فكرة الدولة الفلسطينية المستحيلة.. محرقة شعب فلسطين (1-2)

مراجعات فلسطينية عربية إسلامية سياسية

مضر أبو الهيجاء

بدأ القرن العشرين ودخل القرن الواحد والعشرين ولم يتبق بين دول العالم دوله محتلة غير أرض فلسطين وفق معايير سايكس وبيكو الذي فصلها عن أمها وانتزعها من أحشائها في إقليم الشام.

ومنذ أن حلت لعنة الإنجليز ووعد بلفور على أرض فلسطين المباركة، بدأت الهجرات اليهودية واستجلب الغرب اليهود -ومنحهم جزءا من أرض الشام المباركة وأقام لهم دولة- وسكان فلسطين يقارعون الاحتلال ويقومون بفريضة الجهاد ويستشهدون جماعات وأفرادا دون توقف دفاعا عن أقصى المسلمين.

وقد تبلور في فلسطين مساران يستهدفان التحرير، أحدهما التيار الوطني وحركاته المناضلة، والآخر تيار إسلامي جهادي، وقد استهدف كلا التيارين الإسلامي كما التيار الوطني هدف تحرير فلسطين وإقامه دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشريف.

لا شك بأن مسالة التحرير والجهاد والنضال والمقاومة هي عناوين مشروعة وواجبة لاقتلاع الغاصبين ورفع الظلم الواقع على شعب فلسطين، لكن ورغم جهاد قرن كامل وحروب عديدة داخل وخارج فلسطين وفي المحيط العربي، ورغم سقوط مئات الألوف من الشهداء من العرب والفلسطينيين في الحروب والانتفاضات المتعاقبة، إلا أنه لم يتحرر شبر من فلسطين ولم تقم دولتها المنشودة عند التيارين المتفقين على استهداف إقامة دولة فلسطينية مستقلة في حدود فلسطين المرسومة بقلم الغرب، والذي صنع مأساتها باحتراف كبير.

أما عندما قرر الغرب المجرم أن يحدث منعرجا يغير تصور الفلسطينيين لواجبهم الأصيل ويحرف بوصلتهم المرتبطة بمفهوم التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني الذي يستهدف عموم الأمة انطلاقا من قاعدته في فلسطين ، ويضعف ارتباطهم بشعوب الأمة العربية والإسلامية المرتبطة عقديا بالأقصى وفلسطين، فقد منح التيار الوطني الفلسطيني سلطة مخصية في رام الله، ومنح التيار الإسلامي الفلسطيني سلطة موهومة في غزة، فوقع الإسرائيليون اتفاق أوسلو مع التيار الوطني، وانسحب بعدها شارون تاركا غزة للإسلاميين ليسقطوا في الفخ ويحصروا أنفسهم في غزة، وبذلك تخرج فلسطين عن السكة!

من نافلة القول أن إسرائيل هي عبارة عن كيان وظيفي زرعه الغرب الصليبي من أجل خدمة أهدافه الاستراتيجية المتوسطة والبعيدة، وأهمها الحيلولة دون التقاء جناحي الأمة في إقليمي مصر والشام، وذلك ليحول دون نهضة الامة وانعتاقها السياسي وتكاملها الاقتصادي، الأمر الذي لا يمكن أن يتحقق على الوجه المطلوب إلا من خلال وحدة الأمة كما تحقق في كل تاريخنا العربي والإسلامي، وكما جسدته تجربة الناصر صلاح الدين الأيوبي فكانت الثمرة استرداد المسجد الأقصى المبارك وطرد المحتلين.

إن القتال مع الكيان الصهيوني الغربي المسمى إسرائيل، هو تحد وقتال مباشر مع أمريكا والغرب، لا سيما أن أمريكا قد أصبحت سيدة العالم والمقررة والمهيمنة على دوله بعد الحرب العالمية الثانية.

ومما يجب استدراكه بناء على الفهم الواسع لحقيقة الصراع القائم على أرض فلسطين هو مصطلح جهاد شعب فلسطين، حيث أنه تعبير قاصر  عن الأصل الملزم والواجب، وهو جهاد الأمة العربية والإسلامية بشتى الوسائل ضد الهيمنة الأمريكية الغربية الظالمة لشعوب المنطقة، والتي حطت ثكنتها العسكرية على جزء من أرض الشام مستهدفة عموم دول المنطقة وشعوبها، ولذلك فقد أنهكت مصر وأفقرت شعبها وجهلته، وخربت زراعتها وصناعاتها واقتصادها ودولتها وأخرجتها من دائرة الفعل الحضاري، ثم قبضت على سوريا وقتلت شعبها من خلال دعمها وتكريسها للنظام الأسدي الطائفي، ثم هدمت العراق وفككت جيشه القوي، وذلك منذ عقدين بالتعاون الكامل مع إيران، كما هدمت من قبله أفغانستان، وعينها منذ ذلك الحين وحتى اليوم لا تغادر تركيا في كل جوانبها، محاولة العبث والتخريب والعرقلة الدائمة، الأمر الذي يبدو واضحا في علاقتها منذ ستينيات القرن المنصرم مع الأحزاب الكردية السياسية والعسكرية في تركيا والعراق وسورية، ولا تزال أمريكا الداعم الأكبر والحاضر في كل ميدان يمد بعمر الكيان الإسرائيلي ويقويه أكثر لينفذ المطلوب منه بنجاعة أكبر.

إن هدف إقامة الدولة الفلسطينية في ظل الواقع المعقد والتشابكات بين المشاريع الكبرى والمنعرجات التي حدثت خلال قرن يبدي بوضوح أنه حلم مشروع، ولكنه مخادع فاقد للمعقولية وغير قابل للتحقق عمليا.

 لقد شكل التصور والسعي الفلسطيني حول هدف إقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة محرقة للمجاهدين والفدائيين، كما أهرق طاقات شعب فلسطين في سياق مضطرب الأهداف وغير منضبط بحجم وشكل التضحيات، ولذلك فقد كانت تضحيات الشعب الفلسطيني دون نتائج حقيقية تقربها من تحقيق الهدف ولو بشكل تراكمي!

إن فلسطين من الناحية السياسية لم تكن في يوم من الأيام دولة مستقلة يحكمها سكانها العرب والمسلمون، بل كانت على الدوام جزءا لا يتجزأ من أرض وإقليم الشام، إلا عندما قرر المحتل الغربي الصليبي -عبر اتفاق سايكس بيكو- أن يصنع منها دولة مستقلة سياسيا ومفصولة جغرافيا عن إقليم الشام في وعي عموم الأمة، بينما الحقيقة التي يشهد بها كل التاريخ خلال ثلاثة عشر قرنا ونصف، هي أن فلسطين جزء من أرض الشام المباركة وتابع لها من الناحيتين السياسية والإدارية، وذلك منذ أن فتحها عمر بن الخطاب وحتى تاريخ زوال الخلافة منذ قرن بالضبط.

إن فكرة إقامة الدولة الفلسطينية فكرة عليلة وقاصرة وغير ممكنة التحقق في واقع يشهد عليه قرن كامل من الصراع والقتال والمعارك، والذي نزفت خلاله أنهار من دماء الفلسطينيين وأجيالهم المتعاقبة، دون أن يتحقق أملهم الموهوم في إقامة دولة مستقلة عاصمتها القدس الشريف.

إن الخدعة السياسية الكبرى الواعدة بإمكانية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس -على أرضية سايكس بيكو وفي ظل الهيمنة الغربية وتوسع المشروع الصهيوني الغربي في فلسطين- قد نجحت في حرف العقول الفلسطينية الإسلامية كما الوطنية، وأخذتها بشكل ساحر في مسار مرتبك نحو سراب أهرق الدماء وأنفق الجهود في غير الاتجاه الصحيح، حيث انطلق من تصور واقعي قاصر غير قويم ولا هو سليم، الأمر الذي حكم على كل التجارب الفلسطينية خلال قرن بالفشل المريع، ولم يستفد من هذا العنوان البراق إلا الأنظمة العربية الوكيلة عن الغرب، فقد أعفت نفسها من المسؤولية السياسية والأخلاقية، ووجدت في الخيارات الفلسطينية ما يعزز سلطانها المغتصب لحقوق الشعوب، كما أقصت شعوبها عن دورها الواجب تجاه أرض فلسطين وأقصى المسلمين.

ويمكن الإشارة إلى ثلاثة عناصر تشير إلى بطلان وفساد واستحالة تحقيق فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على أرض فلسطين الحالية.

أولا: فكرة الدولة الفلسطينية تجسيد واستكمال لاتفاقية سايكس بيكو الظالمة

لقد قامت فكره تقسيم العالم العربي والإسلامي من خلال اتفاقية سايكس بيكو الظالمة لأجل إضعاف الأمة والحيلولة دون وحدتها السياسية التي تشكل سر قوتها وركيزة نهضتها الحضارية.

ومنذ أن تجسد التقسيم السياسي للمنطقة، وشعوبها تعاني من آثاره الظالمة سواء في الجانب السياسي الذي تعبر عنه حالات الاحتراب القائمة بين الدول العربية وبعضها البعض، أو في الجانب القتالي الذي نشبت بسببه توترات أدت لحروب في المنطقة، أو في الجانب الاقتصادي الذي وزع ثروات المنطقة بشكل ظالم وفق اتفاقيه سايكس بيكو، فصنع عن وعي وقصد دولا غنية وأخرى فقيرة، ثم سرق ثرواتها الظاهرة والباطنة.

إن فكرة إنشاء دولة فلسطينية من حيث الأساس لم تكن في يوم من الأيام تصورا تعكس مرآته واقع الأمة التاريخي والجيوسياسي، ولم تكن يوما من الأيام مطلبا من مطالب شعوبها، بل كانت إرادة غربية صليبية محضة، تدرك قيمة انشاء دولة تفصل بين إقليمي الشام ومصر، اللذين يشكلان سر قوتها ونهضتها في كل حقب تاريخها، لاسيما وقد خبره وعاينه الغرب خلال قرون تخللتها حروب.

إن نجاح فكرة إقامة دولة فلسطينية يعني من الناحية العملية استكمال مشروع سايكس بيكو الذي فرق الأمة وأحدث فيها صراعات لا تكاد تخبو في ناحية حتى تشتعل في جغرافيا أخرى.

أما الإخفاق العالمي في منح وبلورة دولة للفلسطينيين على أرضهم، فهو بمثابة نقص في استكمال اتفاقية التقسيم، وهو على حاله المنقوص بلا إقامة دولة محرض قائم ودائم لوحدة الأمة والعودة للأصل.

ثانيا: فكرة الدولة الفلسطينية غير ممكنة التحقق

في ظل ابتلاع 80٪ من أرض فلسطين التاريخية بقرار دولي ظالم،  وافق عليه التيار الوطني في المقال، وقبله التيار الإسلامي في واقع الحال.

لقد منحت بريطانيا والغرب قطعان اليهود الصهاينة الذين جلبتهم من الشرق والغرب، 78.4% تقريبا من أرض فلسطين التاريخية، وأبقت لسكان فلسطين الأصليين أقل من 22٪ تقريبا، وهي القدس الشرقية ومدن الضفة الغربية وقطاع غزة، ولولا بطولات الجيش العراقي لكانت مدينة جنين جزءا من أراضي الخط الأخضر.

ومنذ ذلك القرار الظالم الذي مضى عليه أكثر من قرن والأراضي الفلسطينية تبتلع تدريجيا بعد اتفاقية أوسلو عام 1993، وبشكل متسارع بعد عملية 7 أكتوبر 2023، سواء في القدس أم الضفة الغربية أم في قطاع غزة، حيث ينتشر الاستيطان في مدن الضفة الغربية كالسرطان دون رقيب ولا حسيب، حتى أنه يحيط بكل المدن الرئيسية وجزء كبير من البلدات الفلسطينية، عداك عن أنه تم تسليح مئات الألوف من المستوطنين وتدريبهم كجيش جاهز ومعد للقتال، فيما تستهدف الحكومة الإسرائيلية ضم الضفة الغربية وجعلها يهودا والسامرة، وذلك بعد أن هدمت غزة على رؤوس مواطنيها، كما عشعش المستوطنون في القدس الشرقية، ولا يزالون يستولون على أراضي وبيوت فيها عنوة عن أصحابها الأصليين.

وفي ظل تلك الصورة الواقعية فإنه من غير الممكن إقامة دولة فلسطينية مستقلة، بل إن الحديث عن حل الدولتين هو تصور قاصر منفصل عن الواقع من الناحية العملية.

ثالثا: فكرة وهدف الدولة الفلسطينية سبب رئيس في انحراف المسارين الوطني والإسلامي المعاصرين

إن من أسوأ ما شهدته الأحزاب والحركات الفلسطينية في مساريها الوطني والإسلامي هو سياسة التخوين التي لم تكن يوما من الأيام صحيحة بعمومها، غير أن الصحيح هو أن بعض الاجتهادات السياسية الخاطئة أفضت إلى سلوك خياني عند بعض القيادات الوطنية والإسلامية.

إن فكرة وهدف إقامة الدولة الفلسطينية المستحيلة كانت سببا مباشرا أدى لانحراف المسار الوطني، حيث اجتهد عميد التيار الوطني الفلسطيني ياسر عرفات في الوصول إلى هدف الدولة، الأمر الذي دفعه لتقديم تنازلات آثمة، وذلك على أرضية واقع موضوعي مقروء، وهو واقع قاهر لا يسمح بإقامة دولة، مما دفعه للاعتراف بإسرائيل، وكذلك الموافقة على اتفاق أوسلو الآثم، والذي وافق بموجبه على منح إسرائيل شرعية في حيازتها لمعظم أرض فلسطين التاريخية، وما يقارب من 80% من نسبتها الإجمالية البالغة 27 ألف كيلومتر مربع.

 لم يكن أمام ياسر عرفات بعد عقود من الجهاد والنضال والكفاح وضمن موازنات القوى الدولية والإقليمية، والأوضاع العربية المعروفة إلا أن يقدم تنازلا ويحظى بإقامة الدولة المزعومة شكليا.

ورغم أن أمريكا كانت في الظاهر وسيطا في محادثات واتفاقية أوسلو، الا أنه سريعا ما تبين أنها طرف ومشروع صهيوني صليبي يعيد رسم الخارطة وفق تصوراته المرحلية، وإذا كانت أمريكا قد منحت ياسر عرفات دولة فإن الطرف الإسرائيلي قد قام بخصيها وأفقدها كل معاني السيادة ثم هدمها كما سمح ببنائها من قبل، الأمر الذي تقدم وتدحرج باتجاه صيغة تنسيق أمني آثم على يد محمود عباس، والذي يعتبر من مؤسسي حركه فتح المناضلة في السياق الوطني!

وكما تسبب الهدف المستحيل -بإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة- بانحراف حركه فتح ذات التاريخ الوطني والنضالات والتضحيات الفدائية في فلسطين ودول الطوق، فقد تسبب هدف الوصول للسلطة وإقامة الدولة في حرف التيار الإسلامي سياسيا وخروجه عن السكة، مقتديا بالتيار الوطني متبعا إياه حذو القذة بالقذة.

إن تبني قيادة التيار الإسلامي ممثلة بحركة المقاومة الإسلامية حماس لهدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة كان سببا مباشرا في إخراجها عن السكة المفضية للتحرير، بشكله الذي يراكم التضحيات ويحصد النتائج الموازية، الأمر الذي ألجأها إلى تحالفات آثمة مع مشاريع معادية للأمة -المشروع الإيراني-، وهو ما أضر بالقضية الفلسطينية وشعبها من عدة جوانب، حيث أحدث هذا الحلف الحرام فجوة حقيقية بين المحيط العربي والإسلامي وبين القضية الفلسطينية وشعبها، كما تسبب هذا الحلف في الزج بالفلسطينيين في معارك عناوينها صحيحة ولكن التصور الحاكم لها فاسد وعليل، حيث يأتي على أرضية الحلف والتوافق والرؤية المشتركة مع المحور الإيراني الوظيفي والمعادي لشعوب المنطقة ودولها، وقد نجح المشروع الإيراني في استخدام الدماء الفلسطينية في معادلاته الإقليمية الطائفية والدولية السياسية، وذلك لأجل زياده مكاسبه ومد نفوذه.

لم يحقق التيار الوطني ولا التيار الإسلامي هدف إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة المستحيلة، ولكن تنازل وانحرف الطرفان سياسيا عن المسار القويم، وذلك للدرجة التي ناقض فيها كل طرف أدبياته ومرتكزاته الأساسية وتصوراته السياسية الأولى.

يتبع

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights