عندما يفتعل لصاً محترفاً ضجيجاً ما في مكانٍ ما.. فليس بالضرورة أن ثمة ضجيج يسترعي الانتباه بما هو ظاهر.. او أن نقرأ حيثيات ضجيجه بشواهده المكذوبة.. أو كما أُريد لنا قراءته بما يتناسب مع توجهات مَنْ يقفون خلف الكالوس، عندها فقط نغدو كالصبي الذي تستهويه عناوين النص ويتلعثم حال تفسيره.. المهارة ليست في التقاط الظاهرة السياسية وتناولها فقط.. بل البعد عن تسطيح التلقي والوقوف على حَرّفية النص السياسي.. ان استحضار الصحيح والمتواتر مقدمةٍ ملزمةٍ لقراءةٍ موضوعيةٍ سديدة، وان الوقوف على حَرّفية النص السياسي الإعلامي “المسلوخ من سياقاته” ينتج عنه مُخْرَج أعجف لا يُغني أصحاب الأفهام التي تجاوزت مهارة التعلُم لديهم عملية الحساب العددية إلى هندسة الرقم وتفعيل إعمال العقل مع الذاكرة.
المشهد مكرور بغالب تفاصيله وعناوينه.
المشهد السياسي الراهن الذي نعيشه الان عبر وسائل الاعلام التي تسلط الضوء على الأزمة “الأميركية الايرانية الإسرائيلية”.. هذا المشهد مكرور بغالب تفاصيله إن لم يكن جلها.. والعناوين الأبرز منه الملف النووي وعملية تخصيب اليورانيوم، بالعودة للوراء وبالتحديد في نهاية العام 2011 حيث الموجة الإعلامية العالمية العاتية التي ضخمت القدرات العسكرية لإيران.. بتصريحات أفزعت الدنيا باختلاق سرديات كان منها أن إيران تخطط لضرب القاعدة العسكرية الأميركية على الأراضي الألمانية.. وقتئذ قرر وزير خارجية بريطانيا وليم هاجو السابق إثر الهجوم على السفارة البريطانية في إيران سحب دبلوماسية من طهران.. وإعطاء مهلة أقصاها 48 ساعة في المقابل لرحيل طاقم السفارة الإيرانية من العاصمة لندن،
ولم يقف الوضع عند بريطانيا.. بل وجهت كلاً من المانيا وهولندا وإيطاليا وفرنسا نداءً للعاملين بسفاراتهم بالعودة “ووقف التمثيل الدبلوماسي”، وكان استنفار النص السياسي الإقليمي المُعلن يوحي بحرب لامحالة منها! على الرغم من ان الأسباب التي اشتغل عليها ساسة الغرب كانت تقترب في التماثل مع أسباب حرب الغرب على العراق.. إلا انها انتهت مع إيران حنجوريه كما بدأت 2011.. وفضيحة إيران جيت وصفقات السلاح.. وتصريح رئيس الولايات المتحدة الأميركية السابق “رونالد ريجان” أن العداوة مع العرب لا تنفع ولا تضر لكنها تضر مع إيران.. هذا التصريح هو ضمير وكُنه العلاقة الأميركية الإيرانية لرئيس وممثل سابق لم يكن يحترف الخبث السياسي.
في المقابل لم تقف إيران دون شو إعلامي من التصريحات التي تطفي منطقية الحرب الكلامية.. فقد ملئت تصريحات الرئيس الإيراني آنذاك “أحمد نجاتي” أرجاء الدنيا صارخًا سنأتي بالنفط على موائد الإيرانيين..
ومنادياً مع أتباعه من الدهماء الموت لأميركا.. ولم يعمل نجاتي الرئيس الذي كان يوصف بالمتشدد، ولم تسعى أميركا بخطوات فعلية لخوض الحرب على إيران، كل ما في الامر أن في العام 2011 أن المحافظين الجدد في اواخر ولاية بوش الابن عمد إلى فتح ملف إيران النووي لتوريط الديمقراطيين في إيران.. ليس هذا وكفي “فكل حدث له سرديته ومبررة” فقد كانت أميركا تريد أن تصنع وقتئذ ستارًا سياسيًا إقليميًا لتواري هزيمتها في أفغانستان ومقدمة للانسحاب.. وقد كان.
التداعيات الخفية لصراع الثلاثي أميركا إيران إسرائيل.
من التداعيات الخفية لصراع الثلاثي “أميركا إيران إسرائيل” الراهن تحجيم تطلعات الرئيس الحالي “ترامب” وإفشال مساعيه نحو الداخل بإرهاقه في صراعات خارجية.. والعارف بتوجه الرئيس “ترامب” يعي أنه كان يسعى للتدخل في شؤون المؤسسات الأمنية والمخابراتية بكل مستوياتها لتحجيم حركتها في تتبع الشعب الأميركي وتضييق مساحة صنع القرار على مستوى مجلس الشيوخ والنواب.. حتى انه وقف ضد إجراءات كورونا في فترة ولايته الأولى..
لذا تسعى هذه المؤسسات على إرباك ترامب داخليًا وخارجيًا على المستوى الإقليمي.. كما يتم استغلال هذا الصراع الحالي على مستوياتٍ عدة.. قد تبدو غير مترابطة لدى بعض المتلقين لكنها تُعد من منظور السياسة المعاصرة منطقية بما يلائم برجماتية النتائج.. فصرف الأنظار عن المهلكة التاريخية التي يعيشها الكيان الإسرائيلي في غزة..
وكسب التعاطف مع الكيان وسرق التعاطف غير المسبوق تجاه أهلنا في غزة.. وكذلك خلق حاله من الانتباه الإقليمي لتواري عمالة نظم المنطقة العربية وفي المقدمة منها دول الطوق التي تكشفت عمالتها للكيان الإسرائيلي وأميركا “باستثناء سوريا”، ومحاولة خلق حالة تعاطف بين الداخل الإيراني ونظام طهران الذي يخسر كل يوم ظهيره الشعبي على المستوى ا الداخلي.. نظام طهران بنى ظهيره الشعبي في الداخل ضمن استراتيجية العدو الخارجي..
لقد اكتسبها بدايةً من خلال الحرب العراقية الإيرانية التي كانت محصلتها نصف مليون قتيل إيراني، والتي منحت نظام الملالي نصف قرنٍ إضافيًا للبقاء تحت ذريعة حماية القيم وحراسة الدين (المذهب الشيعي)..
وكلما ضاق الناس بفرض الوصاية وانتقدت سياسة الملالي عمدت إيران لخلق عدو بمساعدة اميركا والكيان الإسرائيلي بمسرحية ممسرحة عند الحاجة.. هذه التداعيات الخفية والتي تبدو متناقدة.. هو ما يجعلها منطقية للعالِمْ بسياسة الغرب الحديثة.. بعيدًا عن التنظير الأكاديمي.
السؤال المحوري هل أميركا وإيران حلفاء أم أعداء؟
عند السؤال هل أميركا وإيران حلفاء أم أعداء؟ يجدر بنا قبل ان نطوف إسهابًا في الإجابة ان نشير إلى ان حليف الولايات المتحدة الامريكية هو بالضرورة حليف للكيان الإسرائيلي.. فالعلاقة التحالفية طردية بامتياز، قاعده قد يندر لها استثناء.. لكنها لا تشذ في منطقة الشرق الأوسط،
لقد أفردنا مقالات عدة تناولنا فيها الحالة الإيرانية على سبيل المثال لا الحصر، ما وراء الموقف الروسي الإيراني من الثورة السورية، إيران بين النفخ والفخ الصهيوأميركي، إيران بالون مرحلي من صنع النفخ الأميركي بأجزائه الثلاثة، وغيرها من المقالات التي فصلنا فيها مشاهد التنسيق والتحالف الإيراني الأميركي في العراق وسوريا وأفغانستان.. وكيف تآمرت على الثورة السورية واليمنية والعراقية ووأدت حراك الشباب اللبناني في مهده بحجة انها مؤامرة أمريكية..
ولم تنظر بنفس الكيفية لثورات تونس ومصر وليبيا.. بل كانت مشجعة للتيار الثوري وتبديل النظم هناك.. فما الفرق بين هاتين الحالتين الثورتين؟! أن الحالة الأولى تنتصر فيه للمذهبية.. والحالة الثانية مفتقدة العامل الاثني والمذهبي.. أن العلاقة الأميركية الإيرانية تتجاوز مرتبة التحالف إلى علاقة يمكن تسميتها “تخادميه” وبالاطلاع على مقالتي (إيران بالون مرحلي من صنع النفخ الأميركي) سيتيح للقارئ معرفة المزيد عن أوجه التحالف والتنسيق بين أميركا وإيران الذي سنستعرض بعضً منه هنا..
وأن نلفت النظر إلي مؤَلّف في غاية الأهمية نشرته جامعة ييل الأميركية في العام 2007.. للكاتب الأميركي الدكتور “تريتا بارسي” ذو أصول “إيرانية زرادشتية” تحت عنوان
( TREACHEROUS ALLIANCE the secret dealings of israel, iran, and the united states)
التحالف الغادر: (التعاملات السرية لإسرائيل وإيران والولايات المتحدة الأميركية)، سنكتفي بأحد السرديات التي ساقها “بارسي” في كتابه يقول ” ذهبت بذاتي إلي ثلاثين سياسيًا إسرائيليًا، وثلاثين سياسيًا إيرانيًا، وثلاثين سياسيًا أميركيًا، وسألتهم جميعًا عن إمكانية بناء تحالف فيما بينهم، فكانت ـنعم ـ هي الإجابة القطعية دون تلعثم”، للعلم الكتاب المُشار إليه توسيع لأطروحة “بارسي” الدكتوراة لعام 2006 في جامعة “جونس هوبكنس”، جدير بالذكر أن “تريتا بارسي” هو المؤسس والرئيس الحالي لِما يُسمي المجلس الوطني الإيراني الأميركي..
والكتاب المُشار إليه ثري جدير بالمطالعة يمكن الحصول عليه بيسر، ومن شواهد التحالف بين إيران وأميركا.. إيران هي التي فتحت مجالها الجوي لأميركا لضرب أفغانستان ودك جبال تورا بورا شرق أفغانستان، ومنظمة بدر التابعة للحرس الثوري الإيراني هي التي حمت ظهر القوات الأميركية المحتلة للعراق عبر صحراء الناصرية ومن كوت العمارة حتى دخلت بغداد وأسقطت نظام صدام حسين.. والولايات المتحدة الأميركية هي التي سمحت لإيران بإدخال وتكوين المليشيات المسلحة إلى العراق للسيطرة على الداخل العراقي.. وأتاحت لهم المشاريع الاقتصادية الضخمة.. وهذا ما يفسر جانب من قدرة تعايش إيران اقتصاديًا في ظل عقوبات متتالية!، وفي المقدمة منها منظمة بدر التابعة للحرس الثوري الإيراني كما أسلفنا والمتمثلة في رحيم صفوي وزبانيته.. ومنها أيضًا منظمة العمل الإسلامي، وحركة حزب الله العراقي، ومنظمة مجاهدين الثورة الإسلامية، ومنظمة الطليعة الإسلامية، وحركة سيد الشهداء، وحركة ١٥ شعبان، وحزب الدعوة العراقي، ومنظمة العمل الإسلامي، فإيران هي الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة الأميركية بلا منازع في العراق.. ذلك أن إيران هي التي تُأمن منابع النفط العراقي لأميركا.
تقاطع استراتيجية الغرب وإيران في العمل خارج حدود الجغرافيا.
وما الضربات الطفولية التي تتلقاها من حينٍ لآخر سوى ردة فعل أميركي إسرائيلي “باتفاق غربي” لتحجيم استراتيجية إيران خارج حدودها.. فلدى الملالي في إيران استراتيجية ” إذا أردت أن تحافظ على الداخل فاعمل خارج حدودك الجغرافية.. وهذا ما تتبناه غالبية القوى المركزية وفي المقدمة منها الولايات المتحدة الأميركية.. لذا تقلم أميركا أظافر إيران من وقتٍ لآخر لتحجيم حركتها خارج الجغرافية الإيرانية.. لكنها لا تسمح بإضعاف إيران في المنطقة في كل الأحوال.. وبوثبة أكثر عمقًا نطرح السؤال المركزي هل تستطيع أميركا والغرب القضاء فعليًا على إيران “إذا ما أرادوا” بخلق صراعات في الداخل وإرغامها الانكفاء داخل الجغرافية الإيرانية، بالطبع تستطيع ولدى الغرب الأوراق الخصبة التي تمكنه من ذلك.. لكن الغرب “برمته” يرى أن التحالف مع إيران ضرورة استراتيجية ملحة تتعلق بوجوده في الصدارة وتأمين بقاء “الكيان الإسرائيلي” حاميًا لمصالحه في المنطقة.. حتى أن التبني الإيراني لقضية فلسطين يأتي ضمن سياقات غير التي يروجها الاعلام.. قضية فلسطين جاءت وفق استراتيجية محددة بغية الانتشار بين العالم الإسلامي وكسب تعاطفه عند بداية حكم الملالي بعد الإطاحة بالحكم الملكي 1979، لذا من يريد تصديق لصوص السياسة.. وعلى من يقفون فقط عند حَرّفيْة النص السياسي الإعلامي ويدمنون التسطيح.. أن يبحثوا لنا عن تفسير موضوعي لهذه العلاقة الغربية الإيرانية التي توصَف في الاعلام بالعدائية ولا تتخذ أدنى الأدبيات السياسية التدبيرية وفقًا لذلك!، على سبيل المثال لا الحصر.. لماذا لا تتخذ اميركا وحلفاءها خطوات استباقية لإضعاف إيران قبل الاجهاز عليها كما معلوم في أدبيات صراع الأعداء.. ولنأخذ الجدل من وجهٍ آخر، لماذا لا تُقوي أميركا وحلفاءها من الغرب شوكة أهل السنة في إيران لخلق توازن يحجم توغل إيران ويربك داخلها؟، لماذا لا تستغل أميركا ورقة احتلال إيران للأحواز العربية وممارسة الضغط عليها بدفع قادة من الأحواز لرفع مذكرة للأمم المتحدة ضد الاحتلال الإيراني؟ جدير بالذكر أن الكيان الإسرائيلي استثمر في الاحواز ببناء القرى هناك، يمكن معرفة المزيد عن معاناة أهلنا الاحواز العرب في إيران بقراءة مقالي «الأحواز.. قضية عربية في طي النسيان»
لماذا لم تقدم اميركا وحلفاءها مذكرة إدانة في المحكمة الدولية ضد إيران عما اقترفته حيال أهلنا في سوريا أثناء وجودها جنبًا الى جنب مع نظام البعث تقتل وتشرد المدنيين على مدى أربعة عشر عام؟ ان العمل العسكري هو في الأصل ينطوي على قرار سياسي في المستوى الأول.. فهل يُعقل أن تعلن دولة ما عزمها ضربة عسكرية لدولة عدوة ما على مرمى من الاعلام العالمي، حتى تأخد الأخيرة حذرها لتتأهب؟ لم يكن هذا ليحدث إلا على مسارح الدرجة الثالثة ذات الإخراج الهابط!
متى تتحقق دوافع حرب الغرب على إيران؟
في الواقع لم تتوفر الدوافع الحقيقية.. لا على المنظور القريب ولا البعيد التي تحتم خوض حرب مع إيران.. السبب الوحيد لخوض الحرب على إيران يأتي ضمن حالتين أولهما.. إذا تحولت إيران إلى دولة سنية تسعى لزعامة أهل السنة.. وهذا غير وارد، أو إذا قويت شوكة أهل السنة في المنطقة “وأصبحوا رقمًا بين الأمم” يخشى منهم.. وهذا ليس قابل للتحقيق على المدى القريب في ظل نظم الاستبداد الشمولي المتحكمة في المنطقة.. ليس هذا فحسب فإطلاق أميركا موطئ قدم لإيران في المنطقة أحد أهم الأسباب الاستراتيجية لكسر الجناح السني حالة النهوض.. “سوريا اليمن لبنان” أمثلة صارخه، وعليه ينطبق قول شوقي على أميركا “ربما تقتضيك الشجاعة أن تجبن ساعة”.. أو كما قال القائل لكلاهما ” حارب بجد وإلا فدع”، فليس هناك شجاعة إنما فقط “دع”.