صدر عن دار صفصافة للنشر كتاب “علم الآثار السياسي والنزعة القومية المقدسة” من تأليف الباحث الأمريكي تيري أوستينغارد، بترجمة محمود الصباغ، ليضع بين أيدينا دراسة معمقة عن العلاقة الشائكة بين الآثار والتاريخ والسياسة في قلب الصراع العربي–الإسرائيلي. الكتاب ليس مجرد عرض للتاريخ أو قراءة أكاديمية في علم الآثار، بل هو تفكيك لكيفية توظيف الماضي والرموز المادية في صناعة الهوية القومية، وتبرير الاستيطان، وإضفاء شرعية زائفة على الاحتلال.
مضمون الكتاب
يتناول المؤلف الفترة الممتدة من 1967 إلى 2000، أي منذ احتلال القدس الشرقية والضفة الغربية، وحتى مطلع القرن الحادي والعشرين، وهي مرحلة شهدت تحولات جوهرية في الصراع على الأرض والهوية. ويركز الكتاب على:
1- تسييس الآثار: كيف تحوّل علم الآثار في فلسطين وإسرائيل إلى أداة سياسية، حيث لم يعد البحث في الطبقات التاريخية بحثًا علميًا بريئًا، بل صار موجّهًا لتثبيت “رواية قومية” بعينها.
2- المعارك الأثرية: النزاع على المكتشفات الأثرية مثل المخطوطات، والنقوش، واللقى التاريخية، وكيف يُعاد تأويلها دائمًا بما يخدم فكرة “الوطن القومي اليهودي”.
3- الأرض والذاكرة: الصراع ليس فقط على الحاضر والمستقبل، بل أيضًا على الماضي. فالآثار صارت سلاحًا ثقافيًا، حيث يُعاد تشكيل الجغرافيا والتاريخ ليبدو كأن له “جذور يهودية حصرية”، في مقابل طمس أو تهميش الوجود العربي والإسلامي.
4- الهوية والدين: الربط بين القومية الإسرائيلية والدين اليهودي في قراءة الآثار، وتقديمها بوصفها “أدلة مقدسة” على شرعية الوجود، بما يعكس النزعة التوراتية المهيمنة على السياسة الإسرائيلية.
5- المقاومة الثقافية الفلسطينية: يخصص المؤلف جانبًا مهمًا لتوثيق كيف قاوم الفلسطينيون هذا السطو الثقافي عبر مؤسساتهم البحثية والأكاديمية، وكيف حافظوا على سرديتهم التاريخية رغم محاولات الطمس والإقصاء.
البعد السياسي والثقافي
الكتاب يفتح النقاش حول خطورة استخدام العلم في خدمة الأيديولوجيا، فحين يُختطف علم الآثار من مساره العلمي الموضوعي ليصبح أداة سياسية، يتحول إلى سلاح لا يقل فتكًا عن البندقية. وهنا يربط المؤلف بين النزعة القومية الإسرائيلية ومشاريع الاستيطان، مبينًا أن المستوطنة تبدأ أحيانًا من متحف قبل أن تُبنى على أرض الواقع.
كما يوضح أن ما يحدث في فلسطين ليس حالة منفردة، بل مثال صارخ على توظيف الماضي لصناعة هوية قومية حصرية، وهو ما عرفته شعوب عدة، لكن في الحالة الصهيونية جاء التوظيف مكثفًا، ممزوجًا بالأسطورة الدينية، ومسنودًا بالقوة العسكرية.
أهمية الكتاب للقارئ العربي
هذا العمل يقدم مادة غنية للباحثين والمهتمين بالصراع العربي–الإسرائيلي، حيث يكشف عن وجه آخر من وجوه الاحتلال: وجه الهيمنة على الثقافة والذاكرة والتاريخ. فالاحتلال لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسعى أيضًا إلى إعادة كتابة الماضي بما يخدم مشروعه المستقبلي.
كما يضع الكتاب بين أيدينا دروسًا حول المقاومة الثقافية، وكيف أن الدفاع عن الذاكرة والتراث لا يقل أهمية عن الدفاع المسلح، إذ إن الوعي بالتاريخ هو خط الدفاع الأول ضد محاولات التزييف.
يمكن النظر إلى هذا الكتاب باعتباره جرس إنذار، يذكر القارئ بأن المعارك الفكرية والثقافية لا تقل خطورة عن الحروب العسكرية. وأن الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية في فلسطين يبدأ من الوعي بحقائق التاريخ، وعدم تركها رهينة لتفسيرات مغرضة.