أقلام حرة

فيصل الأنصاري يكتب: شراب الصالحين

تخيل، عزيزي القارئ أنك تستيقظ في أحد الصباحات حيث تشرق الشمس كأنها تعزف سيمفونية بين السحب في السماء وأنت تتطلع إلى أن تبدأ يومك بنشاط وحيوية وأن تظل متيقظًا طيلة اليوم دون أن يتسلل إليك التعب، تنهض من فراشك كمن اكتشف كنزًا خفيًا وتشق طريقك من سريرك إلى مطبخك متلهفًا لرائحة القهوة، لكنك تكتشف ويا للدهشة أن تلك الحبيبات السحرية بنية اللون قد نفدت

بلهفةٍ تسأل أهل بيتك فتأتيك الردود مشوبة بالدهشة أن القهوة قد غابت عن رفوف منزلك منذ زمن وعليك التوجه إلى المقهى لشرائها، تخرج مسرعًا وكأن خطواتك تسبق ظلك من شدة شوقك لاحتساء تلك القطرات البنية تصل إلى المكان المنشود وأنت تسابق الزمن لتحظى بجرعة السعادة اليومية ولكن صاحب المقهى يرد عليك بنبرة يملؤها الأسى يمزق بها أحلامك قائلاً إن بيع القهوة قد أصبح من المحرمات وإنها الآن تعد من المحظورات ومن يشربها سيعاقب كما يعاقب شارب الخمر.

تدور الدنيا من حولك، وتغرق في بحر من التساؤلات

 كيف يبدأ يومٌ بلا قهوة؟!

هكذا كان حال سكان القاهرة في عام 968هـ/1572م حينما أصدر السلطان سليمان القانوني فرمانًا سلطانيًا يُحرِّم فيه شرب القهوة معتبرًا إياها كالخمر في حكمها وأمر بإغلاق الحانات والمقاهي على حد سواء، في الحقيقة لم يكن السلطان سليمان القانوني أول من حرّم شرب القهوة بل إن المسألة بدأت قبل ذلك

في الواقع يعود تاريخ تحريم القهوة إلى عصور سابقة قبل أن يصل السلطان سليمان القانوني إلى الحكم كان أول حظر موثق لهذه الحبيبات البنية في أوائل القرن السادس عشر عندما أصدر رجال الدين في مكة المكرمة عام 1511م فتوى تحرّم فيه شرب القهوة التي كانت تعتبر آنذاك شرابًا غامضًا يوقظ العقول فيؤجج النفوس ويزيد من نشوتها كما الخمرة.

كما هو مذكور في المصادر العثمانية انتشرت القهوة في ربوع الدولة العثمانية من مصدرها اليمني من منطقة قريبة من مدينة تعز وتحديدًا من ميناء مخا المشهور الذي اشتق من اسمه أنواع القهوة مثل الموكا والكابتشينو ولكن القهوة نفسها ليست منتجًا يمني الأصل فقد كانت تصدر إلى العالم عبر اليمن لكنها في الحقيقة منتج خرج من غابات إثيوبيا.

تروي الأسطورة أن راعيًا إثيوبيًا لاحظ نشاط قطيعه عندما تناولت حبات من نبتة معينة فقرر أن يجربها بنفسه وبمجرد تناولها شعر بزيادة في النشاط والتركيز قام الراعي بنقل اكتشافه إلى معلمه الصوفي الذي قام بنقع هذه الحبات في الماء الحار وشربها وهكذا أصبح هذا المشروب المنقوع من نبتة البن أو القهوة شراب أهل تلك القرية خاصة في المناسبات الدينية ليزيد من نشاطهم في ليالي رمضان الطويلة

لاحقًا، انتشرت القهوة إلى الحجاز وتحديدًا في مكة المكرمة في تلك الفترة كان من المعتاد رؤية الناس والحجيج في أزقة مكة يحتسون ذلك الشراب المسمى اليوم بالقهوة بجوار الكعبة ولكن هذا الأمر لم يرق لخيري بك مسؤول الحسبة في الدولة المملوكية الذي أصدر مع مجموعة من العلماء والأطباء فتوى تقتضي بتحريم شرب القهوة لما فيها من مفاسد حسب اعتقادهم.

قام خيري بك برفع محضره إلى سلطان الدولة المملوكية قانصوه الغوري يتضمن أسباب تحريم القهوة مشيرًا إلى أنها تؤدي إلى السكر وتضر بالجسد والعقل كما أشار أطبائه، أصبحت مسألة القهوة محل جدال بين علماء الدولة في القاهرة بين من يحللها ومن يحرمها.

ولم يتوقف الجدل حول القهوة عند المسلمين فحسب فعندما وصلت القهوة إلى أوروبا عبر التجار المسلمين أصدر البابا مرسومًا يحرم فيه شرب القهوة معتبرًا إياها “شراب المسلمين وشراب الشيطان” ورغم ذلك انتشر “شراب الشيطان” كما وصفه البابا في أنحاء أوروبا خاصة في لندن هناك أصبحت المقاهي مراكز للأحزاب السياسية لنشر أفكارها ولولا هذه المقاهي لما كانت السياسة الإنجليزية تتميز برونقها الحالي.

كما أن المقاهي في بريطانيا كانت مراكزًا لبزوغ الأفكار العلمية التي غيرت العالم فعلى سبيل المثال كانت المقاهي تُعرف بـ”جامعات البنس الواحد” حيث يمكنك بدفع بنس واحد، ثمن كوب القهوة أن تجلس وتستمع إلى إسحاق نيوتن وهو يشرح قانون الجاذبية الذي اكتشفه حديثًا.

إن سبب تحريم البابا للقهوة لم يكن للأسباب ذاتها التي حرمها من أجلها المسلمون. بل كان يخشى من تقليد الغرب المسيحي للشرق المسلم عن طريق القهوة، لم ينظر البابا إلى القهوة كحبات بُنٍّ منقوعة في ماء ساخن بل نظر إليها بعين الخائف من تحول الغرب إلى الشرق بسبب هذا المشروب.

هذا التحريم وُلِد من رحم الخوف، الخوف من تأثير القهوة الساحر على العقل وسلوك الناس فضلاً عن تلك التجمعات التي أصبحت المقاهي تحتضنها حيث تحولت إلى منتديات يتداول فيها الناس الأفكار بحرية مما اعتُبر تهديدًا للسلطة المركزية ورغم أن هذا الحظر قد زال بعد فترة قصيرة إلا أن القهوة استمرت في مواجهة موجات من التحريم والتشديد وكأنها سيلٌ جارف لا يتوقف عبر مختلف بقاع العالم الإسلامي خاصةً والعالم عموماً على مر السنين.

ومن هنا يتبين لنا أن قضية تحريم القهوة لم تكن مجرد قرار عابر يرتبط بشخص أو عصر بعينه بل كانت انعكاسًا لصراع مستمر بين الخوف والتغيير والتدين، بين الثبات والتحول، وفي هذه الرحلة الطويلة كانت القهوة تُمثل رمزًا لروح التمرد لدى الشعوب، وصورةً تعكس كيف يمكن للدولة أن تحرّمَ ما يدمنه شعبها.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى