بحوث ودراسات

فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: القدس.. ملتقى الأنبياء (23)

وديعة حضارية مقدسة:

هذا ما أوصت به اللجنة الدولية بشأن القدس أن تبقى تحت قيادة دولية كي تبقى متاحة للجميع بينما قدمت القيادة الصهيونية خطة لتقسيم القدس بحيث يستحوذ اليهود على غرب القدس الجديدة بينما تبقى المدينة القديمة والقدس الشرقية تحت قيادة إنجلترا.

رفض العرب الخطة وتمسكوا بالرفض حتى أتى موقفهم أكله، ففي بداية عام 1939 استطاعت بعض الدول العربية التأثير على إنجلترا برفض الخطة الصهيونية خاصة وهي على أعتاب الحرب العالمية الثانية (وهي كالغريق الذي يتعلق بقشة وبحاجة لمن يؤازرها في الحرب الوشيكة التي دبرها اليهود لنقل القيادة إلى نيويورك) فأصدرت ما يسمى “بالورقة البيضاء” مفادها إلغاء خطة التقسيم والحد من تراخيص الهجرة إلى فلسطين وترك فلسطين موحدة يحكمها العرب واليهود معا.

إرهاب شرعي:

نشأت حركة إصلاحية رفضت ورقة إنجلترا وقامت بتنفيذ عمليات إرهابية ضد إنجلترا التي انحازت للعرب “مضطرة” ونشأت جمعية الليهاي عام 1940 بعقيدة سافرة بأنه لا فرق بين إنجلترا والنازيين، وعلى حد تعبير كارين فإن اثنين من الإرهابيين اليهود الذين كانا على رأس هذه الجماعة أصبحا رئيسا وزراء لكيانهم في فلسطين وهما إسحاق شامير ومناحم بيجين.

ومع تصاعد الحرب وبروز الأعمال النازية ازداد الإلحاح على ضرورة وجود دولة يهودية موحدة غير مقسمة حتى لو أدى ذلك إلى طرد العرب من فلسطين كلها.

وفي أعقاب الحرب طلب الصهاينة من إنجلترا السماح لمائة ألف لاجئ يهودي نجوا من معسكرات النازية بدخول فلسطين فرفض الانجليز بإصرار فقام الصهاينة بتفجير جناحا في فندق الملك داوود اتخذت منه إنجلترا مقر دائم لإقامتها، في تلك اللحظة استشعرت إنجلترا الذبيحة المتضعضعة بعد الحرب أنهم فقدوا السيطرة وأن وجودها بفلسطين أصبح ضار بهم مما دعاهم لإعطاء ملف فلسطين لمنظمة الأمم المتحدة فقامت الأخيرة باستصدار قرار جديد للتقسيم وتدويل القدس بما يضمن مصالح اليهود ومجحف للعرب بالطبع والذين رفضوه.

اشتعلت المواجهة بين اليهود والعرب قبل إنهاء الانتداب البريطاني، اشترك في المواجهة كلا من سوريا والعراق ولزمت إنجلترا الحياد الآثم، واتخذت المواجهة تنامي الصعود المتبادل بين الجانبين إلى أن قام شارون بمذبحة دير ياسين حيث قام بذبح 250 رجلا وامرأة وطفل وقطعوا جثثهم أشلاء، وعبر مكبرات الصوت هدد اليهود العرب بملاقاة مصير سكان دير ياسين إن لم يغادروا منازلهم ويهاجروا، فقام العرب بأول نزوح بعد هذه المذبحة وفر 750 ألف فلسطيني خارج فلسطين، وفي 14 مايو 1948 أقام بن جوريون احتفالا لإعلان قيام دولتهم بحدود أكبر بكثير من المعترف بها من الأمم المتحدة، وكان اليهود ينوون الهجوم على القدس القديمة استكمالا للمذابح المدعومة من المجتمع الدولي ولكن وصول فيلق عسكري أردني حال دون وقوعها واقتسمت إدارة القدس بين اليهود والفيلق الأردني.

واقع جديد:

تم تنصيب الملك عبد الله ملكا للقدس والضفة الغربية وتم منح سكانهما الجنسية الأردنية وهو مالم تعترف به الأمم المتحدة، بينما من خرجوا إلى الدول العربية المجاورة بعد مذبحة ياسين عندما أرادوا العودة إلى مدنهم وقراهم منعتهم السلطات الأردنية، أما مفتي القدس فقد كون المجلس الوطني الفلسطيني كحكومة منفي في مصر بينما حاول الملك عبد الله بالتقارب مع الأسر الفلسطينية ذات النفوذ والتي كانت في عداء تقليدي مع المفتي لذا أسند لهم الملك مناصب في حكومة عمان والبرلمان الأردني، أما من تبقى من الفلسطينيين بالقدس فكانوا مستاءين من أهل عمان لأنهم كانوا أفضل تعليما وتقدما من معظم عرب الضفة الشرقية لذا رضوخهم للأردن كان فوق احتمالهم فكانت المشاكل بينهم وبين السلطات الأردنية تتجدد من آن لآخر ما يعني أن القدس تحولت على مركز مقاومة للفلسطينيين ضد السلطات الأردنية الحاكمة لأنهم ارتأوا أن الملك عبد الله عمل على إضعاف القدس وإخضاعها له، على إثر ذلك أصبح الملك يلبي احتياجات سكان نابلس والحليل أكثر من سكان القدس مركز المتمردين، وتم اغتيال الملك عبد الله في مدخل المسجد الأقصى من أحد الموالين للمفتي عام 1951

على الجانب الآخر عني اليهود بالقدس الغربية وأنشأوا الكنيست بها متخذين منها عاصمة لهم في تحدي سافر للعرب وللمجتمع الدولي، ونقل إسحاق زافاي الرئيس الثاني للكيان الغاصب مقره من تل أبيب (يافا) إلى القدس الغربية وتبعته بشكل تدريجي سفارات الدول الرافضة ما يعني تحول بلادهم إلى القبول الضمني، أما الملك حسين الذي تولى بعد وفاة أبيه فقد جعل من القدس الشرقية عاصمة ثانية للأردن وخطط لبناء قصر له بها.

انتقلت المؤسسات الحكومية إلى القدس الغربية واعتبرت موضع خطر لليهود فلم يقبل على سكناها الاشكناز (اليهود الغربيين) وعمدوا إلى تسكين السفارديم (اليهود الشرقيين) بها والذين شعروا بالتمييز العنصري ضدهم، وداخل المجتمع اليهودي عداء المتدينين للعلمانيين، واليهود الأرثوذوكس يعادون الدولة الإسرائيلية.

الحاخام جورين ينفخ في الشوفار:

بوق ينفخ فيه الحاخام مع بداية السنة العبرية، واليوم كان النفخ فيه استثنائي بعد ابتلاع كيانهم لبقية فلسطين وأجزاء أخرى من دول عربية مجاورة، وقف الحاخام بعد نفخه في البوق يتلو المزامير باكيا، فالآن فلسطين كاملة لهم والمناطق المحرم عليهم دخولها دخلوها وهم الذين كانوا يتوقعون هولوكوست جديد إذا بهم يبتلعون الأرض وهو ما يفوق أساطيرهم الدينية التي تربوا عليها، وقف الجنود يلتقطون الصور وهم يعتلون الحرم وأمام قبة الصخرة متحدين مشاعر المسلمين من طنجة إلى جاكرتا، إنه العلو الثاني.

وتناثرت من فيهم عبارات التأثر والإشادة بما حدث:

«لن يكون هناك مزيد من الدمار، كما أن الحائط لن يهجر مرة أخرى»

«إن الشعب اليهودي قد عاد لتوه إلى موطنه بأمر إلهي، كما عاد إلى سمو القداسة وإلى مدينته المقدسة»

كتب أحد أتباع الحاخامات والذي سار على رصيف الحرم وهو ملطخ بالدماء والقاذورات غير عابئ بالقوانين الخاصة بالطهارة والأماكن الممنوع دخولها على غير المتطهرين، وفيما بعد كتب فقال:

“وهناك وقفت في المكان الذي سيدخله الكاهن الأعلى كل عام مرة أخرى حافي القدمين بعد غطسات خمس في الميكفاه، أما أنا فوقفت هنا منتعلا مسلحا مرتديا خوذتي قائلا لنفسي هكذا يبدو جيل الغزاة”

مقاومة غزة:

لا تتخيلوا ما فعله هؤلاء الأبطال بأعدادهم المحدودة وسلاحهم البسيط، الصورة آنفة الذكر تبدلت للنقيض مهما يظهرون التماسك، فقد كسروا هذا الكيان من داخلهم، أصيبوا بهزيمة نفسية لا شفاء منها ودعكم من تصريحات ساساتهم الموتورين، إنها رقصة الموت الأخيرة رغم تضحيات غزة ورغم الألم والشعور بالعجز الذي نعانيه، هم يواجهون تحالف دولي بقيادة أمريكا وكل دول العالم تحارب مع جيش الصهاينة باعتراف إعلامهم، لا كمرتزقة وإنما عن عقيدة، الحرب مع المسلمين هي حرب مقدسة.

ولنا هنا وقفة:

قلت مرارا وتكرارا فلسطين هي الميزان الحراري الذي يقاس به وضع المسلمين إيمانيا، وعدونا يعلم ذلك، في رأيي الشخصي أن العرب كان لديهم فرصة ذهبية ولم يقتنصوها، وهي حالة التداعي التي كانت تعانيها بريطانيا العظمى قبل الحرب العالمية الثانية، فقد كانت تتحسب للقادم وكان من الممكن بقليل من الضغط عليها أن يصوب الخطأ إذا اغتنم العرب الفرصة، ولكن هذا ما كان له أن يحدث لغياب الكتلة التي تتصدى للكتلة، إنجلترا معها تحالف دولي كما أمريكا اليوم والعرب شراذم متفرقة وما زالوا.

ابنة موشى ديان لها كتاب اسمه «جندي من إسرائيل» قالت فيه نصا عن أيام ما قبل المعركة 1967: أن إذاعات العدو(مصر) كانت تقول:

«قاتل وأم كلثوم معك في المعركة، قاتل وعبد الحليم معك في المعركة، قاتل وفريد معك بالمعركة» لم يرد ذكر لله في المعركة، فكيف يكون النصر حليفكم؟

لو دخلنا معركة اليوم واستدعينا مذيع صوت العرب أحمد سعيد من قبره فماذا سيقول للجند المرابطين؟

قاتل ونمبر وان ببدلة الرقص معك بالمعركة، قاتل وذو القرط والذيل معك بالمعركة

قاتل وحمو وكسبرة وتورتيكا معك بالمعركة، قاتل وكل جاهل فاسق زنديق محدث نعمة معك.

استقيموا يرحمنا ويرحمكم الله، كم فرطنا وأفرطنا وكل ما نعانيه هو صفع إلهي كي نعود إليه صاغرين وإلا فالقادم أنكى وأشد، لماذا أنتم مصدومون من تصريحات الهلالي، والمذيع أسامة منير، والطفل المغتصب، هذه إشارات لها دلالات.

إلى الأزهر:

عندما كنت بالجامعة درست لنا أستاذة رياضيات حصلت على الدكتوارة من روسيا، هي ملتزمة دينيا ترتدي الخمار، قالت لنا نصا في الشهور الثلاثة الأولى لها هناك لازم تعليمها اللغة الروسية تعليم مبادئ الشيوعية، لما تعجبنا قالت هم يهمهم إن كان عددنا عشرة يكفيهم أن يعود واحد مننا معتنق للشيوعية ليبشر بها في بلادنا وسيمدون له يد العون، أما المفاجأة لنا أنها قالت هي وزوجها كانا في سكن بأحد البنايات فلما علم السكان أنهما من مصر جاءوا إليهم ومعهم المصحف يقولون لهما: أزهر…أزهر، يريدون منهما أن يعلموهم ما تعلموه في الأزهر، مع العلم أنها لم تكن خريجة الأزهر ولكنهم يتصورون أننا في مصر تعلمنا في الأزهر، فهمت منهم فيما بعد أنهم منذ سبعين عاما، فترة الحكم الشيوعي الذي أغلق لهم المساجد، أقاموا مساجد أسفل بيوتهم بعيدا عن أعين الدولة التي تحاربهم في دينهم.

مكانة الأزهر كبيرة في العالم لذلك امتد إليه التكونيون التنويريون، حافظوا عليها والفظوا ذابلكم والنطيحة والمتردية وما أكل السبُع.

وللحديث بقية إن شاء الله

فاتن فاروق عبد المنعم

كاتبة روائية وعضو اتحاد كتاب مصر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى