سير وشخصيات

فضيلة الشيخ نور عالم خليل الأميني الهندي.. فقيد القلم

محمد نعمان الدين الندوي

[استميح القراء الكرام عذرًا في إعادة نشر مقالي عن فضيلة الشيخ نور عالم خليل الأميني رحمه الله، وذلك بمناسبة يوم وفاته، حيث كان انتقل إلى رحمة الله في: ٣ من مايو ٢٠٢١م المصادف ٢٠ من رمضان المبارك ١٤٤٢ھ] ۔

عفا الله عن (كورونا) الذي اختطف منا -إلى الأعداد الهائلة من البشر الذين لا نعرفهم- الكثير من معارفنا من الإخوان والأقرباء والعلماء والأساتذة ورجال الصحافة والأدب.

والموجة الثانية من (كورونا) التي عاودت في أبريل ٢٠٢١م -أواخر شعبان ١٤٤٢ ھ- كانت أشد وأفظع، وأرهب وأخوف، حيث حصدت من الأرواح ما لا يقدر بدقة، وهي التي ذهبت – فيمن ذهبت – بأستاذنا الجليل فضيلة الشيخ نور عالم خليل الأميني الذي انتقل إلى رحمة الله في ٢٠ / رمضان ١٤٤٢ھ، وكانت وفاته خسارة كبيرة للساحة الأدبية والصحافة الإسلامية، وصدمة عظيمة لتلامذته ومحبي كتاباته، وما أكثرهم!

معرفتي الأولى بالشيخ الأميني:

تعرفت على أستاذنا الشيخ الأميني (١٣٧٢ھ ١٩٥٢م – ١٤٤٢ھ – ۲۰۲۱م) رحمه الله، سنة ١٩٧٣م، حيث التحقت بالصف الثالث العربي من كلية الشريعة بندوة العلماء، وكان الشيخ الأميني – أيضًا – حديث العهد بالندوة، حيث كان باشر عمله مدرسًا بها قبل مدة قصيرة، وكان من حسن حظنا أنه كان من أساتذة صفنا، وكان يدرسنا الإنشاء والأدب.

مزايا الدرس الأميني:

كان الشيخ الأميني من أنجح المدرسين وأقدرهم على إقناع الطلاب، فقلما وجدت من الأساتذة من يقدر قدرته على إفهام الدرس للطلاب وإقناعهم، وتحبيب المادة المُدَرَّسة إليهم، وكان إذا ذكر مسألة نحوية أو صرفية أو أية قاعدة عربية، ربما ضرب لها عشرة أمثلة أو أكثر، حتى تترسخ المسألة في أذهان الطلاب جيدًا، وكان الطلاب ينتظرون حصته بفارغ من الصبر، فإذا دخل الصف، وبدأ الدرس، أقبلوا عليه وأصغوا إليه، وكأن على رؤوسهم الطير، وكان الشيخ الأميني – نفسه – لا يترك فرصة للطلاب للنظر أو الالتفات إلى هنا وهناك، بل يجعلهم يقبلون عليه إقبالًا كليًّا بحديثه الممتع، وشرحه المقنع للدرس، وجوابه الحاضر على إشكالات الطلاب واستفهاماتهم، وإشاراته الحلوة، وحركاته الرضية، وملحه ونكته التي كانت تتخلل الدرس، فتزيد الطلاب استمتاعًا واستفادة وإقبالًا على كلامه؛ فكان الطلاب لا يعرفون خلال درسه شيئًا اسمه السآمة والملل، بل كانوا يودون لو يطول الدرس حتى يزدادوا متعة وفائدة ونهلًا من منهل «الأميني» العذب، وكان من دأب أستاذنا الأميني أنه كان يحث الطلاب -من حين لآخر- على الجد والاجتهاد في طلب العلم، وكثيرًا ما يردد البيت الأردي المشهور:

عطار ہو رومی ہو رازی ہو غزالی ہو

کچہ ہاتہ نہیں آتا بے آہ سحر گاہی (۱).

وكان يقول للطلاب وهو يستحثهم على التشمير عن ساق الجد، ويدعوهم إلى العكوف على العلم ما معناه: «اشربوا من العلم، وارشفوه من مصادره، وانهلوه من مناهله، وأطعموا من جمالياته، وتزودوا من درره وجواهره، وسابقوا الزمن، واعلموا أن النجاح قطرات من الآهات والزفرات والعَرَق والجهد».

ما أثمنه من توجيه أميني جدير بأن يتخذه الطلاب نصب أعينهم! وكما قيل -أيضًا-: «شمر عن ساعد المسعى، وأبشر بحُسْن الرُّجْعٰى»، وما أروع ما قاله عطاء السكندري بهذا الصدد: «من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة».

ومما أذكر من فوائد درسه -أيضًا- أنه علمنا طريقة فهم البيت، قال: إن البيت -أحيانًا بل عادة- لا يكون على الترتيب النحوي المعروف، أو تابعًا للقواعد العربية بدقة، فيكون فيه تقديم ما حقه التأخير، وكذلك العكس، وفي هذه الفوضى الترتيبية و«اللامراعاة القواعدية» يكمن سر جمال البيت وروعته وأثره وسحره؛ فإذا صعب عليكم فهم البيت لغويًّا، فحاولوا حل الكلمات الصعبة بمراجعة القواميس، وإذا صعب عليكم فهمه معنًى، فانظروا في الكلمات التي يتألف منها البيت، وميزوا فاعلها من مفعولها ومتعلقاته، وراعوا الترتيب، فانظروا مثلًا – من البيت – الفعلَ أولا، ثم الفاعلَ ثم المفعولَ، وضعوا كلًّا من ذلك في موضعه.

وكذلك ميزوا المبتدأ من الخبر، وقدموا الأول وأخروا الثاني، إذا فعلتم ذلك يتبين معنى البيت تمامًا في يسر وسهولة.

فالصعوبة في فهم البيت تنشأ من عدم مراعاة الشاعر للقواعد في البيت، فإذا فهمنا ترتيب أجزاء البيت، سهل لنا فهم معنى البيت».

والحقيقة أن هذه الطريقة التي بينها لنا أستاذنا الأميني رحمه الله مفتاحُ فهم البيت، وأفادتنا كثيرًا في مشوارنا التعليمي، كلما واجهنا صعوبة في فهم أي بيت.

حب الأميني أستاذَه الشيخَ الكيرانوي:

 كان الشيخ الأميني كثيرًا ما يذكر -خلال درسه- أساتذته ومعلميه ومرييه، الذين قرأ عليهم، وتربى على أيديهم، يذكرهم ذكرًا مصحوبًا بالاعتزاز بالتتلمذ لهم، ومقرونًا بالتشرف بالانتماء إليهم، ومعَطَّرًا بالالتذاذ بسرد أخبارهم ومطَعَّمًا بحلاوة نقل أحداث حياتهم، وكان يدين لهم بالفضل في تثقيفه وتعليمه، ويدعو لهم بكل خير، ويترحم عليهم ممن انتقل منهم إلى رحمة الله.

وكان يخص بالذكر -من أساتذته- فضيلة الشيخ وحيد الزمان الكيرانوي (١٣٤٩ه‍ – ١٤١٥ھ = ١٩٣٠م – ١٩٩٥م) أستاذ اللغة العربية ونائب مدير الجامعة الإسلامية دار العلوم ديوبند سابقًا، الحقيقة أنني ما وجدت تلميذًا يمدح أستاذه كما كان يمدح التلميذُ الأميني أستاذَه الكيرانوي رحمهما الله، فكان حبُه أستاذَه حبًّا عجيبًا، حبًّا امتزج بلحمه ودمه، وفكره وعاطفته وكان يصفه بـ: «معلم اللغة العربية الملهَم العبقري»، والشيخ الكيرانوي له -فعلًا- جهود مشكورة في تخريج عدد من كتاب العربية الذين لمعت أسماؤهم في مجال خدمة العربية، وعلى رأسهم -طبعًا- أستاذنا الأميني رحمه الله، كما لا ننسى -نحن طلابَ العربية- فضل الكيرانوي ومنته علينا، التي تتمثل في تأليفه سلسلة من القواميس والمعاجم -من العربية إلى الأردية، والعكس- التي لا يستغني عنها الطالب الناطق بالأردية؛ وللكيرانوي «عبقرية» في ترجمة الألفاظ والكلمات من وإلى العربية، وهنا أكتفي بنموذج واحد لترجمته الإبداعية، فترجم: «دقة بدقة» بـ: «ترکی بترکی جواب دینا»، رحمه الله وجزاه خيرًا عن خدماته الجليلة للغة القرآن الكريم.

قرأت على الشيخ الأميني -في أكثر من صف- عدة كتب في مختلف الموضوعات، قرأت عليه الأدب والإنشاء، والفقه، والتاريخ، وكان يجيد كل فن يُدرِّسه، وكأنه ابن بجدته، والمتخصص فيه، والغاص في أعماقه.

عكوفه على المطالعة:

كان رحمه الله يجتهد في القراءة والمطالعة اجتهادًا، ما رأيت مثله عند من أعرفهم من أصحاب العلم والقلم إلا نادرًا جدًّا، فطالما رأيته يقرأ كتابًا على مائدة الطعام، يضع اللقمة في فمه، وينظر في الكتاب إلى أن يفرغ من مضغ اللقمة وأكلها، فإذا انتهى من ذلك، أخذ لقمة أخرى وأقبل على القراءة، واستمر على ذلك ما دام جالسًا على المائدة، رحمه الله.

كلما ذكرت كيفية أكل الأستاذ الأميني هذه، حضرني قول بعض العلماء: «أثقل ساعةٍ عليَّ، ساعة آكل فيها»، وكان عكوفه على العلم والأدب يذكرنا بقول الكاتب الفرنسي (أندريه جيد): «الأديب الحقيقي لا يعطي القبر إلا العظام».

بما أن هواية الشيخ الأميني الأصيلة كانت هواية أدبية عربية، وكأنه فُطر عليها ورضع بلبانها، غذت هذه الهوايةَ إقامتُه في ندوة العلماء -كعبة العربية والأدب- تلك الندوة التي تمنى بعض كبار أدباء العرب التعلمَ فيها والعيش في رحابها (٢)، وقد قيل: «إن الفاضل لا يحسن حاله إلا بين الفضلاء، أو أشباه الفضلاء»، أو كما يقال: «السراج يستنير بالسراج».

نعم. كانت لإقامة أستاذنا الأميني في محيط الندوة العربي الأدبي دور في تهيئة المناخ المتلائم مع مزاجه، وتوفير الغذاء المطلوب لذوقه الأدبي بما نشَّط فاعليته -الذوق-، وصَقَلَ ملكته الأدبية صقلًا جعل حاملَها صاحبَ قلم عربي متميز، أثرى المكتبة العربية الأدبية بكتابات وكتب لا يستغني عنها المشتغلون بالعربية من الطلاب والأساتذة والباحثين.

إعجابه بالأستاذ محمد الحسني:

وفي طليعة من تأثر بهم الشيخ الأميني في الندوة – طبعًا – سماحةُ الشيخ أبي الحسن الندوي رحمه الله، ثم الأستاذ محمد الحسني رحمه الله الذي كان من المعجَبين بأسلوب كتابته وروعة بيانه إعجابًا عجيبًا، إعجابًا لا يتصور فوقه إعجاب.

كما أسلفت أن الشيخ الأميني كان كثيرًا ما يذكر أساتذته في الصفوف، كذلك كان يكثر من ذكر العلماء والأدباء الذين كان متأثرًا بهم، فمن هؤلاء الذين كان يذكرهم ذكرًا مضمخًا بِرَيَّا الحب والإعجاب البالِغَين: الأستاذ محمد الحسني رحمه الله (ابن أخ سماحة الشيخ الندوي رحمه الله)، فقال عنه ذات مرة في صفنا الثالث – وهو يبدي إعجابه البالغ بأسلوبه الساحر -: «ظالم کیا لکھتا ھے، جی چاہتا ہے کہ اس کا ہاتہ ہی کاٹ لوں» (يا له من كاتب ظالم، بودِّي أن أقطع يده).

فذهب الطلاب مذاهب شتى في فهم هذه الكلمة:

عليَّ نحْتُ القوافي من معادنها

ومــا علـيَّ إذا لـم تفهـم البـقــرُ

أو كما قال المتنبي:

ولكـن تـأخـذ الآذان مـنـه

على قَدَر القرائح والعلوم

 ومستوى الفهم لدى الطلاب في هذا الصف -طبعّا- لا يكون عاليًا، بل يكون وسطًا، أو أقل، فقال بعضهم: تبدو هذه الكلمة في إطار الذم، بل لعلها غاية في الذم، بينما قال البعض الآخر: إن هذه الكلمة في منتهى المدح؛ فلا مدح فوقه، ووصل أمر الكلمة إلى كبار الأساتذة، فوثقوا الرأي الثاني، أي الكلمة يراد بها آخر حد من المدح بل الإطراء، ومعنى الكلمة «ما أروع ما يكتب الرجل!».

هذا. ولعلي أفاجئ بعض القراء إذا أخبرتهم بأن الشيخ الأميني كان ندويًّا، إنه لم يدرس دراسة منتظمة في الندوة، بل كان أدى امتحان السنة الأخيرة من «قسم التخصص في الأدب العربية» (كلية اللغة العربية حاليًّا) ١٣٩٧ھ = ۱٩٧٧م، وكان عنوان البحث الذي تقدم به لنيل الشهادة «الإنتاج العلمي لأبناء ندوة العلماء» الذي كان نشر في حلقات في مجلة «البعث الإسلامي».

الشيخ الندوي كما يراه الأميني:

أما حب أستاذنا الأميني شيخَنا الندوي رحمهما الله، وتأثر الأول بحياة الثاني فذلك أمر يعرفه تلامذته من أبناء دار العلوم/ ديوبند، أكثر منا نحن الذين درسنا عليه هنا في الندوة.

قال لي أحد تلامذة الأميني من خريجي دار العلوم: يقول الشيخ الأميني: «إن شخصية الشيخ الندوي رحمه الله شخصية، مهما أفرطنا في وصفها وبيان مزاياها، لم يُعَدَّ -ذلك- من المبالغة أو الإطراء في شيء».

وقال لي عالم قاسمي آخر: قال الشيخ الأميني رحمه الله أكثر من مرة في الفصل الدراسي – وهو يُدَرِّس – في دار العلوم: «لقد رأيت وعشت العديد من أكابر العلماء والشيوخ والأساتذة، ولكن الشيء الذي رأيته ووجدته عند أبي الحسن الندوي رحمه الله، لم أجده عند غيره».

إن هذا التأثر والإعجاب بشخصية (الندوي) إنما كانا نتيجةً لسبب قد لا يعرفه الكثير -حتى- من تلامذة (الأميني)، وهو أن أستاذنا الأميني كانت سنحت له الفرصة -بعد تخرجه من المدرسة الأمينية التي كان ينتسب إليها- لقضاء مدة مع الشيخ الندوي في قريته «تكيه كلان، بمدينة رائے بریلی»، فهناك رأى (الشابُ الأمينيُّ) (الشيخَ الندويَّ) عن كثب، رأى صباحه ومساءه، ليله ونهاره، رأى حياته الساذجة البعيدة -كل البعد- من أي زخرف وبهرج وزينة، رأى حياة متصفة بالأخلاق الإسلامية، وتقيدًا بالآداب والتعليمات الإنسانية، وسبقًا إلى الخيرات، رأى أنه – الندوي – يعيش عيش الشظف، مع أنه كان يستطيع أن يعيش عيشة النعومة والترف، فكان فقره فقرًا اختياريًّا لا اضطراريًّا، ولكنه آثر الحياة الباقية على الحياة الفانية، رأى اتصاله الدائم بالله، وخوفه من الله.

فهنا مكمن سر إعجاب الأميني بشخصية (الندوي).

كذلك حكى لي بعض الإخوة الفضلاء من علماء ديوبند، أنه حضر -مرة- حفل مناقشة لرسالة «الماجستير» أقيم في كلية معروفة من كليات الهند، فقال أحد أعضاء لجنة المناقشة: إنه لا يعتبر الشيخ الندوي أديبًا من أدباء العربية؛ فذكر الأخُ القاسمي القصة للشيخ الأميني، فما إن سمع هذا الهذيان حتى استشاط غضبًا، وتربد وجهه، وآلمه الخبر أشد ما يكون، وقال: “إذا كان الشيخ الندوي لا يُعد أديبًا للعربية فليس هناك في الدنيا أديب للعربية، وسمى أدباء عربًا، وقال: هؤلاء أيضًا ليسوا أدباء إذا كان الندوي ليس من الأدباء”.

وما من اتصال هاتفي جرى بيني -كاتب المقال- وبين الشيخ الأميني، أو من مجلس ضمني معه إلا وذكر فيه الشيخَ الندوي رحمه الله لسبب أو آخر.. كأنه كان متشبعًا بحبه، معتزًّا وملتذًّا بذكره.

ولم يكن أستاذنا الأميني يحب الشيخَ الندوي فقط، بل كان يحب أسرته الحسنية أيضًا، ويفضلها على الأسر الأخرى، قال لي ذات -مرة- بالحرف الواحد: «إذا كانت الأسر الأخرى من النحاس، فهذه الأسرة -الحسنية- من الذهب والفضة».

كان الشيخ الأميني أصدر عددًا ممتازًا من مجلة «الداعي» عن الشيخ الندوي رحمه الله، فاق العديد من الأعداد الأخرى الخاصة بالندوي، التي كانت صدرت من الهند وخارجها، فاق بروائع ما احتواه من المقالات القيمة، التي تحدثت عن جوانب مختلفة من حياة الندوي.

يضم العدد مقالين للأميني، يتحدثان عن أبرز ما يميز الندوي عن غيره -من الشخصيات العظيمة- من سمات وخصائص جعلته شامة بين نظرائه مع اعتراف بفضلهم ودون أي انتقاص لمكانتهم.

 الحقيقة أن المقالين صب فيهما الأميني قلبه حسب التعبير الأردي، وأن كل سطر بل كل حرف من المقالين تشفُّ عما يكنُّ الكاتب من حب وإعجاب وتقدير وتأثر واحترام لشخصية الندوي رحمهما الله.

وكان الإجماع على أن المقالين كانا أقوى وأروع ما كُتِب – لحين كتابة المقالين- عن شخصية الندوي.

وكان المقالان نشرا تحت العنوانين المذكورين فيما أدناه؛

– إلى مثل أبي الحسن… تحتاج الأمة في هذه المرحلة الخطيرة الحاسمة.

– الندوي صاحب الكتاب والخطاب المؤمن، والمفكر الداعية المثالي.

نكتفي هنا بنقل قطعة من المقال الثاني، تكفي دلالة على النظرة التي كان ينظر بها أستاذنا الأميني إلى الشيخ الندوي:

«لم يكن أبو الحسن الندوي ملكًا من الملائكة، معصومًا من الخطأ والنسيان؛ وإنما كان بشرًا معرضًا للخطأ، ولكني لم أجد فيمن عشتهم من العلماء الكبار -رغم تقديري لمكانتهم وجهودهم وجهادهم في الدعوة الإسلامية، ورغم الأدعية الصالحة لهم برفع الدرجات- من يدانيه في صفاته السامية التي تجعل البشر تشابه الملك». (٣)

لو لا خوف الإطالة لقدمنا المزيد من المقالين ما يدل على حب الأميني وإعجابه بالشيخ الندوي.

 * * * * *

خصائص متميزة للكتابات الأمينية:

رأس الشيخ الأميني تحرير مجلة «الداعي» العربية -على ما أظن- أكثر من أربعة عقود، أثرى – خلالها – الصحافة الإسلامية الهادفة بكتاباته التي تفيض روحًا إيمانية وأدبًا عاليًا وبيانًا مشرقًا وجمالًا فنيًّا ساميًا.

لعل أبرز ما كانت تتميز به مقالاته في الداعي الجراءة الجريئة والصراحة الصريحة في عرض الموقف الإسلامي الخالص الحاسم من القضايا المحلية أو الدولية، فلم نر له أي لين أو ضعف في الصدع بالحق، أو حذرًا أو خجلًا في تقديم الرؤية الصحيحة عن القضايا والأحداث.

وإذا حدث حدثٌ جلل، تشوقنا إلى كتابته فيه، لأنه كان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة منه إلا أحصاها، ويقدمه بدقائقه، وعجره وبجره، ويحلله تحليلًا مشبعًا بتفاصيله، يقدمه كتابة شاملة مهداة لقراء العصر، ووثيقة أمينة للمؤرخ القادم.

كذلك إذا توفي رجل كبير أو علم من الأعلام المسلمين في الهند أو غيرها ممن لهم آثار علمية أو أدبية أو صنائع في أي مجال من المجالات، كتب الأميني عنه مقالًا يغطي جميع نواحي حياة الراحل الكبير، تغطية شاملة تشبع وتغني -أو تكاد- عن غيره من الكتابات التي تناولت ترجمة الراحل بالبيان.

مـا زال يـدأب فـي التـاريـخ يكتـبـه

حتى غدا اليوم في التاريخ مكتوبا

وكان كل مقال من مقالاته يبدو كأنه جزء من «رسالة الدكتوراة»؛ فكان يشبعه بحثًا وتحقيقًا، يحيل كل مقتبس على مصدره، ويكتب تأريخ الولادة والوفاة لكل من أتى ذكره في المقال، ويخرج كل حديث أتى به، وكذلك إذا ذكر الآية، ذكرها بالإشارة إلى رقمها من السورة.

وإن كتابه «من وحي الخاطر» (خمس مجلدات) -إلى كونه مجموعة أدبية لا يستغني عنها طالب الأدب- يكاد يكون موسوعة صغيرة؛ فالشيخ لا يمر بشخص إلا ويذكر ترجمته في الهامش، أو مدينة أو بلد، إلا ويذكر تفاصيلها المطلوبة في الهامش، أو بحركة دينية أو سياسية أو ثقافية إلا ويُعَرِّفُها؛ فالكتاب هذا معجم صغير للرجال والبلدان والمدن والحركات والتيارات والقضايا والأحداث، ووثيقة تاريخية أدبية خطت بقلم مطلع أمين.

هذا. وأنا أقرأ كل يوم مقالًا من هذا الكتاب الذي ليس كتاب الأدب والبيان وحده؛ بل إنما هو -إلى ذلك- كتاب الدعوة، وكتاب التاريخ، وكتاب تراجم الأعلام، وما إلى ذلك.

 إن الفترة التي عاشها الراحل من حين تولى أمر «الداعي» إلى وفاته، كانت فترة ساخنة حرجة خطيرة، مائجة بالحركات والقضايا الحساسة، وحدثت فيها أحداث جسام تجعل الحليم حيران، أحداث أطارت نوم الغيارى على حاضر الإسلام والمسلمين ومستقبله.

فقيدنا الغالي الشيخ الأميني كان من حملة الهم الإسلامي؛ فكان لا يمر بهذه القضايا مرور الكرام، بل كان يتناول جميع -أو معظم- هذه القضايا بقلمه الإسلامي الغيور الحر الأبيّ، شارحًا الموقف الإسلامي منها، عبر رؤية متزنة غير مقصرة ولا مفْرِطة، ومن شاء فليراجع أعداد «الداعي» الصادرة خلال أربعة عقود الماضية، ليجد صحة ما قلنا.

وهناك ناحية أخرى من نواحي حياة فقيدنا الغالي، تشعرني بضرورة التنويه بها ولو إيجازًا، وهذه الناحية تكاد تجعله شامة بين الكتاب من أهل العصر، وهي أن الكاتب الفقيد الشيخ الأميني رحمه الله كان أشرب قلبه حُبَّ «بنت عدنان» لغة القرآن: «العربية» بشكل عجيب مغبوط، فكان يكتب عنها -من حين لآخر- كتابات يبين فيها جمالها وتَميُّزَها عن شقيقاتها، ويصفها بصفات طريفة جميلة تنم عن تشبعه بحبه إياها، ويحث على بذل الجهد في تعلمها، ويدعو إلى خدمتها بمختلف أشكالها، ولم يزل يذب عن حريمها، حافظًا لبيضتها، حارسًا لحدودها، مسخرًا كفاءاته وقدراته لصيانتها وإثرائها ببدائع قلمه السيال إلى آخر نفس من أنفاس حياته.

ولعل السطور الآتية تكفي دلالة على ما كان يُكِنُّ الأميني من حب للعربية وهيام بها، يقول:

«إن الاشتغال بالعربية والكتابة بها، أو تعليمها، أو العمل على نشرها بالنسبة إلينا مبعث فخر واعتزاز وافتخار، كما أنها وسيلة إلى جزيل الأجر، وجميل الذكر، وعميق الشكر.

إننا نكتب بها، فنشعر حقًّا كأننا نغازل أغنى الغانيات في العالم، تتغنى معها قلوبنا، وتتناجى معها نفوسنا، وتتفتح لها صدورنا، وتتعطر بأريجها ذاكرتنا، وتهتز منها أقلامنا، وتسري الفرحة الغامرة من أرواحنا مسرى الدماء في عروقنا، ودموعِ المسرة الطَّرِبة في مآقينا» (٤).

كان له اطلاع واسع على الأمثال والحكم والتعبيرات السائدة العربية، فكان كثيرًا ما يستعملها في كتاباته، مما يزيدها بهاء وروعة.

كما كان يستعمل – لدى الحاجة – بعض الأمثال والتعبيرات الأردية – أيضًا – بنقلها إلى العربية، وهنا أكتفي بمثال واحد لذلك.

في اللغة الأردية تعبير يراد به أن الوسيلة الفلانية عقيم لا تفيد ولا تغني ولا تنفع قلامة ظفر، فيقال: «بهينس کے آگے بین بجانا». فترجمه الشيخ الأميني ترجمة رائعة تكاد تؤدي المعنى -الذي يشير إليه التعبير الأردي- تمامًا: «يوقع ألحانًا شذية وأغاني شجية بين يدي الجاموس الذي لا يزيد سوى أن يبقى مجترًّا».

 الشيخ الأميني -رحمه الله- معروف بتعبيراته الأدبية الراقية التي كان يبدعها بملكته الأدبية التي كان مُنِحَها من الله المنان، فإذا وُصِف بكونه «مَلِكَ التعبيرات» لم يكن الوصف من المبالغة في شيء على ما يعتقد الكاتب.

إن كتابات الأميني أمدتني بزاد من اللغة، وذخر من التعبير الجميل، ونموذج من الأسلوب الماتع، وافق ذوقي كل الموافقة، وصادف هوًى في قلبي، ووقع مني كل موقع، وحبب إلي العربية، وحفزني إلى الدأب والمثابرة.

والحقيقة أن أستاذنا الجليل الشيخ نور الأميني رحمه الله حجة عندنا – نحن التلامذة – في العربية، نحتج بكلامه (وكأنه كلام يقطر عسله)، ونستأنس بكتاباته (وكأنها مُدَبَّجة بمداد القلب)، ونستشهد بتعبيراته (وكأنها فِقَرات موشحة بالشذرات).

وكاتب المقال يعتز بكونه تلميذًا صغيرًا من تلامذة الشيخ الأميني.

اللهم ارحم عبدك «نورعالم» الذي نَوَّر العالَمَ بأنوار لغة قرآنك، وعَظَّم شأنها، وساهم في حفظها وخدمتها عبر نشرها باللسان والقلم؛ فكان من حَفَظَتِها وخَزَنَتِها في هذا الزمان، الذي قلت فيه العناية بها، اللهم نشهد بأنه عَصَر قلبه وفكره، وسخَّر جميع مواهبه وصلاحيته، وأتعب نهاره، وسهر ليله من أجل حفظ لغتك المختارة، وضحى في طريقها براحته ولذائذه، اللهم تقبل خدماته في سبيل لغتك المقدسة، وارحمه واغفر له، واجزه عما قدم لدينك ولغة قرآنك خير الجزاء.

اللهم آمين!

الهوامش:

(١) ترجمة البيت:

عطار كان أو الرومي، والرازي كان أو الغزالي، لا ظفر لأحد بشيء بدون أنات السحر وابتهالاته.

(٢) يكفينا -بهذا الصدد- قول علي الطنطاوي -رحمه الله- عن ندوة العلماء: «إذا كان للإنسان أن يختصر أمانيه في أمنية واحدة، فإني أتمنى أن يعود بي الزمن إلى الوراء، وأرجع تلميذًا صغيرًا، فأتعلم وأعيش في رحاب ندوة العلماء أحيى بين طلابها، وأتعلم على شيوخها، وأتنفس جوها وعطره، فأحيى حياة جديدة بقلب جديد وأمل جديد».

وهناك كلمة أخرى أشاد فيها بندوة العلماء، وشبهها بـ«واحة خضراء في صحراء قاحلة جرداء».

(٣) مجلة الصحوة الإسلامية: عدد ممتاز عن الشيخ الندوي (الجامعة الإسلامية دار العلوم حيدر آباد) السنة ١٣ العدد: ٣٦، محرم ١٤٢١ھ = أبريل ٢٠٠٠م، ص ١٣٧.

(٤) من وحي الخاطر للشيخ نور عالم خليل الأميني ٢ / ١٨٦.

الطبعة الأولى: ١٤٤٢ھ = ۲۰۲۱م

مؤسسة العلم والأدب، ديوبند، الهند.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى