله تعالى قرآنا: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ ۙ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) التوبة79
قال أبو عقيل: بت أجر الجرير على ظهري، على صاعين من تمر، فانقلبت بأحدهما إلى أهلي يتبلغون به، وجئت بالآخر أتقرب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة.
وأما علبة بن زيد
فخرج من الليل فصلى من ليلته ما شاء الله، ثم بكى، وقال: اللهم إنك قد أمرت بالجهاد، ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تجعل في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحملني عليه، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في مال أو جسد أو عرض، ثم أصبح مع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين المتصدق هذه الليلة؟ فلم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق؟ فليقم، فقام إليه فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كُتِبَت في الزكاة المتقبلة”.
هكذا ينتصر جيش المسلمين بالقلوب المؤمنة الموقنة بنصر الله قبل أن ينتصر بالعدة والعتاد. بصاع تمر ينثره رجل بسيط فوق تلال الصدقات لتصيب تلك التلال البركة، بركة الإخلاص والتجرد ويطوف حول تلال الصدقات دعاء السحر ودموع الذين تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون. وإن غزة الصمود تعيش الآن في أشد ساعات العسرة سوادا وحلكة. وعم ربيع المصري لا يجد إلا ثمرات من البرتقال ينثرها فوق صدقات شعب مصر، هو في الأساس شعب معوز اقتصاديا مسه ووطنه الضر الاقتصادي الشديد. تمر به الشاحنات محملة بأطنان من الاحتياجات الإنسانية لسد أقل القليل من احتياجات إخوانهم في الإسلام والعروبة والإنسانية. ماذا ستجدي بضع ثمار من البرتقال ينثرها عم ربيع المصري؟
في عالم المادة قد لا تساوي شيئا. لكنها في عالم الإيمان واليقين وميزان النصير الوكيل قد تساوي كل شيء. لقد حمل عم ربيع قلبه من بين ضلوعه ومعه قلوب شعبنا المؤمن البسيط، فنثره مع دعوات السحر فوق الصدقات. وليبشر عم ربيع المصري ولتبشر معه الأمة. أبشري غزة فإن نصر الله حقيق أن يتنزل قريبا بعد طول المحنة والمعاناة بقدر هذا الصمود الأسطوري، والثبات الملهم على الأرض، ويقين عم ربيع المذهل، والملايين من أمثاله من فصيلة الإنسان الحقيقي في ربوع العالم.