علي بركات يكتب: الانتخابات الأميركية.. الديمقراطية التي يتم شراؤها (٢)
لا يغمض على الافهام انه عندما تنفرد أمة ما بسيادة العالم دون منهجية مبدئية محددة، لضبط إيقاع حركتها في التعاطي مع مثيلاتها من الأمم.. فهي بذلك تكتب التاريخ من نهايته، تتوسع في انحرافاتها ليتآكل حتى ذاتها.. يغدو التناقض أصلٌ أصيل مركوز في زواياها، تتخبط، تضرب وهي تمارس سياساتها بقوس همجية (القروسطية) الغابرة، وبربرية تتارية مقيته، فلا يسجل لها التاريخ سواء في انخفاضاتها أو ارتفاعاتها، استقامة، تخلد ذكرها بين صفحاته، لأنها إذا جاز لنا التوصيف.. كالمخروط الزجاجي العظيم الأجوف الذي يعجبك بأسه من بعيد.. وتستحقره كلما دنوت منه شيئًا فشيئا لحقيقة ضُئُولَه.. أو كمثل رئيس العصابة الذي يختبئ في هندام الوقار.. وهذا ما يضعف النظام السياسي في العالم ويجعله كسيح.. تتقلص معه مبادئ العدالة.
الديمقراطية الأحسن التي يتم شراؤها في الولايات المتحدة الأميركية.
في كتاب “الديمقراطية الاحسن التي يتم شراؤها” (The Best Democracy that Money can buy) للصحفي الأميركي الاستقصائي (جريج بالاست) نماذج تفصليه جديرة بالتناول عن كيفية شراء المرشحين.. وكيفية التلاعب بقوائم الناخبين التي بدورها تتحكم بشكل مباشر وغير مباشر وعلى غير المتوقع في مسار الانتخابات.. في جمهورية تُصدّر للعالم إعلاميًا كواحده من الديمقراطيات العريقة التي ينبغي حذوها، سنكتفي بسردية متفردة كمعين في هذا المقام، يذكر لنا (جريج بالاست) هذه الواقعة والأسى يلف قلمه في سطور تتقطر منها حصرته التي اختزلها في قولته (الصحافة الأميركية لا تسمع شرًا، ولا ترى شرًا، ولا تبلغ عن شر، فهي تصمت صمت الحملان.. مسترسلاً تشترك التقارير الاستقصائية في ثلاثة أشياء.. فهي محفوفه بالمخاطر، وتزعزع حكمة النظام القائم، ومكلفة للغاية لإنتاجها).
القصة غير المُبَلّغ عنها لكيفية إصلاح التصويت في فلوريدا.
في الواقع القصة التي ساقها (بلاست) في كتابة المُشار إليه آنفًا، جاءت ضمن سياق شراء الزمم وواحدة ضمن العديد من قصص سرقة أصوات الناخبين، أو حجب أسمائهم من قائمة الناخبين.. في تعدٍ صريح على حقوقهم المدنية.. جاءت تحت عنوان “القصة غير المُبَلّغ عنها لكيفية إصلاح التصويت في فلوريدا” (The unreported Story of how fixed the Vote in Florida).. الحدث تم اكتشافه بعد أيام قليله من الانتخابات الرئاسية بين المرشحَين “آل جور وجورج بوش الأبن” في نوفمبر/تشرين الثاني عام ٢٠٠٠.. الذي تم فيه إخراج قرصان مُدمجان بشكل مباشر من أجهزة الكمبيوتر في مكتب سكرتيرة ولاية فلوريدا السيدة كاثرين هاريس، التي كان يحكمها آنذاك “جيب بوش” شقيق المرشح (جورج بوش).. تحتوي هذه الأقراص على بيانات (٥٧,٧٠٠) من مواطني فلوريدا.. تم استبعاد هؤلاء المواطنين من سجلات الناخبين بالتنسيق بين سكرتيرة ولاية فلوريدا “السيدة كاثرين هاريس” مع حاكم الولاية (جيب بوش)، على اعتبار أن المواطنين أصحاب هذه البيانات مجرمون ليس لهم حق التصويت.. جدير بالإشارة أن ٩٠,٢ ٪ من أولئك المستبعدين من قائمة سجلات الناخبين أبرياء قد تم سلب حقوقهم المدنية.. وأن نحو ٥٤٪ من السود واللاتينيين.. ليس هذا فحسب، بل ان اغلبهم من الديمقراطيين !.. بمعنى ان اصواتهم كانت ستحسم سباق الرئاسة التي تم فيها إعلان فوز الجمهوري (جورج بوش الابن) نوفمبر/تشرين ٢٠٠٠ لصالح المرشح الديمقراطي (آل جور)، وقد أفادت حينها هيئة الإذاعة البريطانية بأن المرشح الديمقراطي (آل جور) خسر على الأقل ٢٢الف صوت بسبب هذه العملية (الذكية الصغيرة) !، ولم تُغط الصحف الأميركية هذه القصة! .. لكنها حظيت بانتشار واسع النطاق من خلال صحيفتي “الجارديان والأوبزرفر” البريطانيتين.. فهما الصحفتين الوحيدتين اللتين نشرتا هذه الفضيحة عندما اندلعت بعد أسابيع فقط من انتخابات ٢٠٠٠.. وجدير بالذكر أن هاتين الصحيفتين الرئيستان الوحيدتين في العالم المملوكتان لشركة غير ربحية. هذه العملية كانت من الدلائل القاطعة على محاولة الحرمان الممنهج للسود من حقهم المدني في التصويت.
الخلفيات التي يأتي منها مرشحي الرئاسة الامريكية.
في الغالب يأتي المرشحين لرئاسة أميركا من ثلاث خلفيات سياسية بحته.. إما أن يكون المرشح نائب رئيس سابق، أو سيناتور، أو حاكم سابق لولاية من الولايات الأميركية.. “جو بايدن” كمثال كان نائبًا للرئيس السابق “باراك أوباما”.. “أوباما” كان سيناتور، “رونالد ريجان” كان حاكمًا لولاية كاليفورنيا قبل أن يصبح رئيسًا لأميركا، الرئيس “كندي” كان سيناتور، الرئيس “ويلسون” كان رئيس الأغلبية في مجلس النواب، الرئيس “فورد” كان نائب رئيس ومن قبل حاكم ولاية ميتشجان، الرئيس “نيكسون” الذي استقال عام ١٩٧٤ بسبب فضيحة “ووترجيت ١٩٧٣ـ١٩٧٤” كان حاكمًا لولاية كاليفورنيا، “بوش الابن” كان حاكمًا لولاية تكساس، “بوش الاب” كان نائبًا للرئيس ريجان، “جيمي كارتر” كان حاكمًا لولاية جورجيا، يُعد “ترامب” الإستثناء الوحيد في هذه القائمة من الزعامات التي حكمت أميركا ذو خلفية رأسمالية بحتة.. رجل أعمال لم يكن يومًا ما نائب رئيس، أوحاكم ولاية، أو سيناتور.
الدولة العميقة العقل الذي يختزل كل اسرار اميركا.
عند تناول الولايات المتحدة الأميركية يجب الإشارة الي أن المؤسسية هي التي تحكم، بعكس ما تعارفت علية ادبيات التاريخ سلفًا، التي كانت تحكمه فقط الامبراطوريات.. التي سقطت بعد الحربين العالميتين، المؤسسات في الولايات المتحدة الأميركية تعني الدولة العميقة، الدولة العميقة هي العقل الذي يختزل كل اسرار اميركا التي تُسيّر البلاد وتقود النظام وتُخّضِع لها حتى رئيس أميركا، فالرئيس لا يستطيع مثلاً لا حصرًا إعلان الحرب إلا بموافقة الكونجرس، ولا تعيين الوزراء في المراكز التنفيذية.. تقتصر حدود صلاحياته في ترشيح ما يراه مناسبًا وليس التعيين، لا يمكن للرئيس الأميركي تعيين سفير أو حتى وكيل وزارة.. دورة يقتصر بدفع السيرة الذاتية لمن سيرشحه للجنة الشؤون لخدمات الدفاع في مجلس الشيوخ لتقرر.. هذه الجزئية في غاية الأهمية ولا يجب تجاهلها لفهم الحالة الأميركية.. وهي بدون مبالغة “الدولة العميقة” كُنه الحضور الأميركي في الصدارة، وبالتالي كيفية صناعة القرار الاستراتيجي بمحوريه المتعلق بالداخل الاميركي أو الخارجي، الدولة العميقة حاضرة بقوة في وزارة الدفاع والخارجية والاستخبارات وجميع الأجهزة الأمنية، مثل (FBI) و (CIA).. وهذه الأخيرة هي التي لها النصيب الأكبر في السيطرة.. ولديها ملفات عن كل شخص يعيش على أرض أميركا.. وهي المتورطة في اغتيال الرئيس “كندى” ١٩٦٣لعدم قدرتهم على إخضاعه لهم.. ثم اغتالت “هارفي أوزوالد” الذي دفعته لاغتيال “جون كندى”.. لتموت معه الاسرار والدوافع الحقيقية وراء الاغتيال.
التراكيب الاستثنائية لمنظومة الحكم وتغول الحضور اليهودي.
التراكيب الاستثنائية لمنظومة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية يحتل فيها اللوبي اليهودي النصيب الأكبر للاستحواذ.. والامثلة التي نسوقها هنا لا حصر لها، إذا دققنا النظر على القيادات في إدارة “بايدن” سنجد غالبيتهم يهود.. وزير العدل يهودي.. وزير الخارجية “بلينكن” يهودي وقد أعلنها صراحة عند أول زيارة له لدولة “الكيان الإسرائيلي” أنا هنا ليس بوصفي وزير خارجية أميركي.. بل كيهودي، نائب ال “CIA” يهودي.. منظمة أيباك “AIPAC” أو لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية.. وهي من كبريات مجموعات الضغط التي تدافع عن السياسات المؤيدة لإسرائيل لدى السلطتين التشريعية والتنفيذية لأميركا.. لديها أكثر من مائة ألف عضو وسبعة عشر مكتبًا اقليميًا، مديرة جهاز الاستخبارات الوطنية “National Intelligence” السيدة “أفريل هاينز” من أصول يهودية وقد رشحها لهذا المنصب “جو بايدن” وهو أعلى جهاز استخباراتي في الولايات المتحدة الأميركية.. ويشرف على “ستة عشر جهاز استخباراتي أميركي”… يتقدم حتى على ال “CIA” من حيث الأهمية.. لك أن تتصور القوة الاستراتيجية لهذا المنصب وقدرته على تصنيع القرار.. وكيف يستطيع المتنفذ فيه اختطاف المجتمع الأميركي!
وقد رئينا من شواهد التحكم في اقتصاديات أميركا ما سببته مؤسسة “لايمن برازر” اليهودية في الازمة الاقتصادية المشهورة ٢٠٠٨ جرت معها فترة ركود تجاوزت الجغرافيا الأميركية.. ومن نفس المنظور يجب القياس عن مدى التأثير على المجتمع الأميركي الذي يعمل ٩٥٪ منه في القطاع الخاص الذي يتحكم فيه اللوبي اليهودي!، وفى المقابل ليس ثمة تمثيل للوبي آخر يحاكي اللوبي اليهودي في التأثير، وليس هناك تمثيل للمسلمين سوى منظمة “CAIR” وتأثيرها محدود، وليس للمسلمين سوى ثلاث نواب من أصل ٤٣٨ نائب عن ثلاث ولايات ميتشجان تكساس وكاليفورنيا، المعضلة تكمن في الصفة غير الرسمية للمؤسسات والمنظمات ذات التكوين اليهودي.. لكنها في الوقت ذاته تتحكم في القرار السياسي عن طريق الشراء والاختراق المؤسسي الذي طال المؤسسات الاستخباراتية كما أسلفنا في صدر المقال.
الميكانزم الأكثر اتاحة للاختراق في كيفية إدارة المسار الانتخابي.
في الواقع الميكانزم الأكثر اتاحة للاختراق تكمن في كيفية إدارة المسار الانتخابي لمجلسي الشيوخ والنواب، كما هو معلوم أن مجلس الشيوخ يتكون من مائة عضو.. عضوان عن كل ولاية بصرف النظر عن تعداد الولاية.. مجلس النواب الكونجرس يتكون من ٥٣٨ عضوًا.. عدد أعضاء كل ولاية يتوقف على تعداد سكان الولاية.. مرشح واحد لكل مليون نسمة في كل ولاية.. المرشحين لمجلس النواب تتلقفهم اللوبيات الرأسمالية لدعمهم إعلاميًا وتجزل لهم العطاء لتمويل الدعاية الانتخابية بشروط يتم الاتفاق عليها خلف الستار عندما يصبح نائبًا حال فوزه، الإشكالية التي تقابل النواب.. ان مدة انتخاب النائب عامين فقط.. ولهذا يعمل النائب جاهدًا في المجلس من اللحظة الأولى له في مجلس النواب لصالح العملاء والشركات العملاقة التي مولته.. حتى يضمن تمويله في مرات الانتخابات القادمة بعد عامين.. ومن هنا يتم “شراء الديمقراطية” في الولايات المتحدة الأميركية.. ويمكن القول انها احدى ثغرات الديمقراطية الكبرى في أميركا.. خاصةً انه ليس هناك سقف محدد لعمر النائب او لعدد مرات ترشيح النائب.. والواقع يخبرنا أن تسعين بالمائة من النواب يُعاد انتخابهم، يختلف الامر فيما يخص مجلس الشيوخ.. فمدة انتخاب العضو فيه ٦ سنوات.. وهو على كل حال يسيطر عليه اليهود بنسبه ١٢٪.. وهي نسبة مرتفعة قياسًا بعددهم الذي يشكل ٢٪ فقط من التعداد الكلي للشعب الأميركي.
ومن ثمَّ هل ترى قيمة جوهرية أو بُعد استراتيجي هام فيما إذا كان الرئيس جمهوري أم ديمقراطي؟!.. وهل تستحق الانتخابات الامريكية هذه المساحة الكبيرة للتغطية الإعلامية؟!.. بالطبع لا يمكن تجاهل أميركا في سياساتها الخارجية فقد أدخلت العالم في جعبتها وما يؤثر سلبًا عليها ينعكس على العالم.. لكن ليس للرئيس اليد الطولى في صناعة الحدث.. بل هو أداة تنفيذية مدفوع من المنظمات والشركات العملاقة.. وبوجهٍ خاص من المؤسسات الاستخباراتية والأمنية التي تمتلك من الملفات السرية ما يمكن الرئيس في تأدية مهامه الوظيفية.