فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (19)
صدع الهوية:
منذ مهد الدعوة الإسلامية والشغل الشاغل لمناهضي التوحيد في الأرض هو كيف يصيبوا أتباع هذا الدين بالزيغ الذي يجعلهم يحيدون عنه
﴿وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً ۖ فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَإِن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ ۖ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾ النساء 89
وهو الذي جعل أتباعه أعزة بعد أن ذاقوا الويلات من أساطين الكفر، فتكتل الفرقاء ليكثروا سوادهم أمام تلك الدعوة الوليدة التي تنقض غزلهم أنكاثا،
فنسجوا المؤامرات تلو المؤامرات ولم يتوانوا في الحروب العسكرية التي لم تحقق لهم مطلوبهم خاصة بعد الحروب الصليبية
فلجأوا إلى الاستشراق ليتوغلوا في أضابير هذه الأمة ومنها يعرفون الثغرات التي من خلالها يمكن اختراقها ومن ثم يوقفوا التمدد الملغز أو الذي كان ملغزا لهم ويضعوا أيديهم على موطن القوة الحقيقي لها،
فخرجت الدراسات تلو الدراسات التي تفيد بأن مكمن قوة هذه الأمة هو الدين نفسه بشموليته التي تحيط بحياة الفرد والمجتمع،
فلما ارتأوا صعوبة النيل منه أو تفكيكه بدأوا في التفكير بتشتيت الداخل لدى المسلمين بإشعال فتيل الحضارات القديمة والسابقة على الإسلام
وكما قال أحد المستشرقين الانجليز أن هذا التنقيب عن الحضارات القديمة في بلاد المسلمين ما كان إلا لرغبتهم في صدع الداخل لدينا فلا نعرف إلى أيهما ننتمي؛ للحضارات الوثنية السابقة على الإسلام أم للإسلام نفسه وهكذا أرادوا أن يكون هذا مقابل لذاك وليس أصل ننحدر منه في زمن مضى.
إحياء القوميات بديلا عن الإسلام
يتوازى هذا مع إحياء القوميات كي تعلو نعراتها وتصبح بديلا عن الإسلام فيسحبوا البساط من تحته ويشدوا الأنظار إلى غيره
(الفرعونية وأرض الكميت في مصر، والفينيقية في سوريا والمارونية في لبنان، والأمازيغ والتتر…….)،
وتم تأطير هذه الديباجة مع حلول نابليون إلى بلادنا فأطلقوا شرارة القومية المصرية ثم العروبة «للتعمية» مقابل الإسلام
كي يخفت صوت الأخير في النفوس وندخل غير مأسوف علينا إلى سنوات التيه التي نرتع فيها منذ مائة عام أو يزيد على الرغم من أن القرآن قد تعرض لهذه القضية ببساطة منقطعة النظير فقال المولى في محكم التنزيل «هو سماكم المسلمين»،
تدشين إلهي لكل الهويات السابقة على الإسلام لتذوب في بوتقته وتتحطم على صخرته العصية على النوال،
فهو الذي يستوعب كل الألسن والثقافات والعرقيات والإثنيات دون معوقات تذكر،
ولكن عدونا اتخذ منها الذريعة التي يتكئ عليها في حربه على الهوية التي ارتضاها لنا ربنا عز وجل والتي تصد مكائدهم صدودا.
ولك أن تتخيل كيف أطلت القومية العربية برأسها في القدس لتأخذ سكان المدينة على تنوعهم وتشعل جذوة الاختلاف بينهم في الوقت الذي أهمل الأتراك أهمية العروبة التي هي قلب الإسلام ودماغه المفكر ليلتحم استياء العرب بعامة من سلوك العثمانيين تجاههم مع الفرقاء بالقدس لتنطلق الدعوة إلى الاستقلال عن الدولة العثمانية (وهو ما اشتغل عليه المستشرقون قبل ذلك بثلاثمائة عام قبل حلول نابليون إلى بلادنا)
فكان ذلك أدعى إلى القناصل الأوروبية التي تتابع عن كثب نمو نطفة القومية العربية لتتحول إلى جنين أوشك على الخروج لينفرط العقد وتتفكك الكتلة إلى دول تتصارع فيما بينها دون توقف بحدود جديدة اصطنعت على عين الضابطين الإنجليزي والفرنسي سايكس وبيكون مما يدل على أننا بلغنا من الضعف الهشاشة حدا غير مسبوق فيقول الضابط الإنجليزي مفتخرا بفعله للآخر الفرنسي أنني اصطنعت أعلام اثنين وعشرين دولة في نصف ساعة.
هكذا فعلوا كي ينفردوا بكل بلد على حدىً ويصبح لكل منا شأن يغنيه.
اليهود يشترون الأراضي من الدولة العثمانية
في ذلك الوقت كان اليهود يشترون الأراضي بذرائع مختلفة من الدولة العثمانية (والتي أسقطها تساهلها مع الأقليات)
فعميت الرؤية على السلطة في ذاك الوقت، وبنوا عليها المستوطنات المدارس والمؤسسات الدينية على اختلاف مسمياتها في تغافل مهين من الدولة العثمانية،
بينما الغرب المسيحي كله يدعم فكرة إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين من منطلق ديني بحت يخصهم كمسيحين والذي تبنته إنجلترا خاصة وتبعها الباقون وفي ذلك تقول كارين:
«وكان أسلوب البريطانيين مختلفا نوعا ما، فقد طوروا شكلا من أشكال الصهيونية غير اليهودية أو المسيحية،
فزعموا ان فهمهم للإنجيل قد أقنعهم أن فلسطين تنتمي لليهود وبالفعل تطلع البريطانيون من أصحاب التوجه الواقعي لإنشاء وطن يهودي في فلسطين تحت حماية بريطانيا العظمى واتفقت تلك النظرة تماما مع سياسات القناصل البريطانيين،
وما لبثت تلك النظرة أيضا أن لقيت مؤازرة العديد من البروتستانت في انجلترا حيث كان الانجيل يقرأ ويفسر حرفيا فيما يختص بعودة اليهود يوما ما إلى جبل صهيون، في حين كان ينظر إلى العرب على أنهم مغتصبون مؤقتون»
صندوق استكشاف فلسطين
وهكذا اتخذ الأوروبيون التحديث ذريعة للتملك فأرسل القنصل الانجليزي ويلسون طلبا لبلاده لإنشاء صندوق لاستكشاف فلسطين عام 1856 لإجراء الأبحاث الأثرية والتاريخية
وتم الإفصاح عن تلك الرغبة في التملك المتأصلة في تلك «الحملة الصليبية السلمية» على لسان أسقف يورك رئيس الجمعية العامة الجديدة الذي أعلن قائلا في خطاب افتتاح الهيئة:
«إن فلسطين هي ملكي وملكك، إنها ملكنا بشكل جوهري، إنها الأرض التي خرجت منها أنباء خلاصنا
وأنها الأرض التي نتوجه إليها كأساس لكل آمالنا، إنها الأرض التي ننظر إليها بوطنية خالصة كما ننظر إلى انجلترا الحبيبة العتيقة»
هذه هي فلسطين في مخيلة الذات المسيحية (هذا رغم اعتراض العوام الآني في بلادهم عما يحدث في غزة،
فلا ننكر تغلب الفطرة السليمة عند البعض ولكن النخب الدينية وبالتبعية السياسية والعلمية مازالت على نفس النهج)
الحفر الأول أسفل المسجد الأقصى:
وصلت اللوادر والحفارات من إنجلترا مع فريق الأبحاث الاستكشافية عام 1867
وبدأت عملها بالحفر قريبا من أسفل الحرم فعملوا أنفاق يصلون من خلالها إلى قواعد الجدران نظرا لرفض السلطة أي حفائر أسفل المسجد،
واشتبك معهم بعض العوام ولم تتعاون معهم السلطات المحلية وكانت في حالة من الارتياب تجاه أولئك الصليبين الجدد،
وتبعهم آخرين من باقي أوروبا وأمريكا ليصلوا في نهاية بحوثهم إلى أن مملكة داوود لم تكن على جبل صهيون
وأن تاريخ هذه المدينة لم يبدأ مع القدس كما هو معلوم لديهم بل كانت على تل الأكمة حيث أنهم وجدوا مقابر من العصر البرونزي
ونظم مياه وتحصينات أثبتت أن المدينة أكثر قدما من داوود وبالتالي لا يمكن الادعاء أن القدس ملك لليهود باعتبار أنهم أول من سكنوها وعلقت كارين على ذلك قائلة:
«وفي الواقع فقد تعمد الإنجيل توضيح أن الإسرائيليين قد انتزعوا كلا من فلسطين وأورشاليم من أيدي سكان محليين وهكذا بات من الممكن للحفريات الحديثة تهديد بعض الأمور اليقينية للعقيدة»
خلاصك في يدك:
هكذا تغير معتقد اليهود العلمانيين الذين أسسوا العقيدة الصهيونية والذين هم امتداد طبيعي لكتاب التلمود الدموي، بعد أن عاشوا أزمانا يرون خلاصهم في ظهور مسيا (مسيحهم)
والذي سيقيم مملكة داوود على جبل صهيون ويبني معبد الرب مرة أخرى، بدأوا بالتفكير في أن يدبجوا الميثاق الذي به يدفعون عن أنفسهم احتقار الأوروبيين لهم والثأر لأنفسهم ممن يعادي السامية
فكان عليهم أن ينشئوا التنظيمات الداعمة ويختاروا القادة الذين يمثلونهم ويأسسوا صندوق لشراء الأراضي في فلسطين،
وقام الحاخامات بحث الأثرياء مثل عائلات منتيفوري وروتشيلد على إنشاء شركة لتوطين وهجرة اليهود إلى فلسطين،
ولاقت هذه الدعوى الترحيب والمؤازرة من أوروبا وأمريكا باعتبار الصهيونية والعودة إلى جبل صهيون لهو المقدمة لإقامة المدينة المسيانية أو الطوباوية المنشودة لعودة مسيح هؤلاء أو تلكم.
أشد الداعمين لليهود
ورغم أن المؤرخ الألماني هينريتش جراتز من أشد الداعمين لليهود في دعواهم
لكنه كان معتقد يقينا أن اليهود لا يمكنهم فصل الدين عن السياسة كما المسيحيين لأن اليهودية عقيدة سياسية في جوهرها.
والحقيقة أن هذا ما ذكره أيضا جمال حمدان أنهم قومية منفصلة في حد ذاتها
وكانوا يعيشون في جيتو داخل البلدان التي يحملون جنسيتها وبالتالي هم لم ينتموا يوما ما إلى تلك البلدان.
هؤلاء اليهود الذين تربوا على أيدي الألماني جراتز أصبح كل فرد منهم كيان موحد من التواراة الجديدة (التلمود) والأمة اليهودية والأرض متمثلة في فلسطين،
لم يتبقى سوى التنفيذ الفعلي على الأرض فكانت البداية هي احتلال إنجلترا لمصر كي يتمكنوا من فلسطين،
وعقدوا أول مؤتمر لهم عام 1899م في بازل واختاروا هيرتزل متحدثا رسميا باسم الصهيونية.
العلية: «بضم العين» وهو تعبير ديني لدى اليهود يعني الهجرة إلى فلسطين،
الهجرة الأولى كانت خلسة في المائة عام الأخيرة من عمر الدولة العثمانية بمساعدة إنجلترا،
والهجرة الثانية كانت عام 1902 بمساعدة إنجلترا أيضا، ومن أبرز المهاجرين في تلك المرة ديفيد بن جوريون،
وفي عام 1909 بدأ بناء تل أبيب بجانب الميناء الغربي «يافا» والتي توافد عليها المستوطنون ذوي السمت والهوية الدينية و
هم الذين أنشأوا المزارع في الدجانية بمنطقة الجليل عام 1911 ثم توالت الإنشاءات من مزارع ومدارس الزراعة والحقول والمراعي،
في هذا الوقت قد ازداد استياء العرب من الاحتلال التركي (ولم يستاؤوا من الاحتلال الصهيوني الذي مورس بين ظهرانيهم على قدم وساق)
فانطلق ما يسمى بالثورات العربية لتقسم إنجلترا وفرنسا الدولة العثمانية إلى دويلات تحت خدعة «الاستقلال»
بينما ابتلع الصهاينة فلسطين بدعم مفضوح من أوروبا وأمريكا كان ولا زال يزيد ولا ينقص.
التماس لمنع هجرة اليهود
في عام 1891 أرسل سكان القدس التماسا إلى استنبول لمنع هجرة اليهود إلى المدينة أو بيع أراض أخرى لهم،
وأنا بدوري أتعجب أين كان هؤلاء منذ ثمانين عام توغل فيها اليهود وتمكنوا وأقاموا المستوطنات دون وجل داخل فلسطين.
أما حاكم المدينة في ذلك الوقت يوسف الخالدي أرسل خطابًا للحاخام زادوك يتوسل إليه في ترك فلسطين وشأنها قائلا:
«إن اليهود والمسيحيين والمسلمين تمكنوا لقرون عدة من العيش معا في القدس، غير أن الخطة الصهيونية ستقضي على ذلك التعايش»
ومنذ ذلك الوقت، مائة عام والتعامل مع ذلك العدو بلغة ناعمة لينة ولم يطله منا شيء من الخشونة سوى اللمم لذا استهان بنا،
حتى استفاق على طوفان الأقصى الذي قلب الطاولة عليهم ففقدوا توازنهم وارتبكت حساباتهم مهما ادعوا التماسك ومهما تلقوا من دعم.
وللحديث بقية إن شاء الله