بحوث ودراسات

عمر بلقاضي يكتب: الآيات الكونية وفريضة التفكير (1-3)

مقدمة:

إن الإسلام دين يوازن بين جوانب الشخصية الإنسانية من مادة (جسم) وعقل  (فكر وعلم) وروح (إيمان وأخلاق) ويبني حضارة المسلم على أساس  تلك الموازنة، وهو بذلك يرد البشرية الى الفطرة، ويصحح ما وقعت فيه الأمم السابقة من انحراف في الدين، فالأمة اليهودية مالت به الى المادية المتوحشة، وعلى النقيض تماما مالت به المسيحية المحرفة الى الروحية المتطرفة التي ترى النظافة نقصا في التقوى، والاهتمام بالعقل غائب فيهما معا، فاليهودية راحت تصف الله عز وجل وصفا ينم عن عقلية خرافية صبيانية متقوقعة في حدود المحسوس، والمسيحية وقعت في تناقضات عقلية في عقيدتها وتعريفها بالله عز وجل، فهو عندها اله واحد لكنه عبارة عن اتحاد ثلاثة آلهة، ثم يغلب فيصلب من يعد إلها أو ابن اله أو أحد أجزائه (كما يزعمون تعالى الله عن ذلك)، أما الإسلام فمن ميزاته أنه أسس عقيدته على النظر العقلي السليم الذي ينطلق من العالم المادي المحسوس الى العالم الروحي الغيبي بعملية عقلية هي التفكير بالاعتماد على الحواس قال تعالى:

{والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا وجعل لكم السّمع والإبصار والأفئدة لعلّكم تشكرون}

(النحل 78)

فبهذا التفكير والنظر في المادة يستفيد المسلم الإيمان كهدف أساسي كما يستفيد فهم المادة وقوانينها فيتطور ماديا.

هذه النظرة الإسلامية هي التي سار بها المسلمون الأوائل فأثمرت حضارة رائدة  سادت بها الأمة الإسلامية على الأمم الأخرى، لكن وقع الانحراف بعد ذلك، إذ تفكك ذلك الثلاثي المنسجم المتكامل (المادة، العقل. الروح) فانقسم المسلمون الى ثلاث فئات: فئة المادة التي لا روح معها ولا عقل ويمثلها عباد الشهوات من ملوك وأمراء وأثرياء مترفين ومن يدور في فلكهم، وفئة الروح التي لا مادة معها ولا عقل وهي فئة المتصوفة الذين أهملوا العلم والفكر واعتمدوا على الذوق والفتح الذي يكون في كثير من الأحيان نزغا من الشيطان لا فتحا من الرحمن  واهملوا العلم و العمل الى الجهالة والبطالة والكسل, وفئة العقل التي لا روح معها ولا مادة  وهم الذين تأثروا بالفلسفة اليونانية النظرية فبثت فيهم الشك الذي حرمهم من حلاوة اليقين، وشغلتهم بالجدل الفارغ عن استغلال ما سخر لهم من موجودات الكون وظواهره، بسبب تخليهم عن المنهج القرآني المبني كما أسلفت على الملاحظة والتأمل للموجودات والظواهر(قل انظروا ماذا في السّماوات والأرض)  وبذلك تقهقرت الأمة الإسلامية وذهب ريحها، وهاهي الآن تتخبط  وتترنح وهي تريد النهوض والوقوف, ولم تهتد بعد الى سبيل يمكنها من ذلك، رغم وضوحه في كتاب الله، فهاهي تتأرجح بين المنهج المادي الغربي الذي يغلب عليه الطابع اليهودي، أو المنهج الصوفي المتأثر بالرهبانية المسيحية أو الهندوسية، لأنه لا رهبانية في الإسلام، وما لم ترجع الى كتاب الله فلن تنهض أبدا.

وفي هذا البحث أحاول أن أبرز السبيل الذي رسمه القرآن الكريم للمسلم في الحياة ليسمو ويسعد روحيا وماديا بدعوته الى استخدام العقل واعتماد التفكر والنظر في الكون، منطلقا من كلمة (آية) التي تكررت كثيرا في القرآن حيث ذكرت فيه بصيغة المفرد والجمع (آية،آيات) في أكثر من 230 موضعا مما يدل على مدى أهميتها في الدين.

فما مفهوم الآية في القرآن وما سر عنايته بها؟

تعريف الآية في اللغة: الآية في اللغة العلامة والبينة, فآية الشيء العلامة التي تدل عليه جاء في القرآن الكريم: {إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت..} البقرة 248  أي علامة ملكه عليكم

وفي سورة مريم حكاية عن زكريا {قال رب اجعل لي آية} ال عمران 41

وفي الحديث النبوي الشريف: «آية المنافق ثلاث,إذا حدث كذب،وإذا وعد اخلف، وإذا اؤتمن خان» أي علامات نفاقه

وقال الشاعر: وفي كل شيء له آية      تدل على أنه الواحد

وتأتي الآية بمعنى الشيء الباهر المثير للإعجاب لجماله أو دقة صنعه أو كبر حجمه

جاء في القرآن الكريم {أتبنون بكل ريع آية تعبثون} 128 الشعراء

الآية في الاصطلاح القرآني:

تطلق الآية في القرآن الكريم على عدة معاني لا تخرج عن المعنى اللغوي العام، هذه المعاني هي:

 

1- الآية بمعنى الجملة القرآنية المعلمة في المصحف الشريف بالأرقام قال عز وجل:

{كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} 1هود

{طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين} 1 النمل

{الم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون} 105 المؤمنون

{وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا} 2 الأنفال

وفد سميت جمل القرآن آيات لأنها بينات تدل على الحق والهدى لما تنطوي عليه من إعجاز بياني وتشريعي وعلمي ونفسي… ويكفي أن القرآن يتحدى الإنس والجن أن يأتوا بمثله والتحدي، قائم والعجز دائم

قال عز وجل: {لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} الاسراء 88

وفي سورة البقرة :{يأيها الناس إن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فاتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فان لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} 23

فالقرآن الكريم هو البينة الكبرى لمحمد صلى الله عليه وسلم التي تثبت أنه نبي مرسل، وقد أمر عز وجل بتدبره أي التفكر في معانيه ومبانيه فقال سبحانه: {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب إقفالها} (24 محمد)

وقال : {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب} (ص 29)

 

2- الآية بمعنى المعجزة:

القرآن الكريم يسمي معجزات الأنبياء السابقين آيات لأنها تدل على صحة نبوتهم عليهم السلام, مثل ناقة صالح, عصى موسى، إحياء الموتى بالنسبة لعيسى، ومن الآيات الدالة على ذلك مايلي:

ققال عز وجل عن نوح عليه السلام {فانجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين} العنكبوت 15

وقال عن ناقة صالح: {ويا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تاكل…} هود 64

وعن معجزات موسى عليه السلام يقول: {ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات..} الإسراء 101

وقال عن عيسى عليه السلام {وجعلنا ابن مريم وأمّه آية وآويناهما الى ربوة ذات قرار ومعين}  50 المؤمنون

3- الآية بمعنى العبرة، كالعبرة بما حدث للأمم السابقة

قال عن قوم سبأ {فجعلناهم أحاديث ومزّقناهم كل ممزّق إنّ في ذلك لآيات لكل صبّار شكور} سبأ 19

وقال عن الأمم السابقة عموما {أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إنّ في ذلك لآيات أفلا يسمعون} 26 السجدة

وقال عن فرعون {فاليوم ننجِّيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وان كثيرا من النّاس عن آياتنا لغافلون} 92 يونس

وقد تأتي بمعنى العبرة بالإحداث الآنية في كل وقت كما قال عن أحداث بدر

{قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيِّد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الإبصار} 13 آل عمران

4- الآية بمعنى المخلوقات والظواهر والسنن الكونية:

كالكواكب والأرض والكائنات الحية حتى الحشرات وما يتعلق بها من وظائف وأحوال، والظواهر الطبيعية كالرعد والبرق والرياح وإنزال المطر وإنبات النبات….الخ

والملفت للانتباه أن القرآن فصل في ذلك تفصيلا، فما من شيء في الأرض أو في السماء إلا اعتبره من الآيات ودعا العقلاء الى تأمله وفهم أسراره, والآيات القرآنية في ذلك كثيرة جدا نقتصر منها على ما يلي:

قال عز وجل في آية البقرة: {إنّ في خلق السّماوات والأرض واختلاف اللّيل والنّهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع النّاس وما أنزل الله من السّماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبثَّ فيها من كل دابَّة وتصريف الرياح والسّحاب المسخّر بين السّماء والأرض لآيات لقوم يعقلون} 164 البقرة

وفي سورة الروم:

{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا انتم بشر تنتشرون

ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودّة ورحمة إنّ في ذلك لآيات لقوم يتفكرون

ومن آياته خلق السّماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إنّ في ذلك لآيات للعالِمين

ومن آياته منامكم باللّيل والنّهار وابتغاؤكم من فضله إنّ في ذلك لآيات لقوم يسمعون

ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا وينزِّل من السّماء ماء فيحي به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون} 21-24

وفي سورة الذاريات

{وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون} 20-21

وفي سورة فصلت:

{ومن آياته اللّيل والنّهار والشّمس والقمر} 37

وفي سورة الجاثية:

{إنّ في السّماوات والأرض لآيات للمؤمنين وفي خلقكم وما يبثّ من دابّة ءايات لقوم يوقنون واختلاف اللّيل والنّهار وما أنزل الله من السّماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها وتصريف الرِّياح ءايات لقوم يعقلون تلك آيات الله نتلوها عليك بالحقِّ فبأي حديث بعد الله وآياته يؤمنون}

(3-6)

وقد سمى القرآن الكريم هذه المخلوقات والظواهر الطبيعية «آيات» أي دلائل وبينات لأنها بدقة صنعها وبديع خلقها تدل على الخالق وقدرته وحكمته ورحمته، فهي معجزات أعظم من الخوارق التي كان الأنبياء السابقون يؤيدون بها في عصور بدائية العقل البشري فانظر مثلا الى جنين يخرج من بطن أمه كائنا سويا من سواه؟ انظر الى الثمار المختلفة من أخرجها بتلك الصور الجميلة والروائح الزكية والأذواق اللذيذة؟ أليست معجزات كالعصا التي تحولت الى حية، والناقة التي خرجت من حجر؟

[يُتبع]

عمر بلقاضي

كاتب وأديب جزائري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights