فقيد العلم والبيان الشيخ محمد سالم القاسمي
بقلم: محمد نعمان الدين الندوي
الشيخ محمد سالم القاسمي (١٣٤٤ هـ ١٩٢٦ م – ١٤٣٩ هـ ٢٠١٨ م)
وصف الكاتب المصري الشهير الأستاذ أحمد أمين أستاذًا له، فقال:
«لئن كان أكثر الناس نسخًا متشابهة من كتاب تافه، فقد كان.. نسخة خطية من كتاب قيم نادر».. (١)
وإن قلت: إن من أجدر الناس عندي – ممن عرفتهم عن كثب، من أفذاذ العلماء وكبار القادة والزعماء – وأحراهم بهذا الوصف الرائع الجميل العجيب: فقيدنا الغالي الشيخ محمد سالم القاسمي رحمه الله (رئيس دار العلوم/ وقف/ ديوبند – الهند، سابقًا)، لم أكن مبالغاً.. ولا اتهمني أحد بالغلو في تقدير الرجل.
فما ألقيت الكلام على عواهنه، ولا أقول هذا تزيدا، أو تكلفا أو مجاملة..
وإنما قلت ما قلت مستندًا إلى ركن من التجربة الشخصية وثيق، معتضدًا بأساس متين من المخالطة والمصاحبة والمرافقة والمعرفة الذاتية.. إضافة إلى المآثر والصنائع الجليلة التي قام بها الفقيد العظيم، والشمائل والفضائل التي كان يتحلى بها، رحمه الله.
وأعظم ما يكشف عن أخلاق الرجال، ويبوح بمعادنهم الحقيقية السفرُ.. فالسفر -كما يقال- يسفر عن حقيقة الرجل.. عن طبيعته المتجذرة فيه. ومزاجه الأصيل.
ومن سعادة حظ الكاتب أن الله سبحانه قدر له مرافقة الراحل الكريم في سفر الحج المبارك، الذي سأقص قصته عليكم بعد قليل إن شاء الله.
كنت بدأت المقال بنقل وصف أحمد أمين لأحد أساتذته، وقلت إن هذا الوصف.. مِن أحق الناس به – عندي – فقيدنا الغالي الشيخ محمد سالم القاسمي رحمه الله.
نعم. كانت شخصيته نادرة.. قلما رأى الناس لها نظيرا في العصر الأخير.. ولا عجب في ذلك ولا غرابة.. فالشيء من معدنه لا يستغرب، والولد سر أبيه، فقد استمد أو اقتبس أو ورث الفقيدُ هذه الندرة وهذه المثالية من بيته المثالي الفريد.. بيتِ العلم والفضل والحكمة والدعوة، بيت الصلاح والتقوى، بيت الإمامة والقيادة، بيت النبل والنجابة والشرف، وحسبكم بهذا البيت ذكرًا وفخرًا وشرفًا أنه يعتز بالانتساب إليه مئات الآلاف من العلماء والنبلاء والأشراف.. ذلك البيت الذي سجل في دفتر الزمان اسمه، وملأ الخافقين بذكره.
فكأنه أرغم التاريخ على أن يحتفظ به في أجمل آثاره.
إنه بيت “طيب” و”قاسم” اللذَين كانا ممن يعتبرون فخار العلم، وسماء المعرفة، وجوزاء الصلاح والتقى، وهامة الشرف، وغرة المجد، والشامة بين الناس الذين يشار إليهم بالبنان :
وتفوح من طيب الثناء روائح
لهم بكل مكانة تستنشق
فوالده حكيم الإسلام محمد طيب القاسمي (ت ١٩٨٣م)، ذلك النجم الإنساني العظيم الذي أهدته السماء إلى الأرض – حسب تعبير بعض البلغاء – ، وجده الأكبر – جد والده – حجة الإسلام محمد قاسم النانوتوي رحمه الله (ت ١٢٩٧هـ ) الذي أسس المدرسة الإسلامية الأم: جامعة دار العلوم / ديوبند :
مُثل كالنجوم بل هي أعلى
ومعانٍ كالفجر في إشراقه
إن هذا البيت المبارك يَقْسم (٢) -بفضل من الله وتوفيقه- العلمَ والمعرفة.. علم الكتاب والسنة، وينشر الطيب والشذى.. شذى سمو الخُلق، وطيب الصلاح والتقى، وبهذه المزية الكبرى عُرف هذا البيت -ولا يزال- في العالم.
وهل هذه المدارس والمعاهد الدينية المنشرة في كل صقع من أصقاع البلاد إلا حسنة من حسنات هذا البيت وأثر من آثاره!
فمن كان جده شمساً وأبوه قمراً.. فلا تسأل عن سموه وعلوه، وتلألئه ولمعانه ونورانيته، فكأنه ولد ونشأ وشب وعاش في النور والسعادة، والمجد والسؤدد والعظمة، ويا لها من قسمة، وأكرم به من حظ وبخت:
شرف تتابع كابرًا عن كابر
كالرمح أنبوبا على أنبوب
وأرى النجابة ليس يحويه من لم
يتقدم فيه أبوه وجده
ومن عجنت طينته بريا مكارم “طيب” العالية، وروائح ميراث: “الروح القاسمية” الفواحة.. ونشأ وشب في ظلال خصائص هذين الإمامين الجليلين. واستفحل وتخرج في مدرستهما، فلا غرابة في أن يكون صورة حية لهما، وأن يكون خير خلف لخير سلف..
ومن هنا.. ظل الشيخ سالم -رحمه الله- معلماً شامخاً مضيئاً للعلم والعرفان، بليغ الأثر في عصره، ملء السمع والبصر بحضوره الكبير والفاعل على امتداد ساحات العمل الإسلامي والإنساني والدعوي والتعليمي المحلي والدولي.
عظمة الفقيد
أنا أصدقكم أيها القراء! أنني كلما لقيت الفقيد، شعرت أنني أمام رجل عظيم حقاً.. فكانت العظمة تتراءى وتلوح من جميع أطراف شخصيته.. من أسلوب مخاطبته للناس.. من هيئة جلوسه.. من ابتسامته.. من مزاحه الممتع المؤنس.. وكلامه المتلطف.. وأسلوبه المتجمل المتودد.. وسَيره المتئد.. ومشيته المترفقة.. ورواحه ومغداه.. وقعدته وقومته:
إني أرى وفؤادي ليس يكذبني
روحًا يحف بها الإجلال والعظم
أرى جلالًا أرى نورًا أرى ملكًا
أرى محيًا يحيينا ويبتسم
الله أكبر هذا الوجه نعرفه
هذا عالم الهند هذا المفرد العلم
لا جَرَمَ كان الفقيد -رحمه الله- جمع جوانب مختلفة من العظمة، أو قل حاز العظمة -العظامية والعصامية معًا- من جميع أطرافها: العظمة في الأخلاق.. العظمة في السلوك والعادات.. العظمة -التبحر- في العلم.. العظمة -العراقة- في النسب.
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
خسارة شاملة:
ومن هنا.. فإن وفاته -رحمه الله- خسارة لعدة مجالات، فالفقيد يُعتبر فقيد العلم والمعرفة، فقيد الدعوة والإرشاد، فقيد المنبر والمحراب، فقيد المدرسة والجامعة، وفقيد حلقات الدرس ومجالس العلم، فقيد المنصة والخطابة، فقيد النبل والمروءة، فقيد الكرم والضيافة، فقيدالعامة، والخاصة.
فقيد دنيا بأسرها …
ما إن أعدً من المكارم خصلة
إلا وجدتك عمها أو خالها
إن المكارم لم تزل معقولة
حتى حللت براحتيك عقالها
أما العلم فحدث عن البحر ولا حرج.. فقد رَضَع بلبانه، ونشأ في جوه، وورد مناهله، فصدر عنها بملء سجله، فمخضه -العلم- فألقى لطلابه زبدته، وظل مشتغلاً به تعلماً وتعليماً (من المهد إلى اللحد) إلى أن عُدّ من أعلم علماء عصره.
ويعد تلامذته بالآلاف المنتشرين في أنحاء العالم كله.
الشيخ القاسمي داعيًا ومربيًا
أما في مجال الدعوة والتربية والإرشاد، فقد كان فقيدنا – رحمه الله – من كبار الدعاة والمرشدين والمربين، وكفاه فخراً أنه كان من تلاميذ شيخ المربين وكبير الدعاة الشيخ أشرف علي التهانوي -رحمه الله- المستفيدين منه في هذا المجال الدعوي والإصلاحي والتربوي، فظل يقدم -مدى الحياة- وجبات مباركة للمسلمين، تغذيهم روحيًا، وتساعدهم في دفع غائلة الجوع الروحي -الذي يعاني منه الكثيرون- عنهم.
الشيخ القاسمي خطيبًا
أما الخطابة والبيان.. فكان الفقيد الجليل صنو أبيه في هذا المجال، فقد كان أبوه حكيم الإسلام محمد طيب القاسمي -رحمه الله- من أعظم فرسان الخطابة وأمراء البيان -في عصره- الذين تتفجر ينابيع العلم والحكمة من ألسنتهم وأقلامهم.
وصف أحد الأدباء كلام بعض البلغاء فقال: (إذا تحدث.. فكأن السحر دب في جسمك) وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: “إن من البيان لسحراً”.
فهو يفعل فعل السحر في قلوب السامعين، يقول ابن الرومي:
وكلامها السحر الحلال لو أنه
لم يجن قتل المسلم المتحرز
إن طال لم يملل وإن هي أوجزت
ود المتحدث أنها لم توجز
وهذا يصدق تماماً على الشيخ محمد طيب القاسمي الذي إذا تحدث أو خطب ود الناس لو يطيل ويطيل ولا يجيز.. فكأنه ينثر الدرر واللآلي، ويخلب السامعين بكلامه العالي الرصين في أسلوب ناعم رفيق يجذب القلوب ويسحر النفوس، وكان حديثه يذكرنا بما قاله عبيد الله بن عمرو في شيخه الإمام التابعي النبيل شيخ المدينة يحيى بن سعيد الأنصاري: «كان يحيى بن سعيد يحدثنا، فيسح علينا مثل اللؤلؤ»، فلا شك أنه -الشيخ طيب- كان من أساطين الوعظ والبيان الذين حفروا في ديوان التاريخ وذاكرة الأجيال، فالإبداع له خلود وشموخ، والتفوق له تأثير وذيوع، والتفرد له امتياز وارتفاع.
فلا قَطَعَ الرحمن أصلاً أتــــى بـــــه
فإني رأيت الطيب الطيب الأصل
فطبيعي أن يرث الابن سالم ميزة أبيه هذه أيضاً -ميزة الخطابة والبيان-، فقد ظل الشيخ سالم القاسمي -كذلك- معروفا بامتطاء صهوات المنابر ومقارعة الفرسان في ميادين البيان، وكان له القِدْح المعلى في هذا المجال، وجعل من هذه الموهبة – موهبة البيان – وسيلة لنشر دين الله وتبليغ رسالته، فقد أمضى الفقيد حياته في حمل الأمانة، ودعوة الحق إلى الخلق، وجمع الكلمة، وخدمة الشريعة والحقيقة.
اسم طابق المسمى:
يقال: لكل رجل من اسمه نصيب، وإذا رأينا من هذه الناحية فقيدنا الغالي وجدنا له النصيب الأوفر من اسمه، فقد كانت “السلامة” هويته وطبيعته ومزاجه، فعُرف بين أقرانه بسلامة الفكر والاتجاه والرؤية وعفة لسانه مما يشين الإنسان، فكان سالماً من بذيء القول والفحش والخنا، وكان الناس سالمين آمنين -مِن قِبَلِه- ما يسيء إلى كرامتهم وحرمتهم، الأمر الذي جعله محبوباً أثيراً لدى الناس، متربعاً على عرش قلوبهم، فلينُ الكلام وعفة اللسان مما يجذب القلوب إلى صاحبه ويحببه إليهم ويقربه منهم.. {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: ١٥٩] وكما قيل: «حلاوة اللسان زينة الله للإنسان».
وقد عرف الفقيد بعفة لسانه وطيب كلامه حتى في أشد الأوقات التي تثير حفيظة الإنسان وتجعله يفقد السيطرة على لسانه، ولكنه ظل محافظاً على حرمة اللسان وكرامة الإنسان، غير واقع في أعراض الناس حتى في زمن الاختلاف التاريخي الكبير الذي أدى إلى ما يعرفه الجميع.
فالاختلاف في بعض الشؤون والمعاملات والجزئيات لا يفسد للود قضية.. وتاريخنا العلمي والديني حافل بأمثلة رائعة من سمو الخلاف بين السلف، إذ يُروى -مثلًا- أنه نشب خلاف بين سعد بن أبي وقاص وخالد بن الوليد، ولكل منهما مكانته العظيمة في الإسلام، فأتى رجل من أتباع سعد، فقال له: إن خالدًا يتكلم، ويقول عنك كذا وكذا، فقال له قولة تكتب بماء الذهب: “مه.. إن الذي بيننا لم يبلغ ديننا”.
ويُروى كذلك أن الإمام الشافعي اختلف مع أحد الأئمة في زمنه، فتفرقا ثم كان لقاء بينهما، فقال له الإمام الشافعي: “يا أخي! ما يمنع أن نكون إخوة وإن لم نتفق”.
نعم فلا مانع من المحبة في الله والأخوة الصادقة والتناصح والتعاضد رغم بعض الخلاف الذي في حد ذاته ليس منهياً عنه، وإنما المنهي عنه التنافر والتباعد والتباغض.
وكان فقيدنا – الشيخ سالم رحمه الله – ممن كانوا يتصفون بهذه المزية.. مزية عفة اللسان مع وجود الخلاف، وقد شهد بهذه المزية الكبرى للفقيد فضيلةُ الشيخ الكبير أرشد المدني حفظه الله في بعض حفلات التأبين التي أقيمت للفقيد.
وهي – في الحقيقة – مزية تكاد تكون نادرة مفقودة عنقاء.. لا يشرف الله بها إلا خاصة عباده.
وهذه المزية -مزية سلامة اللسان من الإساءة إلى الآخرين- ورثها الشيخ -فيما ورثه- من أبيه الصالح التقي النقي الطاهر العلم المفرد الشيخ محمد طيب القاسمي -رحمه الله- (فالخُلُق ابن الخَلْق، والولد شبيه بوالده، أو -كما يقال- سر أبيه).
فيذكر أقرب الناس إلى الشيخ محمد طيب أنه لم يرتع في عرض أحد قط، وكان يقال: إذا أحب أحد أن يرى ملكاً يمشي على الأرض فلينظر إلى الشيخ محمد طيب، طيب الله ثراه، وكان يُضرب به المثل في النبل والشرف واحترام الآخرين، فلعله كانت بينه وبين النبل وسمو الخلق قرابة قريبة أو آصرة حميمة.
قصة السفر المبارك:
وإن أنس فلن أنسى ذلك السفر التاريخي المبارك الذي أسعدني الله فيه بحج بيت الله الحرام مرافقاً لصفوة مختارة من علماء الهند وزعمائها، وذلك في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي المسيحي تلبية لدعوة مباركة من وزارة الحج بالمملكة العربية السعودية التي تستضيف كل عام، عددًا كبيرًا من أهل العلم والفضل لحج بيت الله الحرام من جميع أنحاء العالم، تقديرًا منها لهم، واعترافًا بمكانتهم وقدرهم.
ففي العام ( ولعله عام ۱۹۸۸م) الذي تشرفت فيه بدعوة المملكة للحج، كان الوفد الهندي يضم نبذة من أجلة علماء الهند وكبار قادتها، أذكر منهم الشيخ الكبير منة الله الرحماني، والشيخ سعود الرشادي، والشيخ عبد الكريم باريكه، والمفتي فضيل أحمد العثماني، والشيخ أحمد علي القاسمي، والأستاذ عبد الرحيم القريشي، والأستاذ محمد رحيم الدين الأنصاري، والأستاذ سليمان سيته، والشيخ محمد حسام الدين ثاني عامل، وغيرهم من أعيان البلاد، ومن سعادة حظي أن الوفد كان يضم – فيمن يضم – فقيدنا الراحل – أيضاً – الشيخ محمد سالم القاسمي رحمه الله .
وكما هو معروف أن أربعة أشياء تكشف عن أخلاق الرجال: السفر، والمرض، والمخاصمة، والسجن.
و-أيضًا- قيل: «جواهر الأخلاق تفضحها المعاشرة».
ولذا حث عبد الله بن المبارك – في أبيات نسبت إليه – رفقاء السفر خاصة على الرفق واللين:
إذا رافقت في الأسفار قومًا
فكن لهم كذي الرحم الشفيق
متى تأخذ تعنفهم تولوا
وتبقى في الزمان بلا صديق
لاشك أن السفر يسفر عن أخلاق الرجال، ويكشف الستار عن مكنونات طبائعهم، والمسافر يعرف الناس على حقيقتهم خلال السفر، بل ويعرف في أثناء ذلك عيوب نفسه هو.. ويتحسس الثغرات في شخصيته، فيعالجها ويصلحها، إن كان من أهل الاستجابة والإنابة (الإحياء: ۲۱۸/۲) وكم من أناس نحكم عليهم خلال إقامتهم واستقرارهم بأحكام قريبة أو بعيدة، فإذا خالطناهم في السفر تكشفت لنا منهم أشياء وأشياء ، ولقد زكى رجل رجلا عند عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، فقال عمر للمزكي: هل صحبته في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق ؟ فقال: لا. فقال عمر: ما أراك تعرفه (الإحياء: ٢٢٣/٢).
فالسفر خاصة.. أعظم ما يكشف عن حقيقة الرجل، وسفر الحج بالذات.. فيحتمل فيه من وقوع ما يؤدي إلى الخلاف، ويقضي على صفاء الود ما لا يحتمل في غيره من الأسفار والرَّحَلات و – فعلًا – كثيرًا ما سمعنا وقرأنا أن العديد من كبار العلماء والمشايخ المتحابين المتصافين فسدت العلاقات بينهم في سفر الحج فسادًا لم يمكن إصلاحه زمنًا طويلًا.
وفي العام الذي سعدت فيه بالحج تلبية لدعوة الحكومة السعودية، حج فيه – كما قلت آنفًا – الصفوة الصافية والثلة المجتباة ممن كانوا يعتبرون من الصف الأول من أعيان البلاد، وكلهم كانوا على جانب كبير من الأخلاق والشمائل والسجايا العالية، التي تجدر بأهل العلم والفضل والصلاح أن يتحلوا بها.
ولكن الذي تأثرت به أكثر وأعظم في ذلك السفر.. هو فقيدنا الغالي النبيل ابن النبيل الشيخ محمد سالم القاسمي رحمه الله، فقد أثبت بفعاله وأخلاقه. أنه فعلًا عظيم، وفعلًا عالم كبير، وفعلًا ينتمي إلى بيت عريق ماجد كريم، فقد ظل -طوال أيام السفر- مثالًا عاليًا للعالم الزاهد العفيف المستغني الصالح الورع السامي الرفيع عن سفاسف الأمور، فلم تسجل عليه أية ملاحظة – لا صغيرة فضلًا عن كبيرة – ولم تسمع منه أي شكوى من أي شيء، ولم ير -خلال أيام السفر كلها- غاضبًا أو شاكيًا، أو لامزًا أو هامزًا، أو معترضًا أو مطالبًا بشيء، بل بالعكس وجدناه راضيًا مسرورًا شاكرًا قانعًا عابدًا تاليًا للقرآن، معمورًا لسانه بالتسبيح والتحميد. منتهزًا كل دقيقة للاستفادة والانتفاع من قدسية المكان والزمان.
فالحقيقة أن سفر الحج هذا كشف للكاتب عن العظمة الحقيقية للفقيد فلم يزده – الكشف – إلا حبًا له وتأثرًا بأخلاقه، واعترافًا بفضله وتقديرًا لمكانته، واحترامًا له، وتفضيلًا إياه على الكثيرين من العلماء والقادة الآخرين مع حب الكاتب وتقديره لهم.
ففي هذا السفر انكشف للكاتب من عظم شأن الفقيد وفضله وتواضعه وأدبه الجم وتحليه بالأخلاق العالية، واتصافه بصفات العلماء الحقيقيين من الجد والرزانة والوقار والترفع حتى عن الهنيهات، ما جعله -الكاتب- يفضل الفقيد على كثير من علماء عصره، ويعترف بتفرده وتميزه اعترافًا لم تزده الأيام إلا قوة ورسوخًا وتمكنًا من قلبه.
جد وقور وخفة روح
كان الفقيد الشيخ سالم القاسمي -رحمه الله- قد بلغ من العزة والعظمة منزلة تتحلب لها الأفواه وتتلمظ لها الشفاه، فقد ظل -طوال حياته- محفوفاً بهالة من الحب والتقدير والإجلال والاحترام ما لم يقدر منه لغيره إلا نادرًا.
وأظن أن الذي أوصله إلى هذه المكانة المرموقة المحسودة -إلى عظم شأنه في العلم- أنه -رحمه الله- كان عذب النفس، حلو الروح، كريم السجية. مهذب الطبع، سامي الذوق، رقيق الشمائل، حيّ العاطفة، طلق المُحيّا، حسن الخلق، كأن نفسه خلقت من معدن الحب والنبل، وفطرت على سجية من الإخاء والوفاء، وحسن المعاشرة.
فكان الشيخ يفيض على المجلس من روح المرح اللطيف والظرافة والفكاهة وطلاقة الوجه وانشراح الصدر وأريحية الخلق ولين الجانب ما يملؤه -المجلس- أنسًا وسرورًا وإمتاعًا للقلوب وترويحًا للنفوس .
بينما بعض الكبار يظن العبوسَ وتقطب الوجه من أمارات العظمة، أو مما ينسجم مع الوقار والجد والرزانة، وهو اعتقاد خاطئ لا يتفق وروح الإسلام السمحة، فأكرم الناس سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كان يضحك حتى تبدو نواجذه، ويمازح، وكان لا يمزح إلا حقًا، بل وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم الابتسامة عبادة وأمرًا يؤجر عليه الإنسان: (وتبسمك في وجه أخيك صدقة). وقال علي رضي الله عنه: (إن القلوب تملّ كما تمل الأبدان، فأهدوا إليها طرائف الحكمة).
نعم! «هناك صنف من الفضلاء تظهر عليهم سمات الاحتشام إذا ترامت إلى مسامعهم نوادر يتروح بنسيمها المتأدبون من هجير الحياة، إذ تتجهم وجوههم إن باسطهم أحد بمزح مؤنس، أو طرفة لطيفة، ويعدون هذا الهزل سخفًا يصفع قفا الألبّاء، وهذرًا يستتر منه أولو الحشمة بسجاف المروءة، حتى وإن كان مدحًا لم يرتع في حمأة الفحش، ولم يَكْلِم جسم الحياء، ولم يسبح في يم المجون الممجوج.
وقد غاب عن هؤلاء أن الترويح عن الأنفُس بما هو مباح، فيه استجمام للفكر من عناء الجد، واستملاحٌ يهفو إليه الطبع، وتفكه بالممتع من النوادر ومجلبة لطيب الخاطر، ومؤانسة تبعث على الصفاء». (٣)
فالعبوس والتذمر والتبرم والوجه المتقطب يدل على سوء المزاج وتعكره وهياج النفس، و-بالعكس- الوجهُ البشوش البسام، وخفة الروح والمزاح الحلو الخفيف والحديث المستملح والكلام المستعذب أمارة على الإنسان المتفتح الحي.. حي السلوك والروح والأخلاق والشيم، وعلى رحابة الصدر وصفاء الخاطر.
ومن هنا.. فإن هذا الجانب المشرق.. جانب المباسطة البريئة والإيناس الشريف والمزاح اللطيف، والظرف المريح، والتقريب الناعم بالكلام الحلو الجميل والطرائف واللطائف والنوادر الشهية العذبة، الذي يُعد مما يضفي على الحاضرين روح المتعة والبهجة والأنس.. – أقول إن هذا الجانب المشرق الحي من جوانب حياة فقيدنا الغالي، مما كان جعل شخصيته أكثر جاذبية وشعبية، وبالتالي أكثر نفعًا وأجل قدرًا وأعظم حبًا في قلوب الناس.
جزى الله الفقيد الغالي عنا وسائر أبناء الأمة خير ما يجزي به عباده الصالحين النافعين، وأسكنه فسيح جناته، وجعل أعماله مما يثقل ميزان حسناته يوم القيامة، ويعوضنا عنه خيرًا، ويسد الفراغ الهائل الذي حدث بموته، وما ذلك على الله بعزيز، وهو على كل شيء، وبالإجابة جدير . *
الهوامش:
(١) فيض الخاطر ١/ ٢٣٧
(٢) المراد – طبعًا – بالقَسْم هنا، الاعتناء الزائد بنشر علوم الكتاب والسنة.
(٣) العود الهندي، ص ١٤، دار المنهاج، السعودية
*هذا المقال – أصلًا – محاضرة ألقيت في الندوة الخاصة بالشيخ القاسمي، التي كانت عُقدت ٢٠١٩م في الجامعة الإسلامية دار العلوم/ وقف/ ديوبند، الهند.
(الثلاثاء: 10 من محرم ١٤٤٦ھ – ۱٦ من يوليو ٢٠٢٤م).