حين نقرأ كتاباً في النحو أو الصرف، نجد أنفسنا أمام لغة مكتوبة، محكومة بالعلامات والرموز
لكن في كتاب «علم الأصوات اللغوية – الفونتيكا»، نحن أمام اللغة وهي حيّة تنبض في الحنجرة والفم والأنف والشفتين.
المؤلف يذكّرنا أن الكلمة تبدأ قبل الحرف، وأن الصوت هو الأصل:
«الصوت هو الصورة الأولى للغة، والكتابة ليست سوى تمثيل ناقص لها.»
بهذا المدخل، يفتح الدكتور عصام نور الدين بوابة علم الأصوات، فيعيد ترتيب العلاقة بين اللغة والإنسان، مؤكداً أن الكلام ليس ترفاً، بل هو جوهر الهوية.
كيف يُصنع الصوت؟
يتوقف المؤلف مطولاً عند اللحظة الأولى التي يولد فيها الصوت: الزفير الخارج من الرئتين. ومن هناك تبدأ الرحلة:
في الحنجرة تهتز الأوتار الصوتية، فتُنتج النغمة الأساسية.
في الفم واللسان والشفتين يتشكل الصوت ويتلوّن.
في الأنف تتحدد بعض الأصوات كالـ(م) والـ(ن).
ويقول في أحد المقاطع:
«لا يخرج الصوت العربي اعتباطاً، بل هو حصيلة تنسيق عضوي دقيق بين الرئة والحنجرة والفم. فحين نقول (ق) مثلاً، لا يكفي أن نضغط بأقصى اللسان على الحنك، بل لا بد من أن يصاحب ذلك اهتزاز معين في الحنجرة.»
الأصوات العربية: هوية مميزة
يولي الكتاب مساحة خاصة للأصوات العربية التي ميّزت لغتنا بين اللغات. فالضاد مثلاً، التي اشتهرت بها العربية حتى لُقّبت بـ«لغة الضاد»، لا يوجد لها مقابل دقيق في معظم لغات العالم.
ويكتب المؤلف:
«الضاد العربية ليست صوتاً واحداً فحسب، بل هي علامة على استقلالية العربية في نظامها الصوتي. فهي تجمع بين الإطباق والاستطالة والجهر، وهذه صفات قلّ أن تجتمع في صوت واحد.»
كذلك يفسّر كيف أن أصواتاً مثل العين والحاء تمثل تحدياً لغير الناطقين بالعربية، لأنها تتطلب دقة في المخرج لا تفرضها لغاتهم.
التنغيم والإيقاع: موسيقى الكلام
اللغة ليست أصواتاً معزولة، بل هي موسيقى كاملة. في هذا الإطار يشرح الدكتور عصام نور الدين دور النبر والتنغيم:
رفع الصوت أو خفضه يمكن أن يغيّر المعنى.
النبر على مقطع معين قد يميّز بين سؤال وخبر.
التوقف والامتداد في النطق يضفي على الكلام حياة خاصة.
ويضرب مثالاً:
كلمة «أنت هنا» يمكن أن تكون استفهاماً أو تأكيداً أو حتى دهشة، بحسب التنغيم الذي يرافقها.
من المختبر إلى الحياة اليومية
ما يميز الكتاب أنه لا يترك علم الأصوات في المختبرات الجامعية، بل يربطه بواقع الحياة:
في الإعلام: المذيع الذي لا يضبط مخارج الحروف يربك جمهوره.
في المسرح: الممثل يحتاج إلى علم الأصوات ليتقن أدواره.
في الطب: أخصائي علاج النطق يستخدم الفونتيكا لفهم عيوب الكلام.
في التكنولوجيا: الذكاء الاصطناعي والتطبيقات الصوتية لا يمكن أن تتطور دون الاعتماد على علم الأصوات.
ويقول المؤلف:
«التواصل الشفوي لا يمكن أن ينجح ما لم يدرك صاحبه أسرار النبر والتنغيم، فالكلمة بلا موسيقى تفقد نصف معناها.»
مقارنة مع تراث العرب
من أجمل ما يقدمه الكتاب أنه يعقد مقارنة بين ما توصّل إليه الغربيون في القرن العشرين، وما كتبه العرب قبل أكثر من ألف عام.
فسيبويه حين تحدّث عن «المجهور والمهموس» سبق اللسانيات الأوروبية في هذا التقسيم. والخليل بن أحمد حين صنّف الأصوات في «كتاب العين» قدّم أول معجم مبني على المخارج.
وهنا يعلّق المؤلف:
«إن ما كتبه سيبويه وابن جني لا يقل قيمة عن أي دراسة صوتية حديثة. بل إن بعض المصطلحات الغربية يمكن أن تُترجم مباشرة إلى ما وضعه الأوائل.»
المؤلف: بين البحث والتبسيط
الدكتور عصام نور الدين من الأصوات الأكاديمية التي جمعت بين البحث والتبسيط. لم يكتب للمتخصصين فقط، بل فتح الباب للقارئ العام. فكتابه مكتوب بلغة علمية رصينة، لكنها واضحة، مدعومة بالرسوم والأمثلة.
لماذا نقرأ هذا الكتاب اليوم؟
في زمن العولمة، تتعرض لغتنا العربية لضغوط هائلة، ليس فقط في المعجم والدلالة، بل في النطق أيضاً. نسمع اليوم «القاف» تتحول إلى «ألف»، و«الثاء» إلى «سين»، و«الظاء» إلى «زاي».
من هنا، تأتي قيمة هذا الكتاب: إنه دعوة للعودة إلى الجذور الصوتية للغة، وإلى إعادة الاعتبار لمخارجها وصفاتها.
«إن حماية العربية لا تكون في معاجمها وحدها، بل تبدأ من ألسنة أبنائها.» – كما يكتب المؤلف.
مقارنات بكتب أخرى
في المكتبة العربية، يلتقي هذا الكتاب مع أعمال رائدة مثل:
«الأصوات اللغوية» لإبراهيم أنيس.
«مقدمة في علم الأصوات» لكمال بشر.
«سر صناعة الإعراب» لابن جني (تراثياً).
لكن كتاب الدكتور عصام نور الدين يختلف في أنه مزيج بين النظرية والتطبيق، ويميل إلى جعل القارئ يشارك بصرياً وسمعياً عبر الرسوم والأمثلة.
الصوت هوية الأمة
في النهاية، الكتاب ليس درساً في اللسانيات فحسب، بل هو بيان ثقافي:
أن الأمة التي تفقد دقة نطقها تفقد شيئاً من هويتها. وأن العربية، بما تحمله من ثراء صوتي، قادرة على الصمود، إذا ما وعى أبناؤها قيمة هذه الأصوات.