فاتن فاروق عبد المنعم تكتب: بقعة ضوء (16)
الحجاج داهية:
الطاغية المستبد الذي قال عنه الخليفة عمر بن عبد العزيز: «لو جاءت كل أمة بخبيثها وجئنا بالحجاج لغلبناهم»
ولكنه كان داهية في السياسة ولم يهزم له جيش ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، ذكرنا في المقال السابق أن جيش المسلمين في بلاد ما وراء نهر جيحون قد اختلفوا فيما بينهم وارتفعت النعرات القبلية بينهم مرة أخرى واستقووا على بعضهم البعض بقبائلهم وسطوتها ومنعتها، فلما استقر الأمر بخرسان (أفغانستان) وتم فتحها عدا بعض القلاقل في الأطراف عين الحجاج قتيبة بن مسلم واليا عليها، وهو من قبيلة صغيرة لم تتنازعه الأهواء كالسابقين عليه الذين مزقوا عرب خراسان شر ممزق، بالتالي فإن ولائه للحجاج أكثر من غيره ولن يقود حركة تمرد ضده، فحظيت هذه البلاد بالاستقرار لأول مرة، كان قتيبة رجل دولة يتمتع بحنكة ودهاء ولديه القدرة على تنظيم وقيادة الجيوش، يقف على مسافة واحدة من الكل فحظي باحترامهم، نجح في استقطاب عرب خراسان المختلفين واستطاع توحيدهم حول قضية الإسلام والجهاد ليقودهم لفتح البلاد وجعل لهم موطئ قدم بها وهو ما انشغل عنه القادة الذين ينتمون إلى قبائل عريقة الأصل واسعة الانتشار، وكادت تحدث انتكاسة تؤدي إلى الإطاحة بما اكتسبوه على الأرض.
البدو الأجلاف:
كما وصفهم الفرس والروم ذوي الحضارة والترف والرفاهية والثراء والجيوش المترامية والتقدم العلمي والمعرفي، ولم يكن الفرس والروم مخطئين في توصيفهم، بل كانوا محقين طبقا لمنطقهم ومنطقنا “نحن غثاء السيل” الذين نقيم الناس طبقا للتوصيف آنف الذكر، وطبقا لمحدودية رؤيتنا التي أوردتنا مورد التهلكة، لأننا نقيم الناس طبقا لألوانهم وصورهم وملبسهم وسلوكهم الحياتي المكتسب حسب إمكانيات البيئة التي يتواجدون فيها، ولكن الله لا يقيمنا بالصور والمظاهر والألوان الزائفة والتقدم الذي يغشي العيون ليلهي القلوب والعقول عن جوهر الأشياء التي بها يتنزه عن عبادة غير الله فيبقى حرا ما حي، ويلقى الله بنقاء سريرة وفطرة سليمة، قام بالدور الذي أراده الله له وليس الذي أراده من استعبدوه بعبادة الشيطان، كل عبادة لغير الله هي عبادة للشيطان، فماذا فعل البدو الأجلاف من أجل هذا الدين وما تحملوه من أهوال ومصاعب جمة، وماذا فعلنا نحن غثاء السيل بعد أن تم تفريغنا من الداخل فصرنا كيانات جوفاء لا قيمة لها ولا وزن؟
يقول كينيدي عن بخارى موطن البخاري جامع الحديث والذي نأخذ عنه العلم كمصدر موثوق به:
«في سنة 713م بني قتيبة مسجدا كبيرا فوق موضع بيت النار (معبود الفرس) فقد كان الدين الجديد أعلن على الملأ في مركز القوة والهيبة القديمة، ولم يكن إيجاد جماعة من المؤمنين يمكنهم أن يملئوه بالأمر البسيط، إذ كان يتم دفع درهمين لكل من يحضر صلاة الجمعة من الأهالي تشجيعا لهم، ولأنهم لم يكونوا يعرفون كيف يؤدون شعائر الصلاة، تم تعيين معلمين من الناطقين بالفارسية لكي يعلموهم كيفية الركوع والسجود، وكانت تتم قراءة القرآن بالفارسية لأنهم لا يعرفون العربية، ولم يكن أهل المدينة كلهم منبهرين بالدين الجديد، ونعلم أن الفقراء قد شدهم الدرهمان المقدمان ولكن كثير من الأغنياء قد بقوا في منازلهم الريفية على سبيل العناد، وفي أحد أيام الجمعة خرج المسلمون إلى هذه المنازل الريفية ودعوا السكان للقدوم إلى المسجد وكان الرد عليهم بوابل من الحجارة، وحينئذ هاجم المسلمون المنازل، وعلى سبيل إهانة السكان خلعوا أبواب البيوت لكي تستخدم في المسجد الجديد، وكانت هذه الأبواب تحمل صورا لآلهة العائلة، وعندما أحضرت الأبواب إلى المسجد تم مسح صور الآلهة، إما نتيجة لمنع الإسلام للتصوير أو ببساطة أكثر لإهانة الديانة القديمة وأتباعها، وبعدها بسنوات لاحظ النرشخي، مؤرخ بخاري محلي الصور التي أزيلت من الأبواب واستفسر عما كان قد حدث، وهي القصة التي وصلت إلينا، كذلك حدد قتيبة مكانا لصلاة العيدين عند أسفل القلعة في الرجستان (الميدان) وعندما جاء المسلمون للصلاة أول مرة تلقوا الأوامر بأن يجلبوا معهم أسلحتهم، لأن الإسلام كان حديث عهد ولم يكن المسلمون بمأمن من الكفار»
ثم يعترف كينيدي بنفسه أن المسلمون كانوا يحكمون من خلال السلالة الملكية القديمة طوال حكم الأمويين والعباسيين حتى نهاية القرن التاسع الميلادي، أي قرابة قرنين من الزمان، لم يقطعوا رقاب الملوك القدامى لينفردوا هم بحكم هذه البلاد، بل تلطفوا بهم.
ولنا هنا وقفة:
ما ذكره كينيدي لم أقرأه في أي مصدر، ولكن سأناقش ما ذكر بصورة مجردة من أي هوى، أولا القرآن لا يقرأ بغير العربية حتى عند الذين لا يتحدثونها، يترجم تفسيره ومعانيه لكن لا يترجم النص الأصلي أبدا، كان ومازال وسيظل بإذن الله.
ثانيا القرى التي سار بها المسلمون ينادون الناس إلى الصلاة وسيدفعون لهم درهمين، هذه البلاد حديثة عهد بالإسلام، وكان لديهم آلهة مختلفة من النار والشمس والكواكب وبوذا وغيرها……
لا يعرفون شيئا عن الإسلام، فكان هذا السلوك نوع من الحث والتحفيز ليعلموا من قبل منهم بالإسلام أمور دينهم، فما الخطأ في ذلك؟!
ثالثا، الأغنياء الذين رفضوا الاستجابة لنداء الصلاة وقذفوهم بالحجارة فكان رد فعل المسلمين أن عادوا وخلعوا أبواب بيوتهم ومسحوا صور الآلهة من عليها ووضعوها على المسجد، إن هذا لهو الدليل الدامغ على أنهم لم يكونوا مسلمين بدليل بقاء بيوتهم بما تأويه من مظاهر الشرك بالله، وهم الذين استفزوهم بإلقاء الحجارة عليهم كرها في الدين الجديد وتعصب لجاهليتهم التي هم فيها يعمهون.
ذكرنا آنفا أن الطبقة الحاكمة في هذه البلاد ظلت على وضعها طوال حكم الأمويين والعباسيين، وكثير من هؤلاء الملوك والأمراء كانوا ينافقون حكام المسلمين وهذا طبيعي، فقد جرى العرف على أن الأدنى ينافق الأعلى، والحق أن التوصيف الأخير كان للمسلمين ولكن العلو الذي أعنيه هنا هو علو وسمو الخلق بجانب القوة على الأرض، نيزك هو أمير من أمراء تلك البلاد كان بوذيا ويريد الاستئثار بإمارته بعيد عن سطوة المسلمين، وكان قد جيء به إلى مرو وانضم مع قتيبة إلى حملة بخارى فقال لأصحابه وخاصته:
«متهم أنا مع هذا ولست آمنه، وذلك أن العربي بمنزلة الكلب، إذا ضربته نبح، وإذا أطعمته بصبص واتبعك، وإذا غزوته وأعطيته شيئا رضي ونسى ما صنعت به، وقد قاتله طرخون مرارا فلما أعطاه فدية قبلها ورضي، وهو شديد السطوة فاجر»
بالطبع هذا الذي أعماه حقده الأسود فنفث عنه بهذه الكلمات، رغم أن كينيدي هو من قال عن المسلمين أنهم لا يسكنون بين سكان البلاد الأصلية كي لا يضايقوهم باختراق خصوصيتهم، ولم يقيموا محاكم تفتيش بل كان سكان البلاد التي فتحوها يتمتعون بخصوصيتهم الدينية والثقافية وسلوكياتهم طالما أنهم لا يتعاونون مع عدو خارجي، ولكن نيزك أرسل إلى ملوك وأمراء آخرين للتكتل ضد المسلمين الغزاة فلحقته خيبة الأمل لأن هؤلاء الملوك والأمراء سرعان ما تحالفوا مع قتيبة، ولكن بقي نيزك ومعه تحالفه العازم على التمرد وقد علم به قتيبة فأرسل إليه من يرده وقتله مع سبعمائة من شيعته وبذلك قضى قتيبة على حركات التمرد للأبد.
واستمر قتيبة بالزحف على مختلف المناطق من سمرقند وطاجيكستان وأخضع أهلها إما بالاستسلام أو بالجهاد، ومازال المسلمون على فروسيتهم ونبلهم مع سكان البلاد التي فتحوها ولكن كينيدي المعترف بذلك بنفسه دائما ما يعزي انتصارات المسلمين إلى الصدفة البحتة وفي الوقت نفسه يعترف أن لديهم جهاز مخابرات جيد، وأنهمم يجيدون تنظيم الصفوف وتقدير الموقف،وهو نفسه من قال أن المسلمين دمروا وخربوا هذه البلاد، وبالطبع فإنه في هذا القول لا يتبع إلا الهوى الذي يسيء إليه كعالم، فكيف يصدر الشيء ونقيضه من شخص واحد.
وللحديث بقية إن شاء الله