علي بركات يكتب: الاقتصاد وثلاثية.. الحرية المدنية والسياسية والسيادة (7)

التدهور الاقتصادي أحد مخرجات الفشل السياسي
يعلم المراقب الحذق وهو يجوب بناظره، ان تعافي الاقتصاد لا يتحقق سوى من خلال مسارات إصلاحية سياسية ذاتية محضة، على المديين القصير والبعيد، وليس على التحديات قصيرة المدى فقط أو حلول تلفيقيه، كالذي تتبناه غالبية النظم التي تتحكم في الأقطار مهدورة الحريات الثلاثة المُشار إليها، كما سيتبين لاحقًا من خلال تناولنا للحالة التونسية، تونس هذا البلد الصغير الذى يعيش بما يفوق إمكاناته مثال جدير بالتوقف عند مناخاته السياسية، التي تدلل بالقطع الذي يبلغ مبلغ التواتر أن التدهور الاقتصادي أحد مخرجات الفشل السياسي، فدولة تونس تعاقبت عليها حتى الان ثلاثة عشر حكومة بعد انتفاضة السابع عشر من ديسمبر 2010 ولم نرى وثبة اقتصادية يشار إليها بالقلم، ذلك لأن الحكومات التي تشكلت لم تحقق أي نجاح على المستوى السياسي “الذي هو أصل الأمر” لفقدان الثقة والتشاركية بين الدولة ومكونات الطبقة السياسية، نهيك عن الحق المدني، والسيادي ببعديه الإقليمي والشعبي.
الديمقراطية التي ينبغي العمل على تبنيها بما يناسب التركيبة النفسية العربية
واقع تونس مماثل في العموم لما تناولناه في الأجزاء السابقة مع الدول التي بحثنا فيما وراء انهيارها الاقتصادي، رغم المناخ الديمقراطي الذي بدا في الأفق بُعَيد ثورة السابع عشر ديسمبر/كانون أول، الديمقراطية التي كان ينبغي العمل على تبيئتها بما يتناسب ومرجعية النسيج “السوسيولوجي” للديمغرافيا العربية، لذا، نجدها تصطدم مع الحكم وتغدو آلية للتحكم أكثر منها رعاية شؤون، وهي (أي الديمقراطية) ليست مثالية حتى في منشأها الجغرافي، كما أوضح الأميركي “جريج بالاست” في كتابه الديمقراطية الاحسن التي يتم شراؤها (The Best Democracy that Money can buy) وغيره أمثال بروفيسور جامعة بروكسيل “ديفيد فان ليبروك” في مؤلفه ضد الانتخابات دفاعًا عن الديمقراطية (Against Elections)، في تونس تم اجهاض العملية الديمقراطية لتغدو “دمقرطة” إذا جاز التعبير، وظهر هذا جليًا في انقلاب الرئيس قيس بن سعيد في الخامس والعشرين من يوليو/تموز2021 تحت غلاف دستوري للفصل 80 من الدستور التونسي وسنُرجئ الحديث عنه لاحقًا، في واقع الامر ساد تونس مناخ سياسي صحي نوعًا ما إلى ان ظهر قيس بن سعيد واندمج في اللعبة السياسية، رغم ان سعيد لم يشارك في أي عملية سياسيه من قبل، واختار لنفسه موقع المعارض والمقاطع لمعظم الاستحقاقات الانتخابية لتبنيه تصور خاص عن الدولة، آثر “قيس بن سعيد” الصمت حينًا وأخرى انتقد السلوك السياسي من بعيد، بل اكتفى في معظم الأحيان ” او هكذا أريد له” بالحديث والظهور المتكرر في وسائل الاعلام الدولية والمحلية، وربما يأخذ الحدس لدى البعض أنها كانت فترة إعداد قيس بن سعيد المستقبلية والغير مباشرة حتى ولوجه عالم السياسة بنعومة خطابه الموجه، لا نغفل الإشارة ان قيس رجل القانون الذى برغم انحداره من الطبقة الوسطى، إلا انه قد حصل على شهادة المعهد الدولي للقانون الإنساني في “سان ريمو” الإيطالية في رعيان شبابه، وفي يونيو/حزيران2021 وهو “رئيس” حصل على الدكتوراة الفخرية في البحث العلمي من جامعة “لاسابيانزا الإيطالية”.
حلول مؤطرة للهروب من معالجة رصينة للاقتصاد التونسي
بالنظر سريعًا بالأرقام على الحالة الاقتصادية في تونس، وجِد أن أقساط فوائد الدين لسنة 2025 يفوق 2,1 مليار دولار تتعلق بديون خارجية، و3,2 مليار دولار تتعلق بالدين الداخلي بحسب بيانات ميزانية 2025 للدولة التونسية، ما دفع الحكومة باتخاذ حزمه من الإجراءات سنبينها في حينها أربكت السوق الداخلي وعمقت حالة التدهور الاقتصادي، على سبيل المثال لا الحصر، نظرًا لارتفاع الدين المحلي الذي يناهز 40٪ من إجمالي الدين العام عمدت حكومة “قيس بن سعيد” إلى ما يمكن تسميته “بالقمع المالي” والقمع المالي لمن لا يعرف هو تحديد أسعار الفائدة بحد أدنى من معدلات التضخم، بمعنى آخر جعل الفائدة سلبية على (الدين المحلي)، مما نقل عبء الدين إلى عاتق المستثمرين المحليين، وحتى لا تهرب رؤوس أموال المستثمرين المحليين، أو الحد من هروبها من تونس، تم فرض قيود قانونية أجبرت المستثمرين على القبول، لكنه أضعف النظام المصرفي وأفقد الثقة بين النخب المالية والسلطات الحاكمة.! هذا وجه من أوجه القمع السياسي، بالإضافة أن تونس تأتي في المرتبة الثالثة بمعدل 35٪ ضمن أعلى عشرة دول عربية الأعلى فرضًا لضريبة الدخل لعام 2024 وفقًا لمنصة “تريدنج إيكونوميكس”، بالإضافة تأتي تونس في المرتبة العاشرة عربيًا من حيث حجم الانفاق على الصحة في العام ذاته 3,93 مليار دينار ما يعادل 1,25 مليار دولار.
انقلاب الخامس والعشرين من يوليو ومحو مكتسبات الثورة التونسية
يعتمد النظام الراهن في تونس على القمع المالي الذي أشرنا إليه آنفًا كأحد الحلول الاسهل التي تؤدى فقط إلى ترحيل الازمات، مثله في ذلك مثل اسلافيه من النظم التي تعاقبت على تونس منذ الحبيب بورقيبة مرورًا بزين العابدين حتى قيس بن سعيد الذى عمق الازمة الاقتصادية بسعية المفرط لفرض سيطرته على تونس، بدا هذا جليًا في انقلاب 25 يوليو 2021 بإقالة الحكومة وتجميد عمل البرلمان “الذي قام بحله نهائيًا” في 30 مارس 2022، ورفع الحصانة عن نوابه معتمدًا على الفصل 80 من الدستور التونسي الذي انقلب عليه ذاته، لم يتوقف الامر عند هذا الحد بل أمر بحل المجلس الأعلى للقضاء في السادس من فبراير 2022، ثم عين في مارس من نفس العام مجلساً جديدًا للقضاء متجاوزًا “قيس بن سعيد” بهذا الاجراء مفاهيم الحد الأدنى للديمقراطية “كأستاذ سابق للقانون الدستوري” بإعطاء نفسه صلاحية عزل القضاة ليسهل سيطرته عليه، وفي ابريل من نفس العام أصدر مرسومًا حل بمقتضاه الهيئة العليا للانتخابات وهى بالمناسبة هيئة مستقلة ومنتخبة!، وعيّنَ هيئة انتخابية كما عيّنَ من قبل المجلس الأعلى للقضاء، وهذا في حد ذاته شكك في نزاهة انتخابات الفترة الثانية التي فاز بها بن سعيد.
خنق الحريات والحقوق السياسية والتُهم المُعلبة
لم يتوقف العبث بمكتسبات الثورة التونسية عند هذا الحد، بل تجاوز إلى خنق الحريات والحقوق السياسية، والإمعان في حكم الفرد والزج بالمعارضين في سجون الاعتقالات تحت ذرائع واهية كالتآمر على أمن الدولة، تلك التهم المُعلّبة التي تتقنها كل نظم القمع المركب لتواري بها سوءة فشلها السياسي، هذا العبث السياسي من قِبَل نظام بن سعيد أضاع الوقت مع الخصوم السياسيين المعارضين له، قوّض العمل الجدي للنهوض بالاقتصاد التونسي، فكانت الحكومة في أحسن الحالات تأتي بحلول مؤطره تأطير وقتي لترقيع الازمات الاقتصادية، جعلها تركز على محاور رئيسية ضيقة مما اضطر الدولة لفرض مزيد من الضرائب لتغطية خسائر الدولة، الذي بدوره استنزف القطاع الخاص، وأحيانًا أخرى عمدت الدولة الى تقلّص الخدمات مثل الصحة كما اسلفنا، وهذا التدبير التقشفي من شأنه خلق أزمة اجتماعية، وهى بالمناسبة موجوده لكنها خامدة قابلة للإيقاظ متى واتتها الظروف الملاءمة، ثمة محور تلعب عليه حكومة بن سعيد حالة عجزها إبرام اتفاق مع صندوق النقد الدولي لمعالجة مكامن الضعف الهيكلي للاقتصاد التونسي، تعمد الحكومة للمنح المالية التي يعطيها الاتحاد الأوربي دون شروط تعجزيه كالتي يفرضها صندوق النقد الدولي بزعم حماية الاتحاد الأوربي من الهجرة غير الشرعية عبر الأراضي التونسية، لكن هذا المسعي يُقابل بالرفض في أوساط الاتحاد الذي يرى ان المنح المالية يجب ان تكون مشروطه ببرامج اصلاح ايضًا، وحجة الاتحاد الأوربي في ذلك حتى لا تتحول المنح المالية إلى ريع جيوسياسي قد يدفع دول أخرى في الجنوب الأوروبي حذو تونس ومصر على استخدام ورقة تدفق المهاجرين كورقة ضغط.!
الحكومات المتعاقبة واقتصاد تونس الملحق
في تسعينيات القرن المنصرم والعقد الأول من القرن الحالي كان الاستيراد والتصدير في تونس قائم على الاستبدال، وقد كانت الحالة الاقتصادية نسبيًا مستقرة، بالإضافة الى السياسة النقدية المتبعة آنذاك التي حرصت على أن يظل سعر الصرف تنافسيًا، الاجراء الذي جَنْبَ تونس الوقوع في فخ الخطأ المتمثل في تقدير العملة بسعر أكثر من قيمتها الفعلية، خاصةً ان الاقتصاد التونسي كغيره من دول الجوار الذي يُنظَر اليه من الاقتصاديات المُلحقة “بمعنى أنه قائم بدعائم اقتصاديات أخرى”، وقطاع السياحة كمثال يشكل 14٪ من الناتج الإجمالي لتونس، ويوظف ما يقرب من نصف مليون شخص، أي انه مرهون بعوامل خارجية أكثر لا تستطيع الدولة التحكم بها ومسرحية جائحة كورونا من أكثر الشواهد التي دللت على ذلك، نهيك عن الخطاب الغربي التحريضي من حين الى اخر على المنطقة العربية، وقد تضخم الدين الكلى لتونس وارتفع ليصل الى 80٪ من الناتج المحلي ، ارتفاع كلفة الواردات من المواد الغذائية، بالإضافة لكل ما سبق ذكره تراجعت الصادرات الذي يعزي الاقتصاديون تراجعه الى اخفاق الإدارة الحاكمة الذى ترتب عليه نقص مستويات الابتكار والبحث وتعزيز المهارات، كما يعزي الاقتصاديون انهيار صادرات الفوسفات التي كانت تتفوق فيه تونس بسبب تراجع الاستثمار الى إخفاقات الإرادة السياسية الحاكمة، والنتيجة الحتمية لذلك ان ارتفع عجز الحساب الجاري إلى معدلات مرعبة، قد يقول قائل ان المعضلة الهيكلية للاقتصاد ارث متراكم، وهو كذلك دون جدال، لكن الملفت ان النظم المتعاقبة معظمها تنتمي لمعين واحد أدمنت منهاج الفشل السياسي طوعًا، لأنها نظم وظيفية تابعه لا لاعبة، إلا عندما يريد السيد أو تقتضي مصلحة العرش، وللتدليل على ذلك، قبل الانتخابات الرئاسية التونسية التي تم اجراؤها في أكتوبر 2024 دفعت نظام “قيس بن سعيد” لسداد قروض بقيمة 10,6 مليار دينار تونسي حتى 20 سبتمبر 2024، هذا الاجراء لم يكن نتيجة طفرة اقتصادية، بل خطوة استباقية من الرئيس قيس بن سعيد سبقت الانتخابات الرئيسية بشهور وايام أراد ان يقول من خلالها انني اعمل واحقق انجاز للبلاد، هذا يدعم التشوف الذى يرى ان النظم تستطيع ان تفعل ان ارادت وبسرعة مذهلة، لكنه ليس من اختصاصها ان تعمل، ويتقابل مع الحالة المصرية عندما سن البرلمان قانون توظيف الأموال رقم 146 لسنة 1988 في “ساعات معدودات” الخاص بمجموعة “الريان” بتكليف من اميركا بغية محاربة فكرة الاقتصاد الذي يراعي المحددات الإسلامية في المعاملات المالية، وهنا يمكننا القول أنه ليس هناك نية مبيّته للعمل لأجل البلاد، والدليل تعاقب ثلاثة عشر حكومة على تونس منذ ثورة السابع عشر من ديسمبر 2010 حتى الان ولم يتحقق ادنى تعافي للاقتصاد نتيجة ادمان الفشل السياسي.
مهارة المحتل الأجنبي في ترتيب البيت قبل الانسحاب
فدولة قيس بن سعيد الذي لم يكن بالمتلقي الجيد المعتبر من انحرافات التجارب السياسية السابقة، أضحت بعد الخامس والعشرين من يوليو 2021 هائمه في مقعد الحكم وعائمة في حربها على الخصوم السياسيين، فلا يمكن أو يتصور تفوق أي مشروع سياسي ما لم يراعي الحق العام للحريات وإلغاء الرقابة أو ان يهدر سيادة الشعب، الشعب الذي تتطور لديه رغبة الخصام العنيف مع الدولة حيث يشعر بالاضطهاد، ويلزمنا المآل ان نتساءل بحرفية المنطق.. هل تُلكم النظم الحاكمة المتعاقبة يستقبلون انحرافات التجارب السياسية السابقة بوعي ناقص، أم أن المحتل الأجنبي كان أكثر مهارة في ترتيب البيت قبل الانسحاب، أم كلاهما معًا؟.