بحوث ودراسات

فرج كُندي يكتب: انتكاس فرنسا في إفريقيا

هيمن المستعمر الفرنسي على مناطق شاسعة من القارة الإفريقية بعد غزوها في القرن السابع عشر الميلادي؛ فيما عُرف ببداية مرحلة الاستعمار الأوروبي للقارة السمراء الغنية بالموارد الطبيعية والبشرية المتنوعة ذات الوفرة.

استخدمت فرنسا أبشع أنواع العنف والتنكيل بالشعوب الإفريقية التي وقعت فريسة لها، وتلظت بنير عسفها وجورها وتسلطها غير المسبوق والمنقطع النظير، الذي تميزت به المدرسة الاستعمارية الفرنسية عن غيرها من مدارس الاستعمار الأوروبي الحديث.

مدرسة فرنسا الاستعمارية:

اتخذت فرنسا منهجا استعماريا خاصا بها أصبح مدرسة لها خصائصها التي عُرفت بها، تلتقي في بعض ملامحها مع مناهج الاستعمار بصفة عامة، وتختلف بتميز الطابع الفرنسي الخالص.

فشكلت المدرسة الفرنسية للاستعمار القائمة على مقومات عديدة، منها:

استخدام القوة المفرطة، والعنف والقسوة، والإبادة ضد الشعوب المُستعمَرة.

الإدارة المباشرة للمناطق التي تستعمرها بقوتي الحديد والنار.

تدمير الهوية المحلية والقضاء على لغة الشعوب المحلية التي تقع تحت سيطرتها، وإحلال اللغة الفرنسية حتى يسود مشروع فرنسا الاستعماري الذي عُرف بـ«الفرنكوفونية»، أي الدول أو الشعوب الناطقة بالفرنسية من غير الفرنسيين.

مسخ عقل الإفريقي اللون والعرق، وتحويله إلى فرنسي الفكر والهوى والتبعية.

استنزاف ثروات الشعوب المستعمرة وتوظيفها في ازدهار فرنسا وبناء قوتها العسكرية والاقتصادية.

قمع حركات المقاومة وارتكاب المجازر، وحملات تنصير كبيرة لتحويل إفريقيا إلى قارة مسيحية.

إفقار الأفارقة وإبقاؤهم تحت نير الثالوث الاستعماري: “الجهل، والفقر، والمرض”.

ما بعد الحرب العالمية الثانية وفترة الاستقلال:

استمرت فرنسا في حملات الإبادة والقمع للشعوب الإفريقية منذ بدايات استعمارها لأوطانهم، وارتكبت خلالها أبشع صور الإبادة لحركات المقاومة، وخاصة الإسلامية منها. وأكبر دليل على ذلك ما ارتكبته فرنسا في تشاد من قتل أكثر من 400 عالم مسلم في مذبحة عُرفت بـ«كبكب» سنة 1917 ميلادية.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 ودخول فرنسا أوزارها، احتاجت إلى الجنود من مستعمراتها كوقود في معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ووعدتهم في مقابل ذلك بنيل الاستقلال إذا كسبت الحرب منّا وكرما منها، لا استحقاقا طبيعيا لشعوب ترنو لنيل حريتها واستقلالها وتقرير مصيرها.

ومع انتصار الحلفاء، إلا أن المستعمر لا تُؤمَن بوائقه، فأخلفت الوعد وتلكأت وماطلت وسوّفت. إلا أنها استجابت مضطرة، ورغم أنفها، بعد هذه المماطلة أمام إصرار الأفارقة الذين نالوا قسطا من التعليم في فرنسا، وعادوا للمطالبة بالتحرر والاستقلال من خلال تكوينهم جمعيات ومنظمات وأحزابا قادها رموز من الحركات الوطنية الإفريقية مثل: لومومبا ونيك روما وغيرهم. أُجبرت فرنسا منكسرة على تلبية مطالب الشعوب الإفريقية بالحرية والاستقلال عنها في ستينيات القرن المنصرم.

مرحلة الاستقلال الصوري:

خرجت فرنسا من بعض مستعمراتها الإفريقية تحت ضغط حركات التحرر، التي نشطت وقدمت الكثير من التضحيات لأجل نيل الاستقلال والحرية، وتمكين أبناء البلاد من حكمها وإدارة مقدراتها، وإدخال برامج التنمية للقضاء على ثالوث ركائز الاستعمار الفرنسي – الفقر والجهل والمرض.

خرجت فرنسا من الباب في الظاهر، لكنها في الحقيقة لم تخرج، وإن ظن البعض ذلك؛ بل عادت من النافذة، وذلك لعدة اعتبارات:

1- أن من تسلم قيادة هذه الدول هم صنيعة فرنسا الاستعمارية: ثقافةً ولغةً وأفكارا وتبعية مطلقة.

2- أن فرنسا ربطت مقدرات هذه الدول بالتبعية لها وسيطرت على مواردها الطبيعية، التي استخدمتها في صناعتها التي تقدم الرفاهية لمواطنيها، وتحرم الأفارقة من عائداتها؛ ليبقوا تحت نير الثالوث الفرنسي الذي فرضته فرنسا على الأفارقة.

3- ربط اقتصاد المستعمرات الإفريقية السابقة بالفرنك الفرنسي، حتى إن بعض الدول مصارفها المركزية في فرنسا وليس في عواصمها. وهذا لا يمكن وصفه إلا أنه نوع من أنواع الوصاية على هذه الدول المتطلعة للحرية والتنمية.

السياسة الفرنسية في دول إفريقيا ما بعد الاستقلال:

ترسخت السياسة الفرنسية في إفريقيا وفق منهجية استمرارية لتجذر وتثبيت ثالوثها القاتل للشعوب، والمغذي لثرواتها وقوتها على حساب هذه الشعوب التي كانت تستعبدها. وزاد الطين بلة، والأمر تعقيدا وخرابا، حين استبدلت الاستعمار المباشر بقادة الاستقلال الأوائل الذين خيم على إداراتهم الفشل والتبعية، وعدم القدرة على التخلص من ربقة الاستعمار الفرنسي في صورته الثانية.

وسرعان ما تيقنت فرنسا من فشلهم، فاستبدلتهم بقيادات أكثر تبعية وأكثر إخلاصا لفرنسا من إخلاصهم لأوطانهم وشعوبهم،

من خلال انقلابات عسكرية متتالية ومتعاقبة بين ضباط عسكريين متصارعين على السلطة لا همّ لهم إلا السلطة،

مع جهل تام بإدارة الدولة، وغياب مفاهيم الحرية والتنمية والاستقرار؛

ما أفرز حروبا أهلية أودت بالآلاف من الضحايا من الأبرياء من الرجال والنساء والأطفال،

ما حوّل هذه الدول إلى مناطق إبادة ومجاعات، رغم ما تزخر به من ثروات كبيرة ومتنوعة كفيلة بازدهارها ونموها.

مرحلة الوعي الإفريقي وما قبل الانتكاسة

ترتب على هذه السياسة القاصرة وغير الأخلاقية ردة فعل لدى النخب الإفريقية، التي أدركت ما تمر به بلادها من تخلف وفقر وحروب وتبعية؛

فأخذت في الدعوة إلى الخروج من تحت الهيمنة الفرنسية، التي لم تحقق استقرارا ولم تساعد في تنمية،

بل كانت هذه الهيمنة السبب الأول والمباشر لاستمرار واستقرار ثالوث الجهل والفقر والمرض.

وخلصت النخب الإفريقية إلى أنه لن تقوم لها قائمة في ظل هذا الوجود بشقيه المدني والعسكري،

المتمثل في وجود قواعد عسكرية في المنطقة أصبحت غير مرغوب في وجودها، لأنها مصدر قلاقل أكثر من كونها مصادر استقرار.

العامل الخارجي المساعد للأفارقة في نكسة فرنسا

في مرحلة الوعي الإفريقي بما يثقل كاهل المستعمرات الفرنسية السابقة من نفوذ يكبل حرياتها ويسلب ثرواتها،

برز الحل في التخلص من هذا النفوذ وإلقائه عن كاهل هذه الدول.

وصادف ذلك دخول ثلاث قوى على الخط في هذه الموجة المطالبة بإخراج النفوذ الفرنسي والتخلص منه:

اثنتان منهما قوى دولية عظمى، والثالثة قوة إقليمية صاعدة تتمدد.

القوة الدولية الأولى تميزت بالجانب العسكري (روسيا)، التي أخذت في التمدد بعد انكفائها عقب تفكك الاتحاد السوفيتي في مطلع تسعينيات القرن الماضي. بقيادة رئيسها الحالي “فلاديمير بوتين”، جعلت من إفريقيا هدفا لبناء قواعد عسكرية تزاحم بها نفوذ حلف الناتو عدوها اللدود.

ووجدت في حالة التبرم الإفريقي من الوجود الفرنسي فرصةً للدخول على الخط لإخراج فرنسا من مستعمراتها السابقة.

القوة الدولية الثانية هي الصين، التي دخلت الساحة الإفريقية اقتصاديا،

ففتحت الآفاق أمام الأفارقة بإمكان الاستفادة من رغبة الصين في التمدد الاقتصادي نحو إفريقيا،

وقد أتاح هذا للأفارقة فرصة تحسين أوضاعهم الاقتصادية، والاستفادة من ثرواتهم الطبيعية لتحقيق تنمية شاملة.

القوة الإقليمية الثالثة تمثلت في تركيا، التي دخلت أيضا على الخط اقتصاديًا وإن كان بدرجة لا تنافس الصين،

وتميز وضع تركيا بوجود علاقات قديمة بالقارة الإفريقية تعود إلى أيام الدولة العثمانية في تلك المناطق.

الانتكاسة والخروج غير المشرف

تضافرت كل الظروف التي أذنت بانتكاسة فرنسا في القارة الإفريقية،

كان أولها السياسة التي اتبعتها الحكومات الفرنسية المتعاقبة على مدى عقود،

دون اعتبار لحاجات الشعوب الإفريقية وتطلعاتها، ولا لحركة التاريخ وسنن التغيير.

مع يقظة سياسية بين الأجيال الشابة الإفريقية، وفقدانها الأمل في تغيير السياسة الفرنسية.

ضرورة التغيير والخروج من تحت عباءة الوصاية الثقيلة التكلفة.

دخول أطراف سياسية وازنة لها طموحات سياسية واقتصادية وعسكرية ومصالح في القارة، لن تتحقق إلا بإزالة النفوذ الفرنسي.

وقد حالفها الحظ في وجود التيار الوطني المناهض للنفوذ الفرنسي المسيطر على مقاليد الحياة العامة في هذه الأجزاء من القارة،

الذي سرعان ما فتح أبوابه أمام دخول المشروعات الاقتصادية الصينية والتركية،

وانتهى الأمر بتغلغل القوات العسكرية الروسية، وإخراج القوات العسكرية الفرنسية التي كانت جاثمة على أراضيهم بحجة مكافحة الإرهاب وغيرها من المبررات.

وكانت النهاية غير المشرفة لفرنسا بمغادرتها تلك الأراضي بضغط شعبي عارم، ولسان حال الأفارقة يردد ما تمثل به الشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي حين خرجت القوات الإيطالية من ليبيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية:

ذهب الحمار بأم عمرو

فلا رجعت ولا رجع الحمار.

سمير زعقوق

كاتب صحفي وباحث في الشئون الآسيوية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights