فاتن عبد المنعم فاروق تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (9)
أورشاليم الجديدة:
كنا قد توقفنا في المقال السابق عند حلول الصليبيين وإقامة مملكتي إنطاكية والرها وتمكنوا من فلسطين، تلك البقعة التي جعلها الله دوما ترمومتر لقياس حال المسلمين في كل زمان إيمانيا، والذين كانوا في ذلك الوقت تحت الحكم الفاطمي أو المسمى الصحيح لها الدولة العبيدية الشيعية والذين أشاعوا البدع والشركيات والخرافات المنافية لصحيح الدين بل إنهم كادوا أن يقضوا عليه جملة وتفصيلا، وما من فترة من تاريخ الإسلام تتميع فيها العقيدة وتفتر ويسود الأمة فجارها وعجز حراس العقيدة من أهل السنة والجماعة عن تدارك الأمر إلا وتدخلت العناية الإلهية برؤيتها الشمولية وليست كرؤيتنا القاصرة التي كثيرا ما يشوبها الدخن، فكانت الحروب الصليبية “على مرارتها” ولكنها صفعة إلهية مدوية كي يستفيق الذين لم يحسنوا تقدير الخطر المحدق المحيط بهم من كل جانب، فالحروب الصليبية هي التي أيقظت النفوس وشحذت الهمم، وفجرت ينابيع الجهاد، إنها النيران التي أشعلها الله ليجلي الحقيقة ويسقط الأقنعة كي ينبت جيلا جديدا جدير بحمل الراية، راية التوحيد غير هيابيين، الحروب الصليبية هي من حركت الدولة السلجوقية التي عبدت الطريق للقادم الذين لم يعرفوه في حينه، الناصر المنتصر صلاح الدين الأيوبي الذي لا يبغضه إلا منافق رعديد، والمنافق أسوأ من الكافر لأن الأخير لم يخفي حقيقة ما يعتقد.
{إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)} الممتحنة
الرائعة كارين أرمسترونج حققت هذه الآية دون تقصد منها عندما صنفت وفندت أولئك المحاربين الذين نفث فيهم البابا أوربان الثاني ليحثهم على الخروج في حروب “مقدسة” لمناهضة الإسلام، وبينت الدوافع الحقيقية لكل فئة منهم، وهي دنيوية بحتة، أولئك الذين جاءوا من بلادهم طمعا في حنطة وعسل الشرق الإسلامي فبعد أن دانت لهم فلسطين إلا من بقع قليلة، كانوا عاجزين عن معرفة ماهية حكم المدينة وهذا ما لم يقله أشد المستشرقين تعصبا تجاه المسلمين “البدو الأجلاف” عندما كانوا يحلون في بلدة ما فإن الأمور سهلة بسيطة كأن لديهم ديباجة مكتوبة بحرفية وتراتيبية من متخصصين، ولما لا وهم يتحركون بمنهج إلهي ولم تزغ القلوب ولم تعطب النفوس فكانت النتيجة مبهرة.
حدثت صولات وجولات بين الذين نعتوا أنفسهم بالصليبيين “كيف يحكمون المدينة المقدسة” حتى انتهى الأمر بحكم جودفري مبعوث البابا أوربان الثاني والذي أوصاه بمساعدة المسيحيين الشرقيين والتسامح تجاههم وضم أراض جديدة، ولكنهم كما قالت كارين ساروا على مبدأ أسلافهم من حكام المدينة خلاف المسلمين في عدم التسامح.
دعائم المحتل دائما مهترئة:
رغم ثبوت الأمر للصليبيين في فلسطين فإنهم كان عليهم أن يظلوا يصارعون على البقاء مدة خمس وعشرين عاما في ظل كتلة تحيط بهم تكرههم، فأصدروا قانون يقضي بعدم دخول المسلمين واليهود أورشاليم، وقاموا بطرد المسيحيين المحليين لأنهم شكوا في تآمرهم مع المسلمين حتى وصفتهم كارين بقولها:
«ولم يميز أولئك الغربيين الجهلة بين الفلسطينيين والأقباط المسيحيين والسوريين والعرب بعامة، هذا بالإضافة إلى القلة من الفرنجة هي التي رغبت في العيش في أورشاليم رغم قدسيتها البالغة، لذا أصبحت المدينة شبحا لما كانت عليه من قبل، وفضلت الغالبية العيش في المدن الساحلية حيث الحياة أكثر أمنا والفرص أوفر للتجارة والمعاملات»
المسجد الأقصى:
بعد الغزو مباشرة انتقل جودفري للإقامة في المسجد الأقصى متخذا منه مسكنا ملكيا له وقام بتحويل قبة الصخرة إلى كنيسة سماها “معبد الرب” ورغم أن هذا المكان المختار من البطريرك للإقامة فيه نائيا بعيد عن إقامة الصليبيين على التل الغربي إلا أنه كان مهم له في حياته الروحانية ومن ثم المتعبدين من جموع الصليبين، مع العلم أنهم يعتقدون أن هذه البقعة ليست هي التي بنى فيها سيدنا سليمان الهيكل ولكنهم يعتقدون أن هرقل قد بارك هذا المكان ومن ثم دنسه المسلمون بالإقامة فيه فكان ولابد من إقامة كنيسة ويعلو قبة الصخرة صليب، وغطيت القبة بغلاف رخامي وغطيت الآيات القرآنية بنقوش لاتينية لطمس معالم المسلمين ونفي تواجدهم أصلا بالمدينة.
جنود المسيح، الأخوة الفقراء:
هؤلاء مجموعة من الرهبان طلبوا من بلدوين أن يسمح لهم بحماية الحجاج من البدو والمسلمين فمنحهم مقرا رئيسيا في جزء من المسجد الأقصى، وقام بلدوين ببيع سقفه المعدني، وتم عمل الجزء المتبقي اسطبلات لخيولهم سميت اسطبلات سليمان ومخازن للأسلحة والإمدادات، وأخرى للحبوب، كما استخدم منه جزء كحمامات ومراحيض وأنشأت حديقة على السطح إلى جانب مقصورات وصهاريج، وأضافوا جناحا جديدا يحوي ديرا ومقصفا وحجرة طعام وأقبية للخمور.
بعد وفاة جودفري عين بلدوين الذي فتح سيزريا وحيفا ويافا وطرابلس وصيدا وبيروت (عملا بوصية البابا) وتم ذبح السكان وتدمير المساجد في المدن التي فتحت فهاجر المسلمون إلى مناطق أخرى أكثر أمنا.
لم يشعر الصليبيون بالأمن ولم يتمكنوا من إقامة علاقات إنسانية مع السكان المحليين فذهبوا للإقامة في المناطق الساحلية وهؤلاء (الصليبيون) كان معظمهم جنود وفلاحين وتلك المناطق يعتمد الإقامة فيها على امتلاك حرفة أو مهارة ما وهم عدموا ولكن قانون الغزو الأوروبي جعل من حق كل من اشترك في الحروب الصليبية أن يصبح مالكا للأرض أو المنازل، وكان الصليبيون هناك لا يخضعون للهرمية الإقطاعية الأوروبية، لذا كان من حقهم التملك كأشخاص محررين من عبودية الإقطاع الأوروبية، وبذلك أصبح أولئك العبيد ملاك بيوت وأراض وضيعات في أورشاليم وأكنافها.
كان بلدوين أكثر تفتحا من جودفري فقد أيقن أن المسيحيين المحليين أصبح غير مرغوب فيهم من المسلمين بسبب ما ارتكبه الصليبيون فكانت نظرة المسلمين تجاه المسيحيين المحليين بها كثير من الارتياب، فاستدعى المسيحيين من شرق الأردن ووعدهم بامتيازات كثيرة وأسكنهم في المناطق الخالية من السكان بأورشاليم أو الذين هجروا، وسمح لهم بإقامة الكنائس التي تخصهم (بلدوين من المسيحيين اللاتين)
أزال الصليبيون المحاكم الشرعية الإسلامية (وهذه يتساوى فيها النبلاء والرعاع) وأنشأوا بدلا منها محاكم تضم ثلاث مستويات، محكمة النبلاء العليا، محكمة الأوروبيين للعامة، محكمة للمسيحيين السوريين وهؤلاء أدنى منزلة!!
تأقلم سطحي:
توفى بلدوين وعين مكانه ابن عمه بلدوين أيضا وهذا الأخير أبدى بعض التسامح ونبذ التعنت على نحو ما وذلك بسبب نشوء جيلا جديدا من الفرنجة لا يعرفون شيئا عن أوروبا ولم يعيشوا بها فتمثلوا الحضارة المحلية وفي ذلك تقول كارين:
«في عام 1120م حضر بلدوين مجلس نابلس من أجل كبح جماح توجه بعض الأجيال الجديدة من الصليبيين إلى التمثل بالحضارة المحلية وكان فوشيه الشارتري قد خاطب بحماس قائلا أيها الغربيون لقد أصبحنا شرقيين، فإن إيطالي وفرنسي الأمس قد تم زرعهم هناك وأصبحوا رجالا من الجليل وفلسطين.
وكان ذلك دون شك من المبالغات، بيد أن الفرنجة تغيروا على مر السنين، فقد شب جيل كامل منهم في الشرق دون أي ذكريات عن أوروبا، وتعلموا هناك الاستحمام الذي كان ممارسة لم يسمع عنها في الغرب تقريبا، وأصبحوا يعيشون في بيوت داخل مدينة بدلا من الأكواخ الخشبية، ويرتدون ملابس ناعمة وكوفيات، أما نساؤهم فكن يرتدين الحجاب مثل النساء المسلمات وكانت تلك الممارسات تسبب الصدمات للحجاج القادمين من أوروبا، فقد بدا الفرنجة في فلسطين وقد تبنوا أساليب السكان المحليين! وبما أن العالم الإسلامي قد وصل إلى مستوى أرقى بكثير من مثيله في أوروبا في ذلك الوقت، فقد بدا فرنجة فلسطين للأوروبيين تبنوا حياة متفسخة وعقيمة، وكان عديد من الفرنجة الفلسطينيين قد تحققوا أنه من الضروري أن يتكيفوا نوعا ما في سبيل استمرار بقاؤهم، فكان عليهم أن يتاجروا مع المسلمين ويؤسسوا علاقات عادية، كما قام بلدوين بتخفيف القيود على استبعاد اليهود والمسلمين من القدس، وسمح للمسلمين بإدخال الأطعمة والبضائع إلى أورشاليم والإقامة فيها لمدة محدودة، وبحلول عام 1170 كانت هناك عائلة من الصباغين اليهود تعيش قرب القصر الملكي»
وللحديث بقية إن شاء الله