في تاريخنا العربي الإسلامي أسماء مضيئة أبت أن تبقى حبيسة زمانها، وخرجت إلى آفاق الفكر الإنساني العام.
ومن هؤلاء المؤرخ والفيلسوف والرحّالة أبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (283هـ – 346هـ / 896م – 957م)، الذي لقّبه المستشرقون بـ«هيرودوت العرب»، لما جمعه في كتبه من أخبار الشعوب وأحداث التاريخ، مقرونًا برحلات واسعة جاب فيها الأرض شرقًا وغربًا.
مولده ونشأته
وُلد المسعودي في بغداد نحو سنة 283هـ، ونشأ في أسرة عربية قرشية تُنسب إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود. وقد ساعدته نشأته في بغداد – عاصمة الخلافة العباسية – على الاطلاع الواسع في العلوم والفلسفة والأدب، حيث كانت المدينة في تلك الحقبة مركز إشعاع فكري وعلمي. ومنذ صغره أبدى ميلًا إلى المعرفة والبحث، وهو ما مهّد لرحلاته وأسفاره اللاحقة.
رحّالة لا يهدأ
لم يكن المسعودي مؤرخًا مكتبيًا، بل كان رحّالة ميدانيًا جعل من الترحال وسيلته الأولى للمعرفة. فقد طاف بلادًا واسعة:
ارتحل إلى فارس وخراسان والهند والسند.
جاب اليمن وعمان والحجاز.
وصل إلى شرق أفريقيا وسواحل زنجبار.
بلغ الصين والهند الشرقية، ودوّن أخبارها وعاداتها.
ثم أقام في مصر، حيث كانت خاتمة أسفاره ومثواه الأخير.
ولهذا عُدّ بحق «رحّالة الأمم»، إذ اعتمد في تأليفه على المشاهدة المباشرة والسماع من أهل البلاد، لا على الروايات وحدها.
موسوعته الذهبية
أشهر ما تركه المسعودي كتابه «مروج الذهب ومعادن الجوهر»، موسوعة تاريخية وجغرافية كبرى. وفيه يقول عن الأرض:
«إن الأرض مدوّرة، والهواء جاذب لها من جميع جوانبها إلى الفلك… ولولا ذلك لتفرّق الناس في أقطارها، وبعد بعضهم عن بعض.»
وعن الحضارات:
«لكل أمّةٍ من الأمم سياستها وعوائدها، وأخلاقها ودياناتها، فهم في ذلك على اختلاف، ولكنهم يجتمعون في طلب المعاش، وعمارة الأرض، ودفع المظالم.»
وعن مصر التي عشقها:
«ومصر أرض واسعة، ذات نيل عجيب، به حياتها وقوام أمرها، وليس في الدنيا نهر مثله في عموم النفع وكثرة الخير.»
«التنبيه والإشراف».. خلاصة الفكر
في كتابه الأخير «التنبيه والإشراف» اختصر المسعودي رحلاته وتجربته الفكرية، فجاء خلاصة ناضجة. يقول فيه عن حركة الزمان:
«والزمان لا يقف بساكن، ولا يُبقي على متحرّك، والدنيا متصرّفة بأهلها، لا يثبت لهم فيها حال.»
وعن الأمم والشعوب يقرر:
«الأمم في أجيالها كالأشخاص في أعمارها، لها حدّ محدود، وأجل معلوم، فإذا استُوفيت آجالها باد أهلها، وزالت آثارها.»
وفاته وإرثه
استقر المسعودي في سنواته الأخيرة في مصر، وهناك ألّف آخر كتبه، قبل أن يتوفى سنة 346هـ/957م في مدينة الفسطاط.
ترك وراءه تراثًا موسوعيًا ضخمًا، ضاع معظمه، ولم يبق إلا القليل الذي يشهد على مكانته.
كان المسعودي مؤرخًا ناقدًا، لا يكتفي بالنقل بل يوازن بين الروايات ويحللها بعمق. جمع بين المؤرخ والفيلسوف والجغرافي والرحّالة، فجاءت كتبه لوحةً موسوعية بديعة، ما زالت تُقرأ حتى اليوم لما تحمله من دقة الرصد وعمق الرؤية وجمال العبارة.
المسعودي
المسعودي نموذج للعالم الموسوعي الذي سبق عصره، كتب التاريخ بروح الفيلسوف، وجغرافيا الشعوب بلسان الأديب، ورحلات البحار والصحارى بعيون الرحّالة المتأمل. لذلك ظل اسمه خالدًا في سجل التراث الإنساني، شاهدًا على عقل متوقد وذاكرة لم تعرف حدود المكان.