فرج كُندي يكتب: دورة حياة الدولة عند ابن خلدون
لقد كان ابن خلدون وهو يكتب التاريخ ويصحح وقائعه ويستكشف ظواهر العمران البشري، من خلال دراسته للسيرورة التاريخية المتمثلة في سنة حركة التاريخ في صورة البحث عن سؤال محوري كان يراوده ولا يغيب عن عقله ولا يغادر تفكيره: كيف تقوم الدول؟ وكيف تنهار؟.
وخلص بعد دراسة مطولة وبحث عميق ومستفيض، واستقراء لحركة التاريخ وقيام وانهيار الدول والممالك، إلى أن للدول أعمارا قد تطول وقد تقصر بحسب سنن حركة التاريخ، وتمر بدورات طبيعية في مراحل عمرها كما يمر الإنسان من مرحلة البداءة والنشوء الطفولة ثم النمو والنضج، وهي مرحلة الفتوة والشباب والتوسع، وأخيرا مرحلة الكهولة والهرم والضعف والاضمحلال أو الزوال.
فالدولة كما استنتج ابن خلدون خلال استقرائه للسيرورة التاريخية وسنة العمران البشري تمر بمراحل واطوار مثل الإنسان تماما كما ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) الروم 54.
قال الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية الكريم: ينبه الله تعالى على تنقل الإنسان في أطوار الخلق حالا بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاما ثم يُكسى لحما، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفا نحيفا واهن القوة. ثم يشبّ قليلاً قليلا حتى يكون صغيرا، ثم حدثا، ثم مراهقا، ثم شابا. وهو القوة بعد الضعف، ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم، وهو الضعف بعد القوة. فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللحية، وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة، ولهذا قال: (ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء) أي: يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد وكذلك تكون سيرورة ومآل دورة حياة الدولة.
وقسّم ابن خلدون الأطوار التي تمر بها الدولة أو الحضارة إلى عدة مراحل وأطوار:
طور الظهور والاستيلاء على الحكم غلبة وقهرا وانتزاعا:
ويتمثل هذا الطور في أول مراحل ظهور الدولة وقيامها من خلال نجاح العنصر المتغلب في الاستيلاء على السلطة قهرا وغلبة، ويعلن ميلاد دولته القائمة على الغلبة وقهر من خالفها ووضعه تحت سلطانها ورضوخه لسلطة هذه الدولة قسرا وقهرا القائم على قوة العصبية للحاكم المستولي على السلطة
طور الاستبداد والانفراد بالسلطة والتنكر للعصبية:
يدور الفكر الخلدوني في الدولة والحضارة على قانون العصبية ويعني بها الالتحام الذي يكون بين الأقارب أو القبائل والعشائر والذي يدفع للمناصرة والمطالبة بالملك والمغالبة في سبيله ويدخل فيه الحلف والولاء وغير ذلك من صنوف التكتل والتحالف القبلي. ومراكز القوى التي تجمعها قرابة أو مصالح مشتركة؛ شاملاً أي نوع من الولاء المفضي للمغالبة في سبيل تلك الغاية.
إلا أنه بمجرد التمكين والاستواء يسعى الحاكم الجديد إلى التخلي بل التخلص من العصبية التي تمكن بها من السلطة خشية الانقلاب عليه أو منازعته سلطانه؛ فيسعى لصناعة عصبية جديدة يكون هو من صنعها وأوجدها ومنحها الوجود والنفوذ ويبقى هو من أتى بها ومكن لها لتستمر حافظة للجميل وتكون سهلة الاقتلاع؛ على عكس العصبية الأولى التي شاركته في انتزاع السلطة فيكون لها من المطامح والنفوذ ما لن يكون للعصبية المصنوعة على يديه من أتباع وموال.
طور الفراغ والدعة وتحصيل ثمرات الملك وفيه تسود الراحة والطمأنينة.
الترف أول علامات السقوط:
بحسب ما توصل إليه ابن خلدون فإن الجيل الأخير أو الثالث الذي تسقط في عهده الدول وتنهار الحضارات، هو جيل النخبة الحاكمة التي تحرص في سلوكها السياسي والأخلاقي على الطمع والترف، وينتقل الشعور بالمسؤولية الاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية التي تقلّدوها منذ زمن التأسيس إلى شعور آخر، إلى “نخبة” مترفة مرفهة تدوس الجميع من أجل مصالحها الخاصة وترفها الزائد ورفاهيتها وحدها دون سواها. وهي مرحلة الاعتماد على تاريخ من قبلها، وهي المرحلة التي تكون أول بدايات الترهل والخلود إلى الدعة والإسراف في الترف المفضي إلى حتمية السقوط والزوال.
طور الهرم والانقراض بسبب الإسراف والتبذير السيرورة أو الحتمية السننية التاريخية:
وهي آخر مرحلة أو طور من أطوار دورة الحياة للدولة التي قد تطول أو تقصر بحسب مقومات الدولة وتجذرها وما حققته من إنجاز حضاري في مراحلها السابقة؛ فكلما كانت دوله قوية ولها منتوج حضاري قوي وعميق ومؤثر في حياة المجتمع مع وجود مؤثر نخب علمية وثقافية فاعلة كان لها الأثر في تأخير سقوط هذه الدولة وزوالها.
ويضيف مؤسس علم الاجتماع وصاحب نظرية أطوار ومراحل حياة الدول في تشخيص حالة الدولة في مرحلة التراجع والانحطاط واصفا مكابرة حكامها وتصرفاتهم في تلك المرحلة؛ بل إنهم مع هذا يحاولون إظهار القوة من خلال احتكار السلاح والجيش والإفراط في استخدامها لقمع الناس إذا أرادوا التغيير أو مواجهة استئثار هذه النخبة الحاكمة بالسلطة والثروة. وإذا حكم أمثال هؤلاء فأذن بزوال الدولة واندثارها.
وبتسلسل سيرورة الدولة عبر الأطوار التي حددها ابن خلدون إلى سيرورة حتمية وهي الانقراض والزوال.
يقول ابن خلدون، حتى يتأذن الله بانقراضها، فتذهب الدولة.