فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (21)

حصادهم وتشرذمنا:
شرفني الله على مدى عام نصف العام تزامنا مع طوفان الأقصى المبارك فقمت بملازمة مؤلف الراهبة المستشرقة الإنجليزية كارين أرمسترونج عن تاريخ فلسطين وطبيعة الصراع فيها وانعطافا على بحثها خلصنا في هذه السلسلة إلى أن الصراع الدائر في فلسطين هي حرب دينية صليبية استعمارية بامتياز وإن تلاحم معهم أو تصدر المشهد الصهاينة مؤخرا وأن بلوغ اللنبي فلسطين كان استكمال لعمل الصليبين القدامى من ملوك أوروبا ريتشارد قلب الأسد وفيليب أوغسطين وآخرين.. وأن العمل الصهيوني كفكرة بدأ قبل التواجد على الأرض بثلاثمائة عام تقريبا، والتواجد الفعلي المادي ببناء مستوطنات وتسرب العبرية إلى جانب العربية والإنجليزية في مكاتبات الديوان فيما يخص أوقاف القدس على الأقل بدأ قبل الإعلان بمائة عام.
هي حرب دينية بامتياز شد الرحال إليها الرهبان والقساوسة من أوروبا ثم الحاخامات في غفلة من المسلمين (النخبة) الذين يعانون رقة في الدين والطابور الخامس من الخشب المسندة المتغافلين أو المتواطئين كي ينفرط عقد الخلافة الإسلامية إلى دول تتصارع فيما بينها في الوقت الذي شق قلب الأمة بسرطان علا ظهرها كالقتب وهو حصاد الحروب الصليبية الأولى والتي لم تتوقف إلا من جانبنا، هذا الكيان الغاصب لفلسطين ولكي يبقى قائما كان لابد من إفساد بلادنا وإنهاكها ولصق كل سوء بمن يحاول شرح طبيعة الصراع وحقيقته وكيفية الخلاص والسبيل إلى الخروج من التيه المضروب علينا كعقوبة إلهية لانحرافنا عن منهجه.
تقول كارين:
“وفي البداية أنشأ البريطانيون والفرنسيون نظم الانتداب والحماية في بلاد الشرق الأدنى، غير أن الدول والممالك العربية أخذت في الظهور الواحدة تلو الأخرى، وكانت الأردن ولبنان وسوريا ومصر والعراق ضمن تلك الدول، وكان من الممكن لفلسطين أن تصبح دولة مستقلة عاصمتها القدس (التي كانت قد أصبحت مدينة مهمة) نظرا لتواجد نفس العوامل التي أدت لظهور الدول والممالك العربية الأخرى، بيد أن ذلك لم يحدث، ففي أثناء فترة الانتداب البريطاني أمكن للصهاينة تأكيد وجودهم وتكثيف أعدادهم، وظلت القدس غنيمة دينية واستراتيجية يتنازع ملكيتها اليهود والعرب والمجتمع الدولي، بيد أنه في النهاية وفي عام 1967 انتصرت المناورات العسكرية والدبلوماسية اليهودية وأصبحت القدس عاصمة لدولة إسرائيل اليهودية، وفي يومنا هذا صارت شخصية المدينة العربية مجرد شبح أو ظل لما كانت عليه حينما دخلها اللنبي وقواته، وكان الانتصار الصهيوني غير عادي، ففي عام 1917 كان العرب يكونون 90% من تعداد السكان الكلي لفلسطين وأقل من 50% من تعداد سكان القدس، وحينما يسترجع العرب واليهود ما حدث تتملكهم الدهشة، فاليهود ينظرون إلى ذلك النجاح الذي فاق كل تصوراتهم على أنه يصل إلى حد الإعجاز، في حين يتحدث العرب على أنها النكبة وليس من المستغرب أن تتجه تقارير كلا الجانبين والتي تكتسب في كلا الجانبين إلى اللون الأبيض أو اللون الأسود إلى تبسيط القضية تبسيطا شديدا وإلى عرضها من منظور الأخيار والأشرار والحق الكامل والباطل والإرادة الإلهية والعقاب الإلهي، بيد أن الواقع كان أشد تعقيدا، فقد حددت تلك النتائج، إلى درجة بعيدة مهارة وذرائع وحيل وقادة الصهاينة الذين تمكنوا من التأثير على الحكومات البريطانية أولا وبعد ذلك على الحكومات الأمريكية والذين أظهروا أيضا معرفة تامة بالعملية الدبلوماسية، فكان الصهاينة كلما قدمت لهم القوى العظمى أي شيء قبلوا به رغم قصوره عن احتياجاتهم ومطالبهم، وفي النهاية فازوا بكل شيء كما أن الصهاينة تمكنوا من التغلب على الانقسامات داخل حركتهم، أما العرب فلم يكن لهم نفس القدر من حسن الحظ فبينما هم يترنحون تحت تأثير صدمة انهيار الإمبراطورية العثمانية ووصول البريطانيين، كانت الحركة القومية العربية في فلسطين يعوزها التناسق وتفهم سياسة الأمر الواقع أي أنها يعوزها الأمرين الضروريين للتعامل مع الأوروبيين من جانب، ومع الصهاينة من الجانب الآخر كما أن العرب لم يكن بمقدورهم تنظيم مقاومة طويلة المدى، ونظرا لعدم اعتيادهم على الدبلوماسية الغربية، كانوا يرفضون كل ما يعرض عليهم على أمل أن تضمن لهم سياسة الرفض الحازمة التي لا تقدم التنازلات حق إقامة دولة مستقلة على أرض هم مالكوها طبقا للدلائل الديموغرافية والتاريخية بيد أنهم فقدوا كل شيء نتيجة لاستمرار استعمالهم للفيتو وبإنشاء دولة إسرائيل عام 1948 حل الفلسطينيون المشردون المنتزعون من جذورهم والمسلوبة أراضيهم محل اليهودي المتجول التائه المنتزع من جذوره والمسلوبة ممتلكاته”
ولنا هنا وقفة لتفكيك هذه السطور المهمة:
العالم كله عبارة عن تجمعات أو كتل ضخمة حتى أكون عصية على الانكسار أو الهزيمة حتى وإن لحق بها هزيمة أو إخفاق ما تكون قادرة على تجاوز محنتها بسرعة لذا فإن فكر الامبراطوريات القديمة قائما لم يتغير إلا شكليا فقط بإجراءات هزيلة لا تخدع إلا السذج والسطحيين، بتحريف الكلم عن موضعه وهذا دأبهم باستخدام مفردات جديدة ولكنها عميقة الدلالة كشفرات تنبيء عن نواياهم التي سرعان ما تتكشف، والتفكر المتمهل يقودنا إلى ذلك، المستشرقون كانوا يسبقون الجيوش بالخطو إلى بلادنا للبحث والتقصي لاختراقنا من أضعف الثغرات، ومازالوا موجودون لم يبرحوا بلادنا فهم ما يطلق عليهم “خبراء في شئون الشرق الأوسط” وهم من يعملون من خلف “منظمات المجتمع المدني” وهم المنصرون الذين يرافقون الحروب والأزمات (وما أكثرها في بلادنا) وغيرها يرتدون الأقنعة بمسميات مستحدثة تخفي عملهم الحقيقي.
من أجل ما خلصت إليه أبحاثهم وجوب تفكيك الكتلة، الخلافة وتقطيعنا إلى دول متناحرة فيما بينها لكي ينشئوا نظاما جديدا يزرعون بيننا هذا السرطان المقيت، تلك الدولة المخلقة التي اصطنعوها عنوة في فلسطين.
وشاء الله أن تكون فلسطين هي الترمومتر الحراري التي بها يقاس المسلمين إيمانيا، هذه الحرب الدينية لا يتصدى لها دعاة القوميات التي أطلق شرارتها نابليون وعساكره لمناهضة الإسلام (فراعنة وكميت وفينيقيون وآشوريون وأمازيغ وترك…..) وإنما يتصدى لها ذوي العقيدة السليمة إيمانيا، فالذي فتح الباب للصهاينة بالهجرة إلى فلسطين كان الانجليز المحتلين لمصر وفلسطين آنذاك.
أخطر ما يمكن أن تتعرض له الأمة وأكثر خطورة من الاحتلال نفسه هو استبعاد النخب الكفاءات الحقيقية من المشهد وتولى من هم دونهم بمراحل فتكون النتيجة الحتمية التي وصلنا إليها وهو ما حذر منه نبينا صلى الله عليه وسلم: حيث قال
وما أكثرهم
” أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل بالقرآن “
قال صلى الله عليه وسلم:
سيأتي على الناس سنوات خداعات يصدق فيها الكاذب، ويكذب
فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه في أمر العامة.”
كم منافق وكم رويبضة تكلم في أمر العامة في الوقت الذين ينزلون فيه مفكريهم منازلهم فلم يضلوا وإنما نحن الذين ضللنا.
استغراق عوام المسلمين في الحزن على نقض الخلافة وفقدان البوصلة التي تعيدهم إلى جادة الصواب هي من تبعات استبعاد النخبة الحقيقية (هل تذكرون الذي سلم القدس للمنصرين الأمريكان وأخذ منهم ملاءة بيضاء ليلف نفسه بها أثناء هروبه، هل تذكرون الشريف حسين حاكم مكة وخيانته والكثير والكثير…..)
كارين هي من قالت ان نسبة العرب بفلسطين عام 1917 (عام وعد بلفور) كانت 90% وفي القدس كانت أثل من 50% فكيف تستقيم هذه الإحصائية؟!
تستنكر كارين علينا إيماننا بالقضاء والقدر وتوعز إخفاقنا إلى هذا الاعتقاد وإلى عدم قدرتنا إلى التعامل مع الأمر الواقع الذي فرضوه علينا بينما المشكلة الحقيقية أن يوضع الرجل المناسب في المكان المناسب وهذا التوصيف ينطبق على الأمين الصادق المفكر العليم ببواطن الأمور والذي يستبعد من المشهد في بلادنا بينما في بلادهم يوضع في البؤرة، وأوعزت نجاح اليهود إلى حنكتهم ودربتهم وتفوقهم ونسيت فعلهم ببلادها عندما أرغمتها عائلة روتشيلد على الاستدانة منهم ومن ثم الرضوخ لمطلبهم بإنشاء بنك في لندن لتحيلهم من امبراطورية لا تغيب عنها الشمس إلى عاصمة الضباب فهل لنا أن نقول أيضا أنهم فعلوا ذلك بدربتهم وتفوقهم؟!
فكرة إنشاء البنوك الربوية هي فكرة شيطانية للاستحواذ على ثروات العالم بأيديهم فيتحكمون بالاقتصاد الذي يتبعه القرار السياسي والإعلام والثقافة والفنون والرياضة والسياحة، كلها تدار بالمال، والمسلمون إن أرادوا الفكاك من منظومتهم لابد أن يصبحوا كتلة تقيم مشروعات كبرى وتستطيع أن تفرض نظامها بقوة اقتصادها، أما الدول المتناحرة والتي يسعون لتقسيمها إلى دويلات لا تملك من أمر نفسها شيء تابعة للكيانات الكبرى التي تفرض عليها أن تبيع لها المواد الخام بثمن بخس ولا تصنعها ثم تعيدها إليها بأغلى الأثمان وهذا فيض من فيض لم يغيض، إنها المنظومة التي أنشأت من أجل الدولة المخلقة في فلسطين.
وللحديث بقية إن شاء الله