علي بركات يكتب: الانتخابات الأميركية.. الديمقراطية التي يتم شراؤها (١)
الدولة العميقة وانتقال شعلة قيادة العالم
ليس هناك أصعب من مواجهة عدو لا تعرف سبر أغواره.. لديه القدرة على التحور والاختراق والتمدد ضمن خلاياك، متفرد، واحد في الخفاء، متعدد الصور بالعلن.. لا يجلس على العرش ولا يهواه.. لكنه يفضل السيطرة عليه!، صانع للنجوم.. يخترع مفردات السياسة والاقتصاد.. بارع في اختلاق الأسباب وتبرير النتائج!، ليس ثمة معضلة أو أزمة تتكشف للعلن في ميدان من ميادين السياسة إلا ويضرب فيها بسهم.. فمنذ انسلاخ أميركا من العزلة في خمسينيات القرن الماضي بُعَيّد الحرب العالمية الثانية.. ومنذ انعقاد مؤتمر النقد الدولي في نيوهامبشر أو ما بات يُعرف باتفاقية (بريتون وودز) يوليو تموز ١٩٤٤، الذي على إثره نشأت مؤسسات النظام الاقتصادي العالمي الجديد، البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.. ومن وقت أن تسلمت (الدولة العميقة) في الولايات المتحدة الأميركية شعلة قيادة العالم من المُستعمر العجوز البريطاني، وبتوصيف أكثر دقة (انتقال الدولة العميقة) من إنجلترا إلى أميركا.. من وقتئذ تُثّخن أميركا الجراح بضعفاء العالم.. وتبالغ بالتدخل في شؤون الغير.. متناسيةً بذلك مبدأ الرئيس واشنطن في خطابه الوداعي الذي حذر فيه الأمريكان من الدخول في مواجهات مع الخارج.. وموصياً إياهم أن يركزوا على بناء البيت الأميركي فقط.. ووفق هذه الوصية.. رفض مجلس الشيوخ ١٩٢٠الذى كان يسيطر عليةـ المحافظين آنذاك ـ انضمام الولايات المتحدة الأميركية لعصبة الأمم المتحدة حتى لا يتدخل أحد في شؤونها.. أو يفقدها الانضمام التنازل عن السيادة.
أسئلة موضوعية يجب طرحها لحسم جدل الانتخابات
بادئ ذي بدء.. يُلزمّنا المقام أن نطرح علامة استفهام يدور حولها جدل مفرط بشأن الرئيس القادم لأميركا.. هل الخلفية التي يأتي منها الرئيس للولايات المتحدة تؤثر فعليًا على السياسات الخارجية وانعكاساتها على العالم عامًة، ومنطقة (الشرق الأوسط) بوجًه خاص؟، ولنطرح السؤال من وجهٍ آخر.. هل ثمة فروق جوهرية موضوعية ثابتة كانت أو متقلبة بين الحزبين الوحيدين ـ الجمهوري والديمقراطي ـ الذي يأتي منهما رئيس الولايات المتحدة الاميركية؟ ولنقل مثلاً في التعاطي مع الأزمة الراهنة في فلسطين وبالتحديد فيما يخص قطاع غزة؟ والإجابات الموضوعية تستفز وعينا بشدة إلى سؤالين هامين.. كيف ومَنْ الذي يمسك بخيوط لعبة الديمقراطية؟ ومَنْ الحاكم الفعلي للولايات المتحدة الأميركية؟ هذا ما سنُعَرّج علية لاحقًا في السطور القليلة القادمة.. عَلّنا نُوقظ السادرين في وهم الديمقراطية الأميركية.
الاستثنائية المتفردة لدى الولايات المتحدة الامريكية
الولايات المتحدة الأميركية لديها استثنائية جغرافية.. استثنائية من ناحية التشكيلة الاجتماعية.. وهي بتلك الاستثنائية بحسب تعبير السياسي العبقري (أوتو فون بسمارك) دولة، محظوظة، مُحاطة بجارتين خانعتين ضعيفتين.. كندا والمكسيك، يفصلها المحيط الهادي عن قارة اسيا، والمحيط الأطلنطي عن أوروبا.. لذلك يصعب غزوها.
ليس هذا فحسب.. هي الدولة الوحيدة التي تستقطب اللوبيات، وتشكل اللوبيات أحد أهم الاعمدة في صناعة الفعل السياسي للولايات المتحدة الأميركية باستغلال رأس المال، لذا استحدثت أميركا آلية للوجود في قلب العالم.. ببناء القواعد العسكرية والبحرية والجوية والبرية في جميع أنحاء العالم ـ لديها ما يقرب من أو يزيد عن٧٠٠ قاعدة حول العالم ـ بها مئات الالاف من الجنود.. الردع الأميركي موجود بقوة رغم البعد الجغرافي، نهيك عن كونها أحد الخمسة الكبار الذين لديهم حق الفيتو في الأمم المتحدة.
اللوبيات الاستثناء الأكثر وجودًا ولفتًا للنظر
اللوبيات في الولايات المتحدة الامريكية هي الاستثناء الأكثر وجودًا والأكثر لفتًا للنظر!، يتقدم هذه اللوبيات اللوبي اليهودي الذي يشكل ٢ بالمائة من تعداد الشعب الأميركي.. هم الأكثر نشاطًا واندماجًا في المجتمع.. والأكثر تمثيلاً في مجلس الشيوخ بنسبة تتجاوز العشرة بالمائة من اصل١٠٠عضو، واقعيًا تشكلت اللوبيات في الولايات المتحدة الأميركية منذ مطلع الخمسينيات والستينيات مثل شركات النفط العملاقة ـ اكسون، تكساكو، فيلبس، كناكور، موبايل ـ والشركات العملاقة المصنعة للسلاح مثل ـ لوكهيد مارتن، بوينج، دينامكس، رايثيون، وماكدونالد دوجلاس ـ وهذه الشركات تسيطر على ثلث الإنتاج العالمي للسلاح، وللعلم جميعها (شركات خاصة).. حتى الحكومة الامريكية ذاتها تشتري منهم السلاح.. يقتصر دور الحكومة الامريكية فقط في وضع الشروط على بيع السلاح خارج الولايات المتحدة الأميركية، وأخيرًا في مجال التكنولوجيا الجبارة مثل شركات ـ الفا بت، انتل، مايكروسوفت، جوجل، وآبل التي تمتلك قيمة سوقية تقدر ب٢ ترليون دولار.
هذه اللوبيات سالفة الذكر جميعها لديها القدرة على رسم السياسات الخارجية للولايات المتحدة الأميركية.. تتدخل بقوة المال لتحديد مسار الانتخابات الرئاسية ومجلسي الشيوخ والنواب.
في الجزء التالي سنتناول تفصيلاً كيفية اختراق اللوبيات للأجهزة الأمنية والاستخباراتية.. وكيف يتم شراء الديمقراطية في الولايات المتحدة الأميركية، وأشياء أخرى بمشيئة الله تعالى.