هل كانت المرأة الأندلسية هامشًا في آخر الكتاب؟ أم أن التاريخ هو من قرر أن يجعلها كذلك؟
قبل أيام، مرت ذكرى سقوط قرطبة، حاضرة الخلافة الإسلامية الأموية في الأندلس، وذلك بعد حصار شديد أقامه فرناندو الثالث ويسمى (آيل سانتـو) ملك قشتالة وليون.
ومن أعجب مـا في هذا الحصار أنه لم تصل إلى قرطبة أي إمدادات من الممالك الإسلامية المعاصرة وكأن صاحب الجوهرة قد استغنى عنها فألقاها على قارعة الطريق ينهش منها السارقون ويقطع منها القُطّاع بينما صاحب الجوهرة ساكن في مكانه لا يتحرك.
وكما هي عادتي في كل حادثة أو ذكرى أرجع إلى الكتب والمقالات لأزيد من مخزوني المعرفي فإذا بي أتعرف على ولاّدة بنت الخليفة محمد المستكفي بالله الخليفة الحادي عشر للأندلس تلك الولاّدة صاحبة الشِعرِ والجمال والأدب كان لها مجلس مشهود في قرطبة يفد عليها الأعيان والشعراء يتحدثون فيه عن شؤون الشعر والأدب بعد زوال الخلافة الأموية في الأندلس.
وفي أروقة قرطبة المضيئة وبين جدرانها المزينة بنقوش الذهب والفسيفساء لم يكن الصوت رجوليًا فقط كما يصوره التاريخ التقليدي بل كانت هناك نساءٌ يكتبنَ الشِعر ويفسرن الحديث ويناظرن في المسائل ولكن كتب الرجال كثيرًا ما أسدلت الستار عليهن.
فهل كانت المرأة الأندلسية هامشًا في آخر الكتاب؟ أم أن التاريخ هو من قرر أن يجعلها كذلك؟
لقد أشار المستشرقون وعلى رأسهم هنري بيرس الذي أفرد فصلًا كاملًا بعنوان “المرأة والحب” في كتابه (الشعر الأندلسي في عصر الطوائف) نبوغَ بعض الشاعرات في بلاط الأندلس نساءً لا يقلُ وهجهن عن وهج أعلام الرجال.
أولاهن ولاّدة بنت المستكفي الأميرة التي رفضت أن تكون تابعًا. لم تهرب كما فعل والدها بل بعدما هرب الخليفة المستكفي وقُتل على يد جنوده ومعاونيه أُسدل الستار عن حقبة الدولة الأموية في الأندلس
بعد ذلك افتتحت ولاّدة صالونها الأدبي في قرطبة حيث كان الشعراء والمفكرون يناقشون فيه مواضيع اجتماعية وسياسية واقتصادية وكانت تنظم الشعر وتتحدى به الرجال ومن شعرها في معاتبة ابن زيدون:
لو كنتَ تنصفُ في الهوى ما بيننا
لم تهوَ جاريتي ولم تتخيّرِ
وتركتَ غصنًا مثمرًا بجماله
وجنحتَ للغصنِ الذي لم يثمرِ
ولقد علمتَ بأنني بدرُ السماء
لكن دُهيتَ لشقوتي بالمشتري
ولم تكن ولادة الوحيدة في هذا المضمار فقد ظهرت مثلًا حسانة التميمية وهي شاعرة حرة من ألبيرة في غرناطة. لم تكن من الجواري كما هو حال كثيرات منهن في ذلك الوقت ممن يجدن الشعر والأدب بل كانت من الحرائر وورثت الشعر عن أبيها أبي الحسن بن أبي المخشي. وعاشت في أواخر القرن الثاني الهجري ومن شعرها:
إنّي إليكَ أبا العاصي موجّعة
أبا الحسين سقته الواكفُ الديمُ
قد كنتُ أرتعُ في نعماه عاكفة
فاليومَ آوي إلى نعماك يا حكمُ
أنت الإمامُ الذي انقاد الأنام له
وملّكتهُ مقاليـدَ النهـى الأمـمُ
لا شيء أخشى إذا ما كنت لي كنفًا
آوي إليهِ ولا يعروني العدمُ
لا زلت بالعزّة القعساءِ مرتديًا
حتى تذلّ إليك العربُ والعجمُ
أما عائشة القرطبية فقد كانت موسوعة شعرية متحركة تحفظ المعلقات وتفك رموزها وتتناولها نقدًا وتفسيرًا حتى لقبت بـــ“العلوية” وقد وصفها ابن حَيّان في كتابه المقتـبس بقوله:
“لم يكن في زمانها من حرائر الأندلس من يعدلها علمًا وفهمًا وأدبًا وشعرًا وفصاحة، وكانت تمدح ملوك الأندلس وتخاطبهم بما يعرض لها من حاجة. وكانت حسنة الخط، تكتب المصاحف.”
ويُذكر أنها ماتت وهي بكر لم تتزوج قط.
لم تكن الأندلس حضارة فحسب بل كانت مدرسة، والنساء لم يكنّ أقل حضورًا فيها من الرجال.
فكما سبق أن ذكرنا عائشة القرطبية، فهي لم تكن مجرد شاعرة بل كانت أيضًا عالمة وكاتبة وخطاطة.
وقد لقّبها المؤرخون بـــ”عقيلة نساء الأندلس” لما اجتمع فيها من جمال وعقل وفصاحة.
وفي مدينة إشبيلية عُرفت مريم بنت أبي يعقوب التي كانت تكتب شعرًا بأنفاس أنثوية عالية وبرزت في الأدب واللغة.
أما حمدة أو حمدونة بنت زياد المؤدب – (الوادى أشية) فكانت محدثة يروي عنها الرجال ومنهم ابن الخطيب وقد وصل صيتها وشعرها إلى مشارق العالم الإسلامية دون أن تزوره فقط كان الناس يتناقلون صيتها وشعرها في المشرق والمغرب
وفي مجال الإدارة برزت رقية بنت الوزير تمام التي كانت كاتبة الأمير المنذر محمد، وفي بلاط الخليفة عبد الرحمن الناصر أيضاً ظهرت نساء مثل مُزن وكتمان وزمرد وكنّ كاتبات للخليفة واستمررن في مناصبهن حتى بعد وفاته خلال خلافة ابنه الحكم المستنصر.
أقول إن المرأة في الإسلام لم تُوسم قط بالجهل أو التخلف أو نقصان العقل عن الرجل وإن كانت ملزمة بالتستر في الملبس فإنها غير ملزمة بتستر العقل بل على العكس أوجب عليها الإسلام طلب العلم والغوص في بحور الأدب والمعرفة لأنها المعلمة الأولى في بيتها ومجتمعها.
هذا ما أدركته نساء الأندلس وفهمنه وتقدمن فيه على عكس كثير من نساء الأرض في ذلك الزمن.
فبينما كان الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله يمنع صانعي الأحذية من صنعها للنساء كي يلزمن البيوت وبينما كان الخليفة العباسي يسخر من تولي شجرة الدر الحكم في مصر بقوله: “إذا نفدت الرجال، قولوا نُسيّر لكم رجلًا!”
في ظل هذا التراجع الفكري في المشرق كانت الأندلس زاهرةً بالعلم يتقدّم فيها الرجال والنساء على السواء.