فلسطين قضية المسلمين في الماضي والحاضر.. بين التيه القائم واستحقاقات الوعد القادم


مضر أبو الهيجاء
كانت ولا تزال المسألة الفلسطينية هي من أهم المسائل التي تشغل الدنيا، وهي على رأس قضايا العرب والمسلمين، كما أنها القضية الأشد تأثيرا على دول المنطقة، والأكثر اشعاعا والهاما للشعوب ومشاريع التغيير والتحرير القائمة فيها منذ قرن وحتى الآن.
فما الذي جعل ويجعل القضية الفلسطينية هي أم قضايا الأمة وأولويتها الشاغلة؟
ومن هي التيارات المعاصرة التي قادتها؟ وما هي المسارات التي شكلّتها وتبلورت في تجربتها وعلى يديها؟
وما هو السبيل المفضي لإنهاء الاحتلال الجاثم عليها وإقامة الحق والعدل المنشود فيها؟
مميزات القضية الفلسطينية ومرتكزاتها الأساسية
رغم كثرة قضايا ومآسي العرب والمسلمين الا أن القضية الفلسطينية ظلتّ طيلة قرن على رأس قضاياهم الشاغلة، وموطن تفاعلهم الكبير، وذلك للدرجة التي جعلت كثيرا من الشخصيات العربية والاسلامية تتفاعل معها أكثر من قضاياها الوطنية والمحلية، وهي أكثر القضايا التي كتب عنها السياسيون والعلماء في قضايا الشأن العام، كما انها القضية التي احتلتّ المساحة العريضة من منابر ومساجد المسلمين منذ بداية القرن الحالي كما القرن المنصرم.
ليس عجبا أن تحتلّ فلسطين تلك المكانة، فهي جزء لا يتجزّأ من أرض الشام المباركة، وهي حضن المسجد الأقصى المبارك، وموطن رحلتي الاسراء والمعراج ،ومحلّ امامة النبي محمد صلى الله عليه وسلّم بجميع الأنبياء والمرسلين، وفيها ورث المسلمون الأحقية بالمسجد الأقصى المبارك، وعلى تلك المعاني الجليلة تشهد سير وقبور خير الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلّم من الصحابة المعدلين بنص القرآن الكريم، والذين وعوا قيمتها وأهميتها ودلالاتها الدينية وتأثيراتها السياسية فهاجروا من مكة والمدينة ليستقروا في أرض الشام ويدفنوا في محيط أقصاها المبارك.
فما هي المميزات الفريدة التي اجتمعت في المسألة الفلسطينية حتى جعلتها متقدمة على غيرها في وجوب التناول ودقة التعامل؟
أولا: المسجد الأقصى المبارك
وهو الذي جعله الله قبلة المسلمين الأولى ليصبح جزءا من عقيدة المسلمين، وذلك لما له من دلالات دينية مرتبطة بدعوات الرسل والأنبياء ورسالة الإسلام وكتاب الله الحكيم وسنّة نبيه الأمين صلى الله عليه وسلم، يقول ربنا سبحانه وتعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أتُيتُ بالبُراقِ، وهو دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ، فوق الحمارِ، ودونَ البغلِ، يضعُ حافرَه عند مُنتهَى طرْفِه، فركبتهُ، حتى أتيتُ بيتَ المقدسِ، فربطتهُ بالحلْقة التي ترَبِطُ بها الأنبياءُ ، ثم دخلتُ المسجدَ، فصليتُ فيه ركعتيَنِ، ثم خرجتُ ،فجاءني جبريلُ بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، فاخترتُ اللبنَ، فقال جبريلُ: اخترتُ الفطرةَ .ثم عُرِجَ بنا إلى السماءِ، فاستفتح جبريلُ، فقيل: من أنت؟ قال: جبريلُ، قيل: ومَن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعِثَ إليه؟ قال: قد بُعِثَ إليه، ففُتحِ لنا، فإذا أنا بآدمَ، فرحَّب بي، ودعا لي بخيرٍ …) الخ الى نهاية الحديث الطويل الذي رواه مسلم.
إن رحلة معراج رسول الله صلى الله عليه وسلم الى السماء ولقاء ربه جلّ جلاله، كان يمكن أن تحدث من مكة مباشرة، ولكن الله قضى بأن تسبق رحلة المعراج رحلة الاسراء من مكة المكرمة إلى الأقصى المبارك، وهي الرسالة الربانية التي جعلت الصحابة الكرام ينتبهون للمسجد الأقصى والمقصد الرباني في الاشارة اليه، الأمر الذي جعلهم يسألون عنه محمداً صلى الله عليه وسلم، فعن أبي ذر الغفاري قال: قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أي مسجٍدٍ وُضِع في الأرضِ أول؟ قال: (المسجدُ الحرامُ). قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: (المسجدُ الأقصى). قلُتُ: كم كان بينهما؟ قال: (أربعونَ سنة، ثم أينمَا أدرَكَتكَ الصلاة ُبعدُ فصلِّهِ، فإنَّ الفضلَ فيه). متفق عليه.
قوله: (أي مسجد وضع في الأرض أول..) بيان لقوله تعالى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ [آل عمران: 96] من وجوه:
أحدها: أن المراد بالبيت بيت العبادة لا مطلق البيوت.
الثاني: أن الأولية في الآية تحتمل أولية البناء، وأولية البركة والشرف، فكان الحديث بياناً أنها أولية البناء ويلازمها أولية الفضل والشرف، وذا مقرر بالأدلة الأخرى (1).
وقوله: (ثُمَّ المَسْجِدُ الأَقْصَى) سمي بـ “الْأَقْصَى” لبعد الْمسَافَة بَينه وَبَين الْكَعْبَة. وَقيل: لِأَنَّهُ لم يكن وَرَاءه مَوضِع عبَادَة. وَقيل: لبعده عَن الأقذار والخبائث، فَإِنَّهُ مقدس أَي: مطهر (2).
وفي الحديث بيان فضيلة المسجد الأقصى أنه ثاني المساجد التي وضعت على الأرض.
والأوليةُ في بيوت الله أمارةٌ على علو القدرِ والمنزلة، والعلمُ بذلك يشدُّ القلبَ إلى المسجدين ويُظْهِرُ المحبةَ لهما، ويبعثُ على السفر إليهما والقصدِ إلى العبادة والصلاة فيهما، ويحملُ على دفع الأخطار عنهما.
والمسجد الأقصى أولى القبلتين، وثالث المساجد قداسة؛ فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: (صَلَّيْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا، أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، ثُمَّ صُرِفْنَا نَحْوَ الْكَعْبَةِ) (3).
دل الحديث أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صلوا في المدينة إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً، ثُمَّ نَسَخَ اللَّهُ ذَلِكَ وَأَمَرَ نبيه صلى الله عليه وسلم أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِصَلَاتِهِ الْكَعْبَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُرِيدُ ذَلِكَ ويتمناه حتى أنزل اللَّهُ عز وجل: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الحرام وحيث ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ [البقرة: 144] (4).
وقوله: (نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) يُشعر بأن المسجدَ الأقصى كان قبلةً لعدد من الأنبياء والرسل، ثم تَبِّعهم على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، يُؤكدُّ ذلك قول عِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، قَالَا: ” أَوَّلُ مَا نُسِخَ مِنَ الْقُرْآنِ الْقِبْلَةُ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَسْتَقْبِلُ صَخْرَةَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَهِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، فَاسْتَقْبَلَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا لِيُؤْمِنُوا بِهِ وَيَتَّبِعُوهُ، وَيَدَعُوا بِذَلِكَ الْأُمِّيِّينَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 115]” (5)، وهذا يُظْهِرُ شرف المسجد وعُلُوَّ قدرهِ، فلَزِمَ المسلمين أن يجعلوه موضع اهتمامهم ومقصدَ رحلتهم، ومحلَّ عبادتهم، ويبذلوا غايةَ الوُسْعِ في حراسته.
وقد رغب النبي ﷺ بشد الرحال إليه؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى) (6).
قوله: (لَا تشد الرّحال) أَي: لَا يُقْصَدُ مَوضِعٌ بنية التَّقَرُّب إِلَى الله إِلَّا إِلَى هَذِه الثَّلَاثَة تَعْظِيمًا لشأنها (7).
قَوْلُهُ:( وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى) أَيْ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ (8).
قال ابن تيمية: اتَّفَقَ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى اسْتِحْبَابِ السَّفَرِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِلْعِبَادَةِ الْمَشْرُوعَةِ فِيهِ: كَالصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالذِّكْرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالِاعْتِكَافِ (9).
وأفاد الحديث بدلالة الإشارة وجوبَ حفظِ هذه المساجد والدفاعِ عنها؛ لتبقى عامرة بالمؤمنين، وتحت سلطانهم.
وَعَنْ مَيْمُونَةَ، مَوْلَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَقَالَ: «ائْتُوهُ فَصَلُّوا فِيهِ» وَكَانَتِ الْبِلَادُ إِذْ ذَاكَ حَرْبًا، «فَإِنْ لَمْ تَأْتُوهُ وَتُصَلُّوا فِيهِ، فَابْعَثُوا بِزَيْتٍ يُسْرَجُ فِي قَنَادِيلِهِ» (10).
وفيه تأكيدٌ على الاهتمام بالمسجد الأقصى، ودلالة بمفهومه الموافق على ما هو فوق الزيت كتشييد بنائه واتساعِ مساحته، وكفالةِ عُلمائه ودعاتهِ وخدامه، ودفع موانع ذلك.
وعَنْ ذِي الْأَصَابِعِ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنْ ابْتُلِينَا بَعْدَكَ بِالْبَقَاءِ أَيْنَ تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (عَلَيْكَ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَلَعَلَّهُ أَنْ يَنْشَأَ لَكَ ذُرِّيَّةٌ يَغْدُونَ إِلَى ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَيَرُوحُونَ) (11).
وإن الصلاة في المسجد الأقصى طهارة من الذنب؛ فعنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سَأَلَ اللَّهَ حُكْمًا يُصَادِفُ حُكْمَهُ، وَمُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ، وَلَا يَأْتِي هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لَا يُرِيدُ إِلَّا الصَّلَاةَ فِيهِ إِلَّا خَرَجَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (أَمَّا اثْنَتَانِ فَقَدْ أُعْطِيَهُمَا، وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ قَدْ أُعْطِيَ الثَّالِثَةَ) (12).
قوله: (أَنَّ سُلَيْمَانَ بْنَ دَاوُدَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بُنْيَانِ مَسْجِدِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ) دليلٌ ظاهر على أنَّ سليمان عليه السلام بنى مسجد بيت المقدس ولم يبنِ هيكلاً كما تزعم يهود.
وقد شارك كثير من الصحابة رضوان الله عليهم في فتح الشام وفلسطين والقدس واستقر بعضهم في فلسطين فترة طويلة كما توفي بعضهم ودفن فيها، ومن هؤلاء الصحابة الكرام عبادة بن الصامت والذي عمل قاضيا ومعلما في القدس، وكذلك سلمان الفارسي ومعاذ بن جبل وشداد بن أوس وأبي عبيدة بن الجراح، كما تذكر بعض الروايات –وان كان بها ضعف- عن مشاركة أبي ذر الغفاري في فتح القدس عام 15 للهجرة ومكوثه في فلسطين قبل عودته للمدينة المنورة ووفاته في الربذة بالقرب منها.
ثانيا: بركة الأرض
لقد اختص الله عموم أرض الشام وخصوص المحيط الجغرافي للمسجد الأقصى المبارك بالبركة دون جغرافيا الدنيا بأسرها، ومع أن بيت الله الحرام في مكة والمدينة أعلى أجرا من المسجد الأقصى من حيث الصلاة فيهما كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الا أن الأرض التي اختصها الله بالبركة دون غيرها هي في محيط الأقصى وحوله في مساحة الشآم المباركة، وقد جاء عن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قوله لحذيفةَ بنِ اليمانِ ومعاذِ بنِ جبلٍ وهما يستشيرانه في المنزلِ، فأومأ إلى الشَّامِ ، ثمَّ سألاه فأومأ إلى الشاَّمِ قال: عليكم بالشاَّمِ ، فإنهَّا صفوةُ بلادِ اللهِ يسُكِنهُا خيرتهَ من خلقِه، فمن أبَى فليلحَقْ بيم نِه، وليسْقِ من غُدَرِه، فإنَّ اللهَ تكفلَّ لي بالشاَّمِ وأهلِه. حديث صحيح
وقد زاد الله سبحانه وتعالى بركتها بأن جعلها بركة للعالمين، ولم يقصر بركتها على أهلها وساكنيها فحسب، كما جعل من أشكال بركتها وجود طائفة منصورة تقاتل على أمر الله فيها، وقد ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم) لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس (متفق عليه ،وأما الزيادة المذكورة في الحديث وهي )فقيل: من هم يا رسول الله؟ قال: هم في بيت المقدس( فقد وردت في مسند الامام احمد وضعفها الألباني، وعلى فرض صحتها فان المقصود بها أرض الشام عامة، كما تزداد بركة الأرض في محيط الأقصى القريب واللصيق، وهو معنى تشير اليه أحاديث كثيرة تجمع بين مسمى أرض الشام وتحديد الاشارة لبيت المقدس، والله أعلم.
وممّا يشهده العالم جميعه في كل حقبه السابقة وحتى يومنا هذا، أن الدنيا بأسرها تبعد أن تنعم بالراحة والأمن والسلام ما دام الظلم والاحتلال والكفر قائماً على أرض الشام المباركة والتي بارك الله فيها للعالمين؛ لأن الدنيا جميعاً سيحرمون حظاً من البركة التي قدرها الله في تلك الأرض، وقد أخبر الوحي عن ذلك قرآناً وسنةً؛ قال تعالى: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الإسراء: 1]، وقال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ، وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 69-71]، ولم يفصل القرآن في بركة الله في الشام؛ ليفطن ذوو الأفهام أنها عامة لكل وجوه البركة في دينها، ومعدن أهلها، وطينة أرضها، وصفاء نسيمها، وعذوبة مائها، وطيبة ثمرتها، ونفاسة سمرائها.
قال الطبري رحمه الله: قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ صَرِيْح فِي حُصُول البركة للمسجد الأقصى من الله عز وجل، فَاللهُ تَعَالَى جَعَلَ حَوْلَهُ الْبَرَكَةَ لِسُكَّانِهِ فِي مَعَايِشِهِمْ وَأَقْوَاتِهِمْ وَحُرُوثِهِمْ وَغُرُوسِهِمْ (13).
وَقَالَ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ رحمه الله: ” اختلف العلماء في هذه البركة فقيل: هي بالرسل والأنبياء وقيل: بما بارك فيها من الثمار والمياه” (14).
وَقَالَ العَفّانِي حَفِظَهُ اللهُ: “وهذه البركة غير مقيدة ولا محددة، فهي شاملة لكل أنواع البركة: البركة الإيمانية والبركة الأخلاقية والبركة التاريخية والبركة السياسية والاجتماعية والجهادية، وهذه البركة ربانية ثابتة مستقرة، ولن ينجح الأعداء في انتزاعها وتفريغها منها، مهما بذلوا من جهود” (15).
ومحل العصابة المؤمنة، وملاذ أهل الإيمان من الفتن، وعقر دارهم في آخر الزمان؛ فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ حوالة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رَأَيْتَ لَيْلَةَ أُسْرِىَ بِي عموداً أَبْيَضَ كأَنَّهُ لُؤْلُوَةٌ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ، قُلْتُ مَا تَحْمِلُونَ؟ قالُوا: عَمُودُ الإِسْلاَمِ أُمِرْنَا أن نضعه فب الشام، وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت وسادتي، فظننت أن الله قد تخلى من أهل الأرض، فأتبعته بصرى، فإذا هو نور ساطع بين يدى حتى وضع بالشام). فقال عَبْدُ اللهِ بْنُ حَوَالَة رضي الله عنه: يَا رَسُولَ اللهِ خَرْ لي. قال: (عَلَيْكَ بِالشَّامِ) (16).
وعَنْ عَبْدِ الله بن عمرو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ عَمَدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ أَلا إِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتِ الفتن بالشام) (17).
وهي محضن الأنبياء من قبل؛ قال تعالى خبراً عن إبراهيم ولوط عليهما السلام: ﴿وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 71]، وهي بلاد الشام.
ومحل محشر الناس ليوم الحساب؛ قال تعالى: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ (18).
عَنْ قَتَادَةَ رحمه الله: قوله: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ قَالَ: «كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّهُ يُنَادِي مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ مِنَ الصَّخْرَةِ، وَهِيَ أَوْسَطُ الْأَرْضِ».
وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذْ رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ احْتُمِلَ مِنْ تَحْتِ رَأْسِي، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ مَذْهُوبٌ بِهِ، فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي، فَعُمِدَ بِهِ إِلَى الشَّامِ، أَلَا وَإِنَّ الْإِيمَانَ حِينَ تَقَعُ الْفِتَنُ بِالشَّامِ) (19).
أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أن عمود الإسلام هو الإيمان يكون عند وقوع الفتن- بالشام- بمعنى أن الفتن إذا وقعت في الدين كان أهل الشام برآء من ذلك ثابتين على الإيمان، وأي مدح أتم من ذلك.
والمقصود بعمود الإسلام: ما يعتمد أهل الإسلام عليه، ويلجئون إليه، والعيان شاهد لذلك، فإنا رأينا أهل الشام على الاستقامة التامة، والتمسك بالكتاب والسنة عند ظهور الأهواء واختلاف الآراء.
ثالثا: المشروعين الصليبي والصهيوني
ان المشروعين الصليبي والصهيوني معاديين للأمة ودينها وهويتها الثقافية، ويتقاطع المشروعان في منطلقاتهما الدينية العقدية التي تستهدف رسالة الإسلام وعقائده بالإتلاف وأهله بالاقتلاع ودياره بالسلب والاحتلال، كما يتشابه المشروعان بسعيهما للتموضع في الأرض المباركة الجاذبة، والتي تشير لوحدة منطلقهما الديني من حيث التاريخ المغلوط والروايات والنبوءات الدينية المختلطة المتعلقة بأرض المسجد الأقصى المبارك.
ان عموم أرض فلسطين وخصوص القدس شكلّتا القاعدة المستهدفة للتموضع والتمركز من قبل كلا الم شروعين الصليبي والصهيوني، وذلك بغرض استهداف عموم البلاد الشامية والمصرية حيث الخزان البشري والموارد العظيمة التي تعين الاحتلال على تمكين مشروعه واستدامته عبر اخضاع شعوب المنطقة ودولها ،فعندما سقطت القدس عام 1187 ميلادية على أيدي الصليبيين ،وعندما سقطت القدس في عام النكبة 1948واستكم ل سقوطها في عام النكسة 1967 على أيدي الصهاينة، لم يكن المقصود من احتلالها مجرد سلب أرض فلسطين وحيازة زيتها وزيتونها وأقصاها الذي عبث به وأحرقه
الصهاينة كما الصليبيون، بل ان التاريخ القديم في الحقبة الصليبية والتاريخ الحديث في حقبة الاحتلال الاسرائيلي يشهدان على أن كلا المشروعين انطلق من فلسطين مستهدفا عموم البلاد الشامية والمصرية والعراقية والحجازية والمغاربية وغيرها، وذلك في مناحي عديدة سياسية وجغرافية وعسكرية واقتصادية وثقافية، ومن أقدار الله أن أرض فلسطين تشكلّ جغرافيا القلب الذي يصل بين اقليمي مصر والشام، كما يتوسط ويصل بين أقاليم المشرق والمغرب، الأمر الذي جعل فلسطين مركزا جيوسياسيا غاية في الأهمية والحساسية والتأثير.
وبكلمة يمكن القول أن هناك ثلاث مميزات اجتمعت في المسألة الفلسطينية حتى جعلتها على رأس قضايا العرب والمسلمين، لاسيما أن تأثيرها على كل محيطها حقيقي وفاعل وليس موهوما ولا عابرا.
ومن اللافت أن تلك المميزات الثلاث هي التي تتشكلّ منها مرتكزات قويمة للعمل الواجب في مسار القضية الفلسطينية ،وأولها هويتها الدينية ودلالتها العقدية التي يشير اليها الأقصى المبارك، وثانيها بركة الأرض التي امتدت آثارها وتجاوزت أهلها وساكنيها لتشمل العالمين ان هم قاموا بواجبهم نحوها، -أو حرم منها العالمين ان هم ظلموا أنفسهم وتخاذلوا عن نصرتها وقفزوا عن الواجب تجاهها-، وثالثها المشروع الصهيوصليبي الذي تموضع على أرضها واحتلهّا مستهدفا هوية الأمة الثقافية وأمنها واقتصادها وعمرانها وتاريخها وانسانها .
التيارات المعاصرة التي حكمت مسارات القضية الفلسطينية ورسمت واقعها الحالي
منذ الاحتلال الإنجليزي لفلسطين فور فرط عقد دولة الخلافة التي كانت تدير أقاليم المنطقة العربية والإسلامية -ومنها إقليم الشام- وحتى يومنا هذا، فقد مضى على الاحتلال الإنجليزي والإسرائيلي لفلسطين مائة عام، كانت فلسطين -كما عموم دول المنطقة الناشئة- تدور بين تيارين وطني واسلامي، يلتقيان في جوانب ويختلفان في جوانب ويتناقضان في أخرى، لاسيّّما أن التيّّار الوطني والقومي تبلور نتيجة تفاعل بعض الشرائح والنخب العربية مع المذاهب الغربية وتجاربها التي شكلّت قوامها بعد نجاح الثورة الفرنسية عام 1789، ومن هنا انبثقت فكرة معاداة الدين عند القوميين والاشتراكيين العرب، أو تجاوز قضايا الدين عند الوطنيين.
لقد تشكلّت نواة التيار الوطني الفلسطيني على يد الحاج أمين الحسيني المقدسي مفتي الديار الفلسطينية )القدس1895- بيروت1974(، كما تشكلّت نواة التيار الاسلامي على يد الشيخ عزالدين القساّم السوري )1883 جبلة اللاذقية – 1935 أحراش يعبد جنين(، ومن المعروف أن الرجلين قد قاما بجهد كبير وعظيم زمن الانتداب البريطاني على أرض فلسطين، وذلك فور سقوط الخلافة العثمانية ونشوء الدول الوطنية بعد اتفاقية سايكس-بيكو الظالمة، والتي مزقت ارث دولة الخلافة وأنهت الاطار السياسي المعبّّر عن الأمة في جانب وحدتها السياسية، فلم يبق من مكوّن الأمة الحضاري الا العلم والعلماء كمعبرين عن هوية الأمة ووحدتها الثقافية.
ومن المفيد ذكره أن الحاج أمين الحسيني الذي ولد في القدس مات ودفن في بيروت بعد خوضه تاريخا نضاليا سياسيا كبيرا في دول المشرق والمغرب والغرب الأوروبي لصالح القضية الفلسطينية، بينما ولد الشيخ عز الدين القسام في جبلة من أعمال مدينة اللاذقية واستشهد في أحراش يعبد في جنين وهو يقاتل الإنجليز وخلفه مجاهدو فلسطين، وكان الشيخ عز الدين القسام قد أسس جمعية الشبان المسلمين في حيفا في عشرينيات القرن العشرين بهدف تعميق القيم الاسلامية ومقاتلة الانجليز وجعل منها وسيلة تنظيمية لتأطير الشباب في مواجهة الاحتلال، ولذلك فقد أصر أهل حيفا أن ينقلوا جثمانه ويدفن فيها –حيث دفن في بلدة سميت ببلد الشيخ نسبة له- وفاء لجهوده الدعوية حيث كان خطيب جامع الاستقلال القائم في حيفا حتى الآن، وذلك بعد أن عينته الأوقاف في القدس مأذونا شرعيّّا –وكان أحد أعمامي ممّن زوّجهم وعقد قرانهم الشيخ عزالدين القسام رحمهم الله أجمعين.
من الملاحظ أن المسألة الفلسطينية كانت في بداياتها من ناحيتي التنظير والتدبير –المناهج الفكرية والأعمال الجهادية-، غير محصورة ولا حكرا على العقول والسواعد الفلسطينية، لاسيمّا أن تشكّل الدول الوطنية كان حديث العهد وطريّ العظم، ومن المعروف آنذاك أن امام المسجد الأقصى طاهر الحسيني -وهو والد الحاج أمين الحسيني- طالب بضم أرض فلسطين الى سورية الكبرى في زمن الانتداب البريطاني ايمانا منه بأن اقليم الشام وحدة لا تتجزأ ، وأن مجموع دوله وأراضيه تشكلّ موطن الأرض المباركة، الأمر الذي لم توافق عليه الحكومة السورية التي كانت في بدايات نشوئها وتشكلها .
ولقد شهد التياران الوطني والاسلامي في فلسطين تطوّرات كثيرة ومنعرجات هامة على المستويين التنظيري والسياسي، وما بني عليهما من أعمال قتالية وجهادية في حقب وجغرافيا متفرقة، الى أن تبلور وانتهى التيار الوطني بمدرسة حركة فتح -وعميدها ياسر عرفات رحمه الله- وذلك رغم اختلافها في جوانب عدة عن تجربة الحاج أمين الحسيني وان كانت امتدادا لها، كما تبلور التيار الاسلامي في مدرستي حركة الجهاد وحركة حماس -وعميدهما الشيخان أحمد ياسين وفتحي الشقاقي رحمهما الله- وذلك رغم اختلافهما عن تجربة الشيخ عز الدين القسام في عدة جوانب وان كانتا امتدادا لها .
ليس المقام هنا لبحث ومناقشة أشكال التطوّرات التي حدثت في التيارين الوطني والاسلامي في فلسطين، وذلك رغم أهمية ذلك البحث وتلك الدراسة لفرز الجوانب الصواب من الخطأ، وفهم أسباب التحوّلات في التجربتين والاتجاهين، ولكن المقام هنا لطرح سؤال الوقت وهو، كيف تعامل التيار الوطني والتيار الاسلامي مع القضية الفلسطينية وما هو المسار الذي خطّه كل منهما، ولا يزال يصوغ المسار الفلسطيني ويقود الى نتائجه حتى يومنا هذا؟
ان الجواب الدقيق الذي سيشير الى المسارات التي جسدتها التجربتان يعتبر ترجمة لشكل تعامل كل منهما مع المرتكزات الثلاثة في المسألة الفلسطينية والتي تشكلّ مسطرة للقياس في التجربة الفلسطينية، كما تم عرضها فيما تقدّم من المقال.
التيار الوطني والإسلامي الفلسطيني.. سوية البدايات وتيه النهايات أمر تقرره مسطرة المرتكزات
أولا: التيّار الوطني
لقد كان الحاج أمين الحسيني مفتيا للقدس والديار الفلسطينية في زمن الحرب العالمية الثانية، كما كان والده الحاج طاهر الحسيني أحد أئمة المسجد الأقصى المبارك، ورغم ذلك فان تجربة ياسر عرفات -الذي أسسّ ورفاق دربه أكبر حركات التحرر الفلسطيني الوطني- رفضت منذ التأسيس اعتبار المرجعية الإسلامية في العمل السياسي والقتالي، متبنّية المنهج العلماني الذي يحصر دور الدين في المسجد والعبادات الفردية وقضايا المجتمع العامة، ولا يعترف بسلطة الدين وأحكامه على الممارسات السياسية والقتالية، وقد صرح بذلك ياسر عرفات في لقاء خاص مع أحد عمومتي –من الذين عملوا مع جماعة القسام بعد استشهاده-، فرفض العمل معه نتيجة رفض أبي عمّار لاعتبار مرجعية الإسلام في العمل السياسي، وعليه فقد غاب مصطلح ومفهوم الحلال والحرام والجائز والمنكر في المشروع الوطني سياسيا منذ لحظة تبلوره المعاصر، وهو بهذا يكون قد ناقض أولى المرتكزات في القضية الفلسطينية والتي تعكس عقائديتها ويشير اليها المسجد الأقصى المبارك وما يتعلّق به كما تقدم ذكره.
كما انطلقت حركة فتح وعموم حركات التيار الوطني الفلسطيني من مفهوم مركزية القضية الفلسطينية، وهو ما يتصادم مع مركزية الأمة والدين، وقد كان هذا المفهوم موروثا عن القومية العربية -والتي حكمت دول المنطقة نصف قرن-، فجعلت قضية فلسطين هي القضية المركزية الوحيدة التي تهتم بها، قاصرة
قراءتها لكل خطواتها وتحالفاتها السياسية انطلاقا من مركزية القضية الفلسطينية واعتبار انعكاسات أي خطوة عليها دون النظر لقضايا الأمة الأخرى بنفس المسؤولية والاعتبار والأهمية، ولعل مواقف حركة فتح وياسر عرفات وعموم القيادات الفلسطينية تشير الى هذا الخلل، وفي هذا الصدد يمكن فهم موقف ياسر عرفات في تأييده لصدام حسين في خطوة اجتياح الكويت من منطلق عقيدته السياسية القائمة على مركزية القضية الفلسطينية ومصالحها، كما يمكن فهم خطوة ياسر عرفات ومحمود عبّّاس بعقد اتفاق أوسلو مع الاسرائيليين كاجتهاد ينطلق من تصور موهوم لخدمة القضية الفلسطينية وشعبها ضمن ظروف الواقع والمحيط والتوازنات آنذاك، وليس انطلاقا من رغبة بالخيانة كما يصورها البعض فيضعف بذلك النظر الواجب لحجم وعمق الخلل.
ان السلوك السياسي الذي سلكه ياسر عرفات وصبغ به التيار الوطني الفلسطيني يتصادم مع المرتكزات المعتبرة في القضية الفلسطينية، فلا هو توقّف عند مفهوم الحلال والحرام في البعد السياسي انطلاقا من رفضه المرجعية الإسلامية في الأعمال السياسية، ولا هو اعتبر قيمة بركة الأرض والتي تعود على العالمين ولا تنحصر بساكنيها، ولا هو بنى خطته بناء على طبيعة المشروع الصهيوني الذي جاء مستهدفا عموم المنطقة وشعوبها، حتى باتت القضية الفلسطينية قضية الفلسطينيين وحدهم، فهم المقرّرون والمتصرفون دون سواهم، معتبرا أن القضية المركزية هي الفلسطينية، الأمر الذي انعكس غيابا مضطردا للفاعلية الحقيقية للعرب والمسلمين نتيجة عدم وجود تصور وخطة لإشراكهم في الأعمال السياسية والقتالية من حيث التفكير والتنظير والسلوك، وذلك بالأصالة عن أنفسهم جنبا لجنب مع الفلسطينيين.
ان مفهوم مركزية القضية الفلسطينية قد وقع -في واقع الحال دون المقال- بإنكار دلالات وانعكاسات المشروع الصهيوني -الذي يحتل أرض فلسطين- على عموم المنطقة وشعوبها ودولها، وهو ما شكلّ الأرضية الخصبة لاتفاق أوسلو كحلّ مناسب ظرفيا للحالة الفلسطينية من منطلق الرؤية المركزية، وهو اجتهاد ضالّ شرعن في خياراته المنهجية وأسّس –من حيث لا يدري- لحالة التطبيع العربي الرسمي مع إسرائيل.
كما ناقض مفهوم القضية المركزية معنى بركة الأرض ودلالاتها الشرعية في جانبين، أولهما حين غفل عن مفهوم البركة والنمّاء، وغاب عن خياراته السياسية قيمة ودلالات بركة الأرض للعالمين كما نصّ عليها قول ووصف ربّنا في القرآن الكريم، وثانيهما أنه خالفها ونقضها عمليا حين قدّم ياسر عرفات في اتفاق أسلو تنازلات أرضية تساوي 79% من أرض فلسطين التاريخية، والتي هي جزء من الأرض التي بارك الله فيها للعالمين -أرض الشآم-، ولم يقصر بركتها -وبالتالي حرية التصرّف بها- على الفلسطينيين، لاسيّمّا وهي في غالبها أرض وقف إسلامية بإجماع المسلمين .
ثانيًا: التيار الإسلامي
بدأ التيار الإسلامي محاولاته الأولى باتجاه تصويب المسار الفلسطيني الوطني ومعالجة أخطائه وتقويم اعوجاجه، وكان أولها اعتباره للمرجعية الإسلامية وأحكام الدين في سياساته وخططه وأحلافه، عداك عن نظرياته وتنظيره وتصوراته التي تؤمن بمركزية الدين ومفهوم الأمة ودورها في تحرير فلسطين، وهو في ذلك قد أصاب ، الأمر الذي جعله يحوز على تعاطف وتأييد منقطع النظير على مستوى الشعوب العربية والإسلامية، وعلى مستوى الداخل والخارج الفلسطيني، وذلك للدّرجة التي جعلت أبرز حركات التيار الإسلامي، حركة حماس ومؤسسيها الأوائل يتربعون على عرش القضية ويأسرون مشاعر وعواطف وقلوب المسلمين –بما فيهم الكثيرين من أنصار حركة فتح وأبناء التيار الوطني والقومي وحتى اليساري-، حتى باتت كثيرا من أسماء مواليد العرب والمسلمين تتسمى بالياسين وعياش والرنتيسي وحماس والقسام تيمّنا بالدعاة والمجاهدين الذين نذروا أنفسهم لله وعلى طريق تحرير فلسطين وإقامة حكم عادل فيها يستهدف تحقيق وحدة المسلمين، فرحمهم الله أجمعين وأجزل لهم العطاء على ما قدّموا وبذلوا وجمعنا بهم في جنات النعيم مع النبيين والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
لم تلبث حركة المقاومة الإسلامية حماس تعمل في الساحة الفلسطينية وتعيد تصحيح التصورات القاصرة التي سمحت للتيار الوطني باجتهاداته الخاطئة، حتى دخلت في متاهات ثلاث واجترحت كبائر سياسية -مدفوعة بشهوة السلطة والعلاقة مع الدول، وهي نفس الآفة التي وجدت من قبل عند ياسر عرفات وتسببت بعوج مساره وتهاوي مواقفه وتنازلاته-، فاستبدلت التصورات القاصرة في مناهج الوطنيين بأخرى فاسدة وأعطتها أغلفة شرعية هشّة ومعوجّة، وبنت عليها اجتهاداتها السياسية الكارثية، وأما الكبائر السياسية فهي:
أولا: قبولها باتفاق أوسلو في واقع الحال ورفضه بالمقال، وذلك من خلال مشاركتها بالعملية السياسية في ظل المحتل ، حيث شاركت في الانتخابات التشريعية عام 2006، وذلك على أرضية اتفاق أوسلو وفي ظلّ المحتلّ الذي يمسك بأطراف العملية السياسية ويضيقها ويوسعها ويجيزها كما يشاء، الأمر الذي جمع بين الشيء ونقيضه في سياسات الحركة ومواقفها، فمن جهة تعتبر حركة حماس حركة مقاومة تحررية تمارس سلوكا قتاليا يستهدف التحرير من خلال وسيلة الجهاد الشرعي، ومن جهة أخرى تقف على أرضية اتفاق أوسلو مع الاسرائيليين المحتلين لبلادها وتستلم سلطة سياسية في غزة برضا الأمريكان وقبول اسرائيل، متجاوزة لتلك الحقائق ومتعامية عن مقاصد العدو في منح حركة حماس حق المشاركة بالانتخابات التشريعية –حتى في القدس- لأجل اغراقها في السياسات التي يمسك المحتل بكل أطرافها ولأجل تمزيق القضية الفلسطينية من الناحية السياسية والمجتمعية.
ثانيا: الحسم العسكري في غزة والانقسام الفلسطيني الذي دفع اليه محمد دحلان وقواته –السلطة الفلسطينية-، واستكملته حركة حماس باستئثارها بالسلطة السياسية في غزة عام 2007، علما بأن الحسم العسكري تمّ بعد أسبوع كامل، كان دور السلاح خلالها كاملا عبر قتال في شوارع غزة وعلى مقربة من المعابر الإسرائيلية وتحت أنظار المحتلّ الذي كان يشاهد ويراقب حركة السلاح والحسم ولم يطلق رصاصة واحدة، ولم يحل دون تمامه!
ومع تجذّر الانقسام السياسي فقد تم تقسيم الشعب الفلسطيني ظلما الى ملائكة وشياطين، وذلك بحسب ألوان الرايات الخضراء والصفراء والسوداء والحمراء، للحدّ الذي باتت فيه جميع الصروح العلمية والجامعات في فلسطين تشهد اقتتالا وقتلا بين الفرقاء الفلسطينيين، وهم الذين يجتمعون عصرا وفي كل جمعة في بيوت الله مكبرين ومهللين راكعين وساجدين!
ثالثا: الحلف السياسي الفولاذي مع العدوّ الايراني، والذي أسس لمشروع وحدة السا حات مع الأذرع الايرانية في دول المنطقة، مما استدعى عودة حركة حماس لنظام بشار الأسد واعتباره ركيزة في مشروع تحرير الأقصى وكل فلسطين، جنبا الى جنب مع وليّ الفقيه الايراني وأذرعه الخاضعة له في الساحات الخمس!
ويمكن القول أن حركة المقاومة الاسلامية حماس عندما امتشقت السلاح وشقتّ طريق الجهاد وسلكت دربه بأشكال متطوّرة ابتداء من نشأتها في بدايات انتفاضة الحجارة عام 1987ومرورا بكل الانتفاضات والمعارك، حقّقت تحوّلا نوعياّ باتجاه تصحيح المسار الفلسطيني الوطني الذي ضلّ البوصلة.
وما أن ارتبطت حركة حماس بإيران، ثم قدّمت اسرائيل للأطراف الفلسطينية المتنافسة جزرة السلطة بعد أن قرر شارون الانسحاب من غزة وتسليمها للفلسطينيين عام 2005 بشكل طوعي احادي الجانب –فيما استشرت ظاهرة الاستيطان في القدس ومدن الضفة-، وأعقبه أولمرت برمي الجزرة بين قيادات فتح وحماس عبر السماح للفريقين بالمشاركة في الانتخابات التشريعية عام 2006، والتي شهدت فوزا هائلا لحركة حماس وتموضعا سياسيا في جسم السلطة الفلسطينية، ومع تصاعد حالة الاحتراب والندية بين فتح وحماس المتنافستين، حتى انتهت حركة حماس الى الحسم العسكري بغزة عام 2007 –وتحقق ما أرادته اسرائيل- ، وهكذا فقد انحرفت خيارات قيادة حماس كما انحرفت قيادات حركة فتح وضلّتا طريقهما سياسيًا، وما ذلك الا بسبب استبدال
مشروع التحرير بمفهوم السلطة، ورغم تلك التحولات فقد حافظت حركة حماس على نشاطاتها الأساسية كالدعوة والاصلاح والاعداد للجهاد، وذلك بفضل جهود الدعاة الصادقين وتماهيا مع النسيج الشعبي الفلسطيني الذي كان دوما –كبقية شعوب الأمة- متعطشّا للدين.
ان المدقّق لمشوار حركة حماس الدعوي والسياسي والجهادي يجد أنها انطلقت منسجمة مع المرتكزات الثلاثة للقضية الفلسطينية، لكنهّا ما أن وطأت قدماها عرش السلطة -الموهومة والمنقوصة السيادة- وتعززت علاقاتها مع الدول الوطنية القائمة، حتى بدأت تشهد تراجعا تراكمياّ في مواقفها واجتهاداتها، للحدّ الذي ألزمها بتبني تصورات عليلة ومتصادمة مع المرتكزات الأساسية التي انطلقت منها.
ويمكن الاشارة الى انحرافات الحركة وأخطائها التي سبق ذكرها والتي أخرجتها من ضوابط مرتكزات العمل الفلسطيني الواجبة، حيث لم تعد دلالة الأقصى المبارك ورسالة المعراج ودين التوحيد بادية في اعتبار المرجعية الاسلامية في سياساتها وبعض مواقفها، بل باتت أقرب في سلوكها السياسي لمدرسة ياسر عرفات مع ابقائها على شعاراتها، ولذلك فقد أباحت لنفسها الدخول في عملية سياسية على أرضية الاتفاق مع المحتلّ وبرضاه، وقدّمت تصورا متناقضا يجمع بين رفض اتفاق أوسلو في المقال وقبوله والتعامل معه في واقع الحال -اختيارا وليس اكراها- لمّ ا ناسبها، كما ناقضت المرتكز الأول ورسالته حين أصبحت حركة حماس الاسلامية هي من يغبش صورة الحق والحقائق في عقول ووعي شعوب الأمة العربية والاسلامية، فبعد أن أنجزت دماء الثوار على أرض الشام واليمن والعراق حفظا للهوية الاسلامية وقطعت الطريق على مشروع الولي الفقيه وفضحت مخططاته وأربكت تمدده، جاءت حركة حماس لتعيد لإيران صورتها البهية ممجدة لفروعها التي تقتل المسلمين في البلاد العربية، وهي بذلك لم تكتف بتجاوز المقصد الأول من مقاصد الشريعة الاسلامية )حفظ الدين(، بل قدّمت مصلحة الحركة والحزب والتنظيم على مصلحة الدين.
وكما تبنتّ حركة فتح تصورا قاصرا وعليلا تحت مفهوم مركزية القضية الفلسطينية على حساب مركزية الأمة والدين، فقد تبنتّ حركة حماس تصورا فاسدا متحررا من المرتكزات الثلاثة، وذلك حين ابتدعت بدعة ضالة تحت مسمّى وحدة الساحات وأقامت خطتها الجهادية على أساسها، الأمر الذي اتضح خواره واهتراؤه في معركة الطوفان –دون مراجعة من أحد روادها حتى اللحظة-.
فكيف يجوز أن تتبنى حركة اسلامية مشروعا اسلاميا للتغيير والتحرير واقامة العدل، معلنة انتماءها وامتدادها نحو شعوب الأمة العربية والاسلامية، باعتبار الوحدة الثقافية والهوية الدينية المشتركة، وباعتبار أن مخاطر المشروع الصهيوني واقع على مجموع الأمة ومستهدف لجميع مكوناتها، ثم هي في الآن نفسه تتحالف مع أخطر المشاريع التي تستهدف شعوب الأمة ودولها ودينها وهويتها الثقافية بكل مفرداتها، وذلك انطلاقا من مصلحة قطرية محلية جهوية تتناقض بالكلية مع مصالح كل شعوب الأمة التي تدعي الانحياز لها واعتبار مكانتها في مشروع التحرير؟ وهل هي بسياساتها وتحالفاتها التي لا
تزال قائمة مع العدوّ قد قدّمت مصلحة عموم الأمة ورعت مقصد حفظ الدين، أم اختلّ ميزانها، دون توقّف ولا مراجعة من مطلق كبارها ومشايخها وروابط علمائها المتنفّذة؟
ان القرار الذي اتخذته القيادة السياسية بأغلبية ساحقة –سوى الشيخ خالد مشعل وبعض رفاقه- للعودة والحلف والتعاون مع النّظام السوري الأسدي الطائفي ممثلا ببشار الأسد، لم يكن ليحصل كاجتهاد خاطئ وشاذ الا على أرضية تصوّر فاسد لمشروع التحرير، بات معتمدا ومعتبرا لدى الحركة بسياسييها وقادتها العسكريين الذين أكدوا مرة تلو مرة على هذا الحلف والاعتزاز به واعطوه أوصافا وترويجا لا يعبّّر بالمطلق عن منطلق الضرورة الشرعية وضوابطها
المعروفة، وقد بلغ التيه مداه، حيث أن أكبر من شرعن هذه الخطوة الضالة والمناقضة لأحكام الشريعة والبعيدة عن معنى رسالة المعراج هو رابطة علماء المسلمين في غزة، والتي تتبع لحركة حماس، وكما قام مفتي رام الله الدكتور محمود الهبّاش بتسويغ كل الخطوات السياسية التي قررها أبو مازن، فقد قامت رابطة علماء المسلمين التابعة لحركة حماس في غزة بتسويغ كل خطواتها وتحالفاتها السياسية رغم ابتعادها عن الصواب، كما لم تقم بدورها الشرعي بالتصويب والارشاد والتصحيح للكبائر السياسية التي اجترحتها قياداتها المختلفة، بل بالعكس فإنها كانت مدافعة عنها وقعّدتها، رغم عوارها وسوء مآلاتها.
لاشكّ بأن شعوب الأمة مأمورة بالدفاع عن فلسطين واسترداد الأقصى، كما لا شك بأن الأثمان الباهظة التي دفعها العراقيون والسوريون والمصريون –بما فيهم الرئيس مرسي الشهيد رحمه الله- كانت نتيجة ارتباطهم بالمسألة الفلسطينية والموقف تجاهها، ورغم كل الظروف الموضوعية المحيطة يبقى تحريض المؤمنين واجب، ومن ادعى ويدعي أن الشعوب خذلت فلسطين، فبماذا يمكن أن يصف العودة لنظام بشار، وحلف قادة المقاومة مع أذرع إيران وقاتلي الشعوب التي يستنهضها ويتهما بالخذلان؟
ان القضية الفلسطينية هي درة قضايا الأمة، وان المسجد الأقصى كان ولا يزال وسيبقى ملهما لشعوب الأمة ومحرضا لها على القيام بفريضة الجهاد، وقد بذلت تضحيات عظيمة لا يستهان بها لأجل استرداد أقصى المسلمين، وهي تضحيات ليس من العدل قصرها على الفلسطينيين وليس من الانصاف تحديد زمانها في حقبة حماس ولا غيرها، فالتاريخ وتجاربه تشهد، ورغم كل تلك التضحيات الا أن القضية الفلسطينية تتراجع للوراء فيما العدو يتمدد للأمام، فما هي الأسباب وكيف السبيل لإنقاذها؟
السبيل المفضي لإنهاء الاحتلال الجاثم على الأرض المباركة واقامة الحق والعدل المنشود فيها
من نافلة القول إن المسلم ينطلق في تحديه لأشكال الباطل من ايمانه بالله، ذلك الايمان الذي تجتمع فيه ثلاثة عناصر هي عالم الغيب وعالم الشهادة والوعي المرتبط بهما، وكما أن الايمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ومحركه هو الايمان بعالم الغيب، فان كمال الايمان يحدده مستوى الوعي بعالم الشهادة وتغيراته وتطوراته الدائمة، ويشهد على ذلك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين).
ان حالتي المدّ والجزر المرتبطتين بالمسألة الفلسطينية هما انعكاس لواقع الأمة عموما، ففلسطين ليست مبتورة عن امتدادها الجغرافي والسياسي الطبيعي، كما أن الأخوة العقائدية تجعلها في موقف واحد وواجب تجاه التحديات القائمة والمحيطة بفلسطين.
وإذا كنّا نؤمن بأن الله سبحانه وتعالى مدبر هذا الكون وشؤونه ولا يعجزه شيء، فان الله قد بينّ لنا أن سننه سبحانه وتعالى لا مبدّ ل لها، وتخضع لها كل التجارب البشرية بما فيها تجارب الأنبياء والرسل والمصلحين، الأمر الذي يوجب علينا الاعداد بشكله الواجب والصحيح ليتحقق وعد الله بالنصر الأكيد.
الاعداد الواجب للقيام بفريضة جهاد المحتليّن
يقول سبحانه وتعالى ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾ [الأنفال: 60].
إن الاعداد الواجب لتحقيق فريضة جهاد المحتلّين والغاصبين يختلف في شكله ونوعه وحجمه من قضيّة الى أخرى ومن زمان الى آخر، وهو اعداد لا يقتصر على فكرة التسليح والتكوين القتالي فقط، كما لا ينحصر في بقعة بعينها في فلسطين فحسب، والضابط لذلك عدة أمور، أولهما طبيعة القضية من حيث ماهيّّتها وكل ما يميّز مشاريع الخصوم المعتدين، وثانيهما تطورات الواقع ومقومات التغيير ووسائل القوة والأدوات، وثالثهما استحضار وتفعيل مفهوم وحدة الأمة المعوّل عليها –بعد الله- في مواجهة كل المشاريع الكبرى التي تستهدف الأمة ومصائر شعوبها وهويتها الثقافية.
وإذا نظرنا للمسألة الفلسطينية من حيث مرتكزاتها الثلاثة) الأقصى ورسالة المعراج- بركة الأرض للعالمين- طبيعة المشروعين الصليبي والصهيوني
المحتلين لها ( فإننا نلحظ بوضوح المميزات الثلاث التي اجتمعت لتميّّز قضية فلسطين عن سواها، فهي من جهة حرب عقائدية تستهدف أقصى الموحدين، وهي من جهة ثانية أرض تتعدى بركتها للعالمين وفي نفس الوقت يغيب الأمن والاستقرار بسببها عن العالمين، ومن جهة ثالثة فان المشروع القائم عليها لم يأت حقيقة ليستهدفها فحسب، ولكنه اتخذ منها قاعدة عسكرية لصالح المشروع الغربي الصهيوني مستهدفا دول الأمة اللصيقة بها والمحيطة والبعيدة، ومستهدفا دينها سرّ وحدتها الثقافية، ولذلك فقد شكلّ هذا التصوّر أرضية اللقاء بين المشروع الغربي والمشروع الايراني –رغم حالة التنافس وجوانب الاحتراب القائمة بينهما-.
وممّا يشير لتلك الحقائق ويعزّزها تصريحات العدو وشخصياته العامة تجاه المسجد الأقصى المبارك، سواء من الشخصيات الاسرائيلية أو الشخصيات
المسيحية الانجيلية المهووسة بمعركة هرمجدون واعتلاء أحد أبناء داوود عرش القدس، كما تشير وقائع الحروب التي قامت بها اسرائيل ومخططاتها الى تدمير عسكري أو ثقافي أو سياسي أو اقتصادي أو أمني أو عرقي، مسّ بشكل مباشر وعميق مصر والعراق وسورية ولبنان وتركيا والسودان والخليج وتونس والمغرب والجزائر ومالي وغيرها من الدول العربية والاسلامية.
ان وعي ماهيّّة وطبيعة مشاريع الخصوم وتحالفاتها وأهدافها شرط في صياغة وبلورة شكل الاعداد الواجب، كما أن مواكبة وسائل القوة في كل عصر شرط في تحقيق الترهيب المقصود والمقترن بالإعداد، وإذا كانت الصلاة عماد الدين قابلة لتغيير شكلها بين السلم والحرب كما أشار القرآن الكريم –تغيير توقيف ي-، فان الاعداد الواجب في فريضة قتال المحتلين واجب بتغيير أشكاله –بشكل توفيقي- وفق المحددات التي سبق ذكرها وهي مرتبطة بعالم الشهادة.
كما أن وعي جوهرة وقيمة وفاعلية الأمة وشعوبها تجاه المعارك الكبرى وفي مواجهة الخصوم الذين يستهدفونها جميعها، مسألة رئيسية تقرّر شكل وحجم المطلوب للإعداد المعتبر شرعا وعقلا، و لقد أخفقت جميع الحروب الفلسطينية الشاملة بتحقيق أهدافها، وذلك بسبب رئيسي متعلق بخلل وقصور في معنى وشكل الاعداد الواجب، حيث أخطأ في النظر، وضعف في التدبير كل من تصور أن الاعداد الواجب في المسألة الفلسطينية متحقق في حدودها الجغرافية ومحصور بالسواعد الفلسطينية، وهي ثغرة كبرى برزت في عموم المعارك الفلسطينية وأحد أسباب اخفاقها الذاتية –بخلاف الأسباب الموضوعية-!
ان أي اعداد لا يعكس دلالات مميزات القضية الفلسطينية، ولا ينطلق من مرتكزاتها الثلاثة يعتبر اعداداً قاصراً، فكما أن الكيان الاسرائيلي يستهدف الأرض والانسان مدعوما بشكل كامل من المنظومة العالمية الغربية، وكما أن الكيان الاسرائيلي يستهدف -انطلاقا من أرض فلسطين- كامل المناطق والدول العربية والاسلامية، فان الاعداد بمعناه ودلالته الشرعية ووصفه المطلوب الذي يرهب العدو ويردعه يجب ان يكون اعدادا على مستوى الأمة جميعها، وعلى وجه الخصوص اللصيقة منها بفلسطين، حينها يمكن ان نسمي هذا الشكل من الاعداد بالإعداد الشرعي الصحيح، والعقلي الصريح، ليكون مناسبا لإطلاق معركة شاملة.
وحتى يتحقق هذا الاعداد بصورته المشروعة والمعقولة لفتح معركة كبرى، فان فريضة الجهاد تبقى قائمة وواجب عيني في فلسطين لمنع العدو من التمدد، وذلك بأشكال مختلفة في أنواعها وأحجامها، ومتعددة في مناحيها غير محصورة في القتال –رغم مشروعيته-.
ان أي اعداد فلسطيني محصور بأرضها وشعبها هو غير معتبر عقلا ولا شرعا إذا أطلق معركة شاملة في وجه مشروع اسرائيلي غربي شامل ومتكامل، فان فعل فانه يكون مفتئتا على الأمة في قرار الحرب، وسببا في هدر واستهلاك جزء مهم من رصيد الخير فيها، وهو دخول في معركة فاشلة محسومة الاخفاق في تحقيق اهدافها منذ لحظة انطلاقها، وذلك بسبب قصور في شكل الاعداد المطلوب والمناسب لعين المسألة وماهية مشروع العدو أهدافه.
ولقد جاءت عملية السابع من أكتوبر ومعركة طوفان الأقصى لتشير بوضوح الى خلل في التصور والاعداد، وقصور في الادراك، وغياب للمعقولية، فكان قرار الحرب الشاملة افتئات على الأمة وهدر للرصيد وسحق للمكون الجهادي في فلسطين، الأمر الذي انتهى الى هلاك غزة وسحق وتفكيك ترسانتها واضعاف أهلها لعقود طويلة.
ان الاعداد القاصر لمعركة شاملة مع المحتلّ الاسرائيلي والذي اقتصر على مساحة غزة، كان بمثابة الثقب الأسود الذي ابتلعها وهو ماض في ابتلاع الضفة وما جاورها، وما ذلك الا نتيجة لتصور قاصر عند قيادات الجهاد والمقاومة حول مفهوم الاعداد وفق السنن الكونية المعتبرة لتوازنات القوى وماهية مشاريع الخصوم ووسائل القوة المتاحة ،ونتيجة لتصور خاطئ –لدى القيادات السياسية والعسكرية النافذة- حين تجاوزت واجب مدّ الجسور نحو شعوب الأمة لإدخالها في خطّة الاعداد، واستبدلت ركيزة الأمة ودورها الواجب والأصيل في تحرير فلسطين وأقصاها باعتقاد فاسد! وهو أن الاعداد الذي سيحقق النصر هو من خلال الارتباط بحلف مع أشرس أعداء الأمة، وذلك بعد أن برهن على عدائه فقتل المجاهدين في كل محيط فلسطين وهجر من بقي منهم حيا، وأحبط مشاريعهم في الاعداد الواجب والذي بدى واضحا في العراق ومصر والشام في حقبة الثورات العربية الأخيرة، عداك عن وقائعه ودوره الواضح خلال عقود سبقتها، ومنها حربه على العراق ثم اسقاط بغداد بالتعاون مع أمريكا التي احتلت العراق وفتتّه!
ان حالة الهزائم والتراجع والتردي الحاصلة في كامل فلسطين ابتداء من غزة مرورا بالقدس وصولا للضفة وبلدات الخط الأخضر هي فتنة في الدين عند ضعفاء الايمان، والايمان المقصود هنا ليس محصورا على ضعف في القلب بل وكذلك ضعف في العقل والوعي، ولذلك وجب التبيين للناس أن ما نشاهده ونعيشه من هزائم وقتل وتشريد وتجويع على أيدي مجرمي العصر من الصهاينة –سواء أكانوا من الاسرائيليين أم الأمريكان وغيرهم من الأنظمة العربية المتواطئة في الاجرام- هو نتيجة طبيعية وفق سنن الله بسبب غياب الاعداد الصحيح الذي يشكلّ منطلق الجهاد وقاعدته التي تسوّغه، وان كلّ تغييب للتفسير والفهم الصحيح سيفتن الناس عن دينهم ويدفع بعضهم للشكّ وطرح السؤال التالي، هل تخلى الله عنا؟ ولماذا نقتل ونستشهد على الدوام ولا يتحقق النصر والوعد رغم كثرة تضحياتنا وروعة مجاهدينا وصبر آبائنا وامهاتنا؟ علما بأن الجواب مبثوث في كتاب الله وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم.
الخاتمة
ان فلسطين لم ولن تتحرر من داخلها كما في كل التاريخ، لاسيّّما ان مشاريع الصليبيين واليهود الصهاينة التي تحتلها لا تتوقف عند استهدافها بل تستهدف عموم المنطقة هويتها وشعوبها ودولها، ولذلك فان الجهاد الشامل الذي سيقتلع الكيان الصهيوني ويأخذ صورة الحرب الشاملة لن يكون الا على مستوى شعوب المنطقة من العرب والمسلمين، الأمر الذي يتطلب وعي ومعنى الاعداد على مستوى شعوب المنطقة وادراك خطط الخصوم ووسائل القوة والأدوات التي لديهم لتحقيق ما يردعها ويرهبها، أما نحن في فلسطين فسيبقى الجهاد فرضاً عينياً علينا لا يسقط حتى يزول الاحتلال، وتتراجع المشاريع التي تستهدف عرقلة إقامة وتمكين الدين، ولكن جهادنا يجب أن ينضبط بدورين ، أولهما مقارعة المحتل وعرقلة توسعه ضمن الممكن والمستطاع والمشروع ،بحيث لا يهنأ بالأمن والاستقرار، وثانيهما تحريض المؤمنين على الجهاد ومدّ الجسور معهم لاستكمال الاعداد على مستوى يليق ويناسب المشروع الذي نواجهه، ونعدّ له المعركة الواجبة على مستوى شعوب المنطقة.
وحتى تخرج فلسطين من التيه الذي عبرت وتعبر عنها تجاربها الخائبة في تياراتها القائمة جميعها، كان لابدّ ان ينطلق مشروع التغيير والتحرير من مرتكزات سليمة وأن يلتزم في شكل اعداده وصيغة خطابه وطبيعة تحالفاته ومواقفه السياسية بما ينسجم ويعبّّر عن تلك المرتكزات لا أن يناقضها.
ان فلسطين كما الكون كلّه خاضع لله ولا يخرج عن تدبيره، وان أولى وأكبر أمارات الايمان بأن النصر من عند الله هو بالتزام أمره والانحياز لعباده واستكمال الايمان به عبر رفع مستوى الوعي اللازم وفق سنن الله في التغيير، ولنا في قصة فتية أصحاب الكهف خير دلالة، حيث لم يمنع ايمانهم بالله
ومفاصلتهم للباطل واعتزالهم الكفر بكل أشكاله وايواؤهم للكهف من إمكانية هلاكهم وفنائهم بالقتل، أو رجوعهم للكفر من شدة التعذيب والتجويع والتشريد وبالتالي انتفاء فلاحهم، ان هم قصّروا في واجب الأخذ بالأسباب، أو تجاوزوا عن تدبير لازم في عالم الشهادة وفق سنن الله، يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا﴾ [الكهف: 20].
الهوامش
(1) المباركفوري/ مرعاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح (2/468).
(2) العيني/ عمدة القاري (15/262)؛ ابن حجر/ فتح الباري (6/408).
(3) أخرجه: مسلم/ صحيحه (525) (1/374).
(4) ابن عبد البر/ الاستذكار (2/ 452)؛ التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (17/ 47).
(5) الطبري/ تفسيره (2/ 622).
(6) أخرجه: البخاري/ صحيحه (1189) (4/491)؛ مسلم/ صحيحه (1397)؛ (2/1014).
(7) شرح سنن ابن ماجه للسيوطي وغيره (ص: 102).
(8) فتح الباري لابن حجر (3/ 64).
(9) مجموع الفتاوى (27/ 6).
(10) صحيح، أبو داود/ السنن (457) (1/125)، صححه البوصيري وحسنه النووي.
(11) إسناده ضعيف، أحمد/ المسند (16632) (27/ 190).
(12) صحيح، أخرجه: النسائي (2/34) (693)؛ وابن ماجه (1/452) (1408)؛ وأحمد (2/176) (6644)؛ وابن حبان (14/330) (6420)؛ والحاكم (1/84) (83)؛ والبيهقي في شعب الإيمان (3/494) (4175).
(13) الطبري/ تفسيره (7/312).
(14) العز بن عبد السلام/ ترغيب أهل بسكنى الشام (ص24).
(15) العفاني/ واقدساه (ص: 86).
(16) أخرجه: ابن كثير/ جامع المسانيد والسنن (6291) (5/175)، صححه الألباني.
(17) أخرجه: الحاكم/ المستدرك (8554) (4/555).
(18) سورة ق، الآية (41).
(19) أخرجه: أحمد/ مسنده (21733) (36/62)، صححه الألباني.