في الساعات الأخيرة من اليوم السبت، وجدت غزة نفسها أمام مشهد مركب من الدم والدمار والجوع، بعدما أعلنت الهيئة العالمية المختصة بأزمات الغذاء، برنامج التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، دخول مدينة غزة في مرحلة المجاعة رسميًا، وهو توصيف نادر الحدوث ويعكس حجم الكارثة الإنسانية.
المستشفيات في القطاع، وعلى رأسها مستشفى ناصر في خان يونس ومستشفى الشيخ رضوان الميداني، استقبلت جثامين عشرات القتلى وأكثر من ذلك من الجرحى جراء الغارات الإسرائيلية المتواصلة على خيام النازحين ومناطق مكتظة بالمدنيين. الشهادات من الأهالي حملت صرخات الألم: “لا مكان آمن في غزة”،
قال عوض أبو عاقلة، الذي فقد اثنين من أقاربه الأطفال تحت القصف، فيما بكت حكمت فوجو وهي تناشد بهدنة: “ارحمونا”.
هذه المشاهد أعادت التأكيد على أن المدنيين هم الضحايا الأبرز في حرب تجاوزت 22 شهرًا، وأن القطاع يواجه انهيارًا صحيًا لا يقتصر على نقص الأدوية والمستلزمات، بل يمتد إلى عجز المستشفيات عن استيعاب الأعداد المتزايدة من الجرحى والنازحين.
إعلان المجاعة يفاقم الأزمة الإنسانية
إعلان المجاعة مثل نقطة تحول في التعاطي الدولي مع ما يجري، إذ دفع حكومات ومنظمات إنسانية إلى رفع الصوت أكثر بضرورة وقف الحرب وتسهيل وصول المساعدات.
التقرير الصادر يوم الجمعة عن برنامج التصنيف المرحلي المتكامل أوضح أن نحو نصف مليون إنسان في غزة يواجهون خطر الجوع الكارثي، أي ما يقرب من ربع السكان، وأن استمرار القتال والحصار سيجعل المجاعة أكثر انتشارًا.
هذا الإعلان، بحسب وكالة “رويترز”، يُعد الأول من نوعه في الشرق الأوسط ويأتي بعد أشهر من تحذيرات منظمات مثل برنامج الغذاء العالمي و”أوكسفام” و”أطباء بلا حدود”، التي أشارت مرارًا إلى أن انهيار إمدادات الغذاء وانعدام الأمن قد يقود إلى كارثة واسعة.
ورغم إدخال بعض المساعدات عبر إسقاط جوي أو قوافل برية، إلا أن الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة شددت على أن الكميات المتاحة لا تفي بالحد الأدنى لاحتياجات السكان، خاصة مع حالة الفوضى التي تشوب توزيع الإمدادات في ظل غياب الضمانات الأمنية.
الموقف الإسرائيلي وردود الفعل الدولية
إسرائيل رفضت الإعلان ووصفته بأنه “كذبة صريحة”، إذ اعتبر مكتب رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أن الجيش سمح بإدخال مساعدات كافية، متهماً حركة حماس بأنها السبب في تجويع المدنيين عبر احتجاز الرهائن واستغلال الوضع الإنساني.
ومع ذلك، وثّقت الأمم المتحدة ووكالات الإغاثة حوادث إطلاق نار على طالبي المساعدات، خصوصًا قرب معبر زيكيم حيث قتل خمسة أشخاص اليوم السبت. مشاهد الفوضى على الطرق المؤدية لقوافل الإغاثة، كما رصدتها “أسوشيتد برس”،
أكدت أن وصول المساعدات يظل محفوفًا بالمخاطر الأمنية، وأن الإمدادات الحالية أقل بكثير من سدّ فجوة الجوع.
في المقابل، نددت منظمات إنسانية مثل “أطباء بلا حدود” بتصاعد القصف، مشيرة إلى أن طواقمها ومرضى العيادات اضطروا للنزوح مجددًا من منازلهم في محيط مدينة غزة، وهو ما يعكس هشاشة الوضع المدني أمام استمرار العمليات العسكرية.
استعدادات إسرائيلية لاقتحام مدينة غزة
في الوقت نفسه، يواصل الجيش الإسرائيلي استعداداته لهجوم واسع على مدينة غزة نفسها. المتحدثون العسكريون الإسرائيليون أشاروا إلى أن القوات تتحرك في محيط المدينة وفي حي الزيتون، مع التركيز على تدمير شبكة أنفاق حماس التي يعتبرونها “العصب العسكري الأخير” للحركة.
منظمة “أطباء بلا حدود” أصدرت بيانًا السبت حذرت فيه من أن موجات النزوح تتجدد في المدينة، وأن موظفيها مثل بقية المدنيين يفرون من منازلهم تحت وقع الغارات، فيما أكدت أن عياداتها تستقبل أعدادًا هائلة من المصابين والمرضى.
ومع وجود القوات البرية بالفعل في مناطق استراتيجية، فإن العملية واسعة النطاق في مدينة غزة قد تبدأ خلال أيام، مما ينذر بموجة أعنف من الدمار الإنساني قد تدفع مئات الآلاف من المدنيين إلى المجهول.
تعثر الجهود الدبلوماسية وسط التوتر
دبلوماسيًا، تبدو جهود وقف إطلاق النار معلقة في انتظار الموقف الإسرائيلي. فقد قبلت حماس مقترحًا جديدًا من الوسطاء العرب – قطر ومصر – بدعم من الولايات المتحدة، يتضمن هدنة طويلة الأمد وإطلاق سراح الرهائن مقابل إنهاء الحرب،
لكنها رفضت أي صيغة لنزع سلاحها خارج إطار إقامة دولة فلسطينية. في المقابل، أعلن نتنياهو أنه مستعد للتفاوض على إطلاق سراح الرهائن لكن وفق “شروط إسرائيل”،
ملمحًا إلى أن العمليات العسكرية قد تستمر حتى تحقيق أهدافه. الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أعرب عن إحباطه من الموقف قائلاً: “هذا ابتزاز ويجب أن ينتهي”،
وألمح إلى أن الحسم العسكري قد يكون السبيل الأقرب لحماية من تبقى من الرهائن. وفي ظل هذه المواقف المتباينة، تتضاءل فرص التوصل إلى هدنة شاملة، بينما تبقى حياة المدنيين في غزة معلقة على قرارات سياسية تتأرجح بين الحرب والسلام.
تصاعد ردود الفعل العربية والدولية
ردود الأفعال العربية والدولية تتوالى بشكل متسارع، إذ عبرت جامعة الدول العربية عن صدمتها من إعلان المجاعة، محمّلة إسرائيل المسؤولية الكاملة عن “التجويع الممنهج” للفلسطينيين. الأمم المتحدة دعت، على لسان منسق الشؤون الإنسانية مارتن غريفيث، إلى فتح ممرات إنسانية آمنة فورًا وإلى وقف الهجمات على المدنيين. أما الاتحاد الأوروبي.
فقد أصدر بيانًا حذر فيه من أن استمرار الهجوم على غزة “سيقوّض أي أفق سياسي للتسوية ويضاعف الخسائر الإنسانية”. من جهتها، اعتبرت منظمة العفو الدولية أن ما يحدث يرتقي إلى “عقاب جماعي محظور دوليًا”.
مؤكدة أن سياسات الحصار والقصف لا يمكن تبريرها قانونيًا ولا أخلاقيًا. هذه المواقف، وإن عكست حجم التعاطف مع المأساة الإنسانية، إلا أنها لم تترافق بعد مع ضغوط سياسية حقيقية كفيلة بإحداث تغيير في مسار الحرب.
المشهد العام في غزة
المشهد في غزة اليوم يختصر ثلاثة أبعاد متداخلة للأزمة: مجاعة معلنة رسميًا تهدد حياة مئات الآلاف، غارات إسرائيلية تتوسع يومًا بعد يوم على مناطق مكتظة بالنازحين، وتعثر في المسار الدبلوماسي يعزز احتمالية عملية برية كبرى قد تدفع الوضع الإنساني إلى الانهيار الكامل.
وبينما تتصارع الروايات الرسمية بين نفي إسرائيل وصرخات الأمم المتحدة، يبقى الواقع على الأرض شاهداً على مأساة يصفها كثير من الخبراء بأنها “واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في القرن الحادي والعشرين”.
والخلاصة إعلان المجاعة في غزة يشكل ضغطًا استثنائيًا على إسرائيل، إذ يعرضها لانتقادات دولية غير مسبوقة ويهدد بعزلتها السياسية. في المقابل، يرى خبراء استراتيجيون أن الحكومة الإسرائيلية قد تسرع من عمليتها العسكرية في مدينة غزة لفرض واقع ميداني قبل أي تدخل دولي ملزم.
لكن هذا المسار ينطوي على مخاطر كبيرة، أبرزها توسع الفجوة مع الحلفاء الغربيين وتزايد الضغوط الشعبية داخل إسرائيل نفسها. وبذلك تصبح قرارات تل أبيب مقيدة بين الرغبة في الحسم العسكري والخشية من تبعات سياسية وإنسانية قد تتجاوز حدود الصراع.