الأمة الثقافية

“على هذهِ كانتْ تَدورُ النّوائِّبُ”.. شعر: ديك الجن

على هذهِ كانتْ تَدورُ النّوائِّبُ

وفي كُلِّ جَمْعٍ للذَّهَابِ مَذَاهِبُ

نَزَلْنَا على حُكْمِ الزَّمانِ وأَمرِهِ

وهل يَقْبَلُ النَّصْفَ الألَدُّ المُشَاغِبُ

وتَضحكُ سِنُّ المرْءِ والقلبُ مُوجَعٌ

ويرضى الفَتَى عن دَهْرِهِ وهوَ عاتِبُ

أَلاَ أَيُّها الرُّكْبانُ والرَّدُ واجبٌ

قِفُوا حَدِّثُونا ما تَقُولُ النّوادِبُ

إلى أَيِّ فِتْيانِ النّدى قَصَدَ الرَّدى

وأَيُّهُمُ نابَتْ حِمَاهُ النّوائِبُ

فيَا لأَبي العَبّاسِ كَمْ رُدَّ راغبٌ

لِفَقْدِكَ مَلهوفاً وكَمْ جُبَّ غَارِبُ

ويا لأَبي العَبّاسِ إِنَّ مَنَاكِباً

تَنُوءُ بِمَا حَمّلْتَها لَنَواكِبُ

فَيَا قَبْرَهُ جُدْ كُلَّ قَبْرٍ بِجُودِهِ

فَفيكَ سَمَاءٌ ثَرَّةٌ وسَحَائِبُ

فإنّكَ لَوْ تَدْرِي بِما فِيكَ مِنْ عُلاً

عَلَوْتَ وباتَتْ في ذُرَاكَ الكَواكِبُ

أَخاً كُنتُ أَبكيهِ دَماً وهوَ نائمٌ

حَذَاراً وتَعْمَى مُقْلَتي وهوَ غائِبُ

فَماتَ ولا صَبْري على الأَجْرِ واقِفٌ

ولا أنا في عُمْرٍ إلى اللّهِ راغِبُ

أَأَسعى لأَحْظَى فيكَ بالأَجْرِ إنّهُ

لَسَعْيٌ إِذَنْ مِنِّيْ لَدَى اللّهِ خَائِبُ

ومَا الإِثْمُ إِلاَّ الصَّبْرُ عَنْكَ وإنّما

عَواقِبُ حَمْدٍ أَنْ تُذَمَّ العَواقِبُ

يقولونَ مِقْدَارٌ على المَرْءِ وَاجِبٌ

فقلتُ وإِعْوالٌ على المرءِ واجِبُ

هُوَ القَلْبُ لَمّا حُمَّ يَوْمُ ابنِ أُمِّهِ

وَهَى جانِبٌ مِنْهُ وأُسْقِمَ جانِبُ

تَرَشّفْتُ أَيّامِيْ وَهُنَّ كَوالِحٌ

عليك وغَالبْتُ الرَّدى وهوَ غالِب

ودَافَعْتُ في صَدْرِ الزَّمَانِ ونَحْرِهِ

وأَيُّ يَدٍ لي والزَّمانُ مُحَارِبُ

وقلتُ لهُ خَلِّ الجَوادَ لِقَومِهِ

وهَا أَنَذا فَازْدَدْ فإنّا عَصَائِبُ

فَوَاللّهِ إِخْلاصاً مِنَ القَولِ صَادقاً

وإلاَّ فَحُبِّي آلَ أَحْمَدَ كاذِبُ

لَوَ انَّ يَدِي كانَتْ شِفَاءَكَ أَوْ دَمِي

دَمَ القَلْبِ حتى يَقْضِبَ القَلْبَ قاضِبُ

لَسَلّمْتُ تَسْليمَ الرِّضَا وتَخِذْتُها

يَداً للرَّدَى ما حَجَّ لِلّهِ راكِبُ

فَتىً كانَ مِثْلَ السّيْفِ مِنْ حَيْثُ جئتَهُ

لنائبةٍ نابَتْكَ فهوَ مُضَارِبُ

فَتىً هَمُّهُ حَمْدٌ على الدَّهْرِ رابِحٌ

وإِنْ غابَ عنهُ مالُهُ فهَوَ عازِبُ

شَمَائِلُ إِنْ يَشْهَدْ فَهُنَّ مَشَاهِدٌ

عِظَامٌ وإِنْ يَرْحَلْ فَهُنَّ كَتَائِبُ

بَكَاكَ أَخٌ لَمْ تَحْوِهِ بَقَرابَةٍ

بَلى إِنَّ إِخْوانَ الصَّفاءِ أَقاربُ

وأَظْلَمَتِ الدُّنْيا التي كُنْتَ جَارَهَا

كَأنّكَ للِدُّنْيا أَخٌ ومُنَاسِبُ

يُبَرِّدُ نِيرانَ المَصَائِبِ أَنّني

أَرى زَمَناً لَمْ تَبْقَ فيهِ مَصَائِبُ

—————————————————-

ديك الجن واسمه عبد السلام بن رغبان بن عبد السلام بن حبيب بن عبد الله بن رغبان بن مزيد بن تميم الكلبي الحمصي

شاعر عربي عباسي، مولود في العام 161 هـ، في مدينة حمص، وتوفي في عام 236 هـ.

ولد ديك الجن بمدينة حمص على نهر العاصي وفي واحد من أحيائها القديمة الذي يسمى اليوم (باب الدُريب)

لُقّب بديك الجن بسبب لون عينيه الأخضر وعاش في حمص حياته الحافلة التي امتدت قرابة خمسة وسبعين عاماً.

 تميّزت حياته بمراحلٍ ثلاث، حيث عاش ديك الجن في طفولته حياة عادية، لم يأبه بها أحد، ولم يكن ثمة ما يميزه عن أترابه، كما أن كتب التراث لا تذكر شيئاً عن طفولته. لقد أصاب هذه الطفولة من النسيان والتجاهل ما يصيب طفولة معظم المبدعين الذين لا يُلتفت إليهم إلا بعد ظهور مواهبهم وتأكُّدها.

ولقد انصبّ اهتمام ديك الجن على اللغة والأدب والتاريخ، وكان له منها مكوّناتٌ ثقافية ممتازة، ظهرت بوضوح في شعره. فوعيه لعلوم اللغة جعله مالكاً لناصيتها، قادراً على التصرّف بها، واستيعاب مفرداتها، وتوظيف دلالاتها المعنوية لإبراز أفكاره ومعانيه، مع سلامة من اللحن، وقدرة على ترتيب المفردات في أنساق لغوية سليمة، تجري على سنن العرب.

كما قرأ ما وصل إلى عصره من آداب العرب السالفين، ووقف طويلاً عند الشعر الجاهلي عامّة، وشعر الصعاليك خاصة.

وقد أعجب بالصعاليك وفلسفتهم القائِمة على التمرّد والرفض، بل لقد فاق صعاليك الجاهلية في تمرّده ورفضه، فرأى فيهم أطفالاً رُضّعا إذا ما قيسوا به.

فهو القائل يصف نفسه:

وَخَوْضُ ليلٍ تخافُ الجِنُّ لُجَّتَهُ

ويَنْطوي جيشُها عن جيشه اللَّجِبِ

ما الشَنْفَرَى وسُلَيْكٌ في مُغَيَّبَةٍ

إلا رَضِيـعا لَبـانٍ في حِمىً أَشِبِ

لقد عاش ديك الجن قمة الثقافة والازدهار الحضاري في العصر العباسي، وكان على الشاعر أن يكون مثقفاً، مُلِمّاً بفنون عصره وعلومه، ليتمكن من السير في زحمة حركات الإبداع والتجديد، وقد استطاع أن يكون واحداً من شعراء عصره المثقّفين المبدعين والمجدّدين، ورغم ذلك له أشعار ماجنة

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى