على الحدود الممتدة بين إيران وأفغانستان، حيث تنتهي الطرق وتبدأ الحيرة، تهبط الحافلات واحدة تلو الأخرى في معبر إسلام قلعة – دوغارون، محمّلة بأفغان طُردوا من إيران قسرًا، بعضهم لم تطأ قدماه أرض أفغانستان من قبل، وآخرون لا يملكون سوى الذهول والصدمة، وقد جُرّدوا من المأوى والهوية والمكان.
في مشهد يشبه غبار العواصف، تتعثر فتاة مراهقة أثناء نزولها من الحافلة، تتلفت حولها في ذهول، ثم تصرخ وتضرب وجهها وهي تصيح “يا إلهي، أي جحيم هذا الذي أُرسلت إليه؟”. إنها فتاة وُلدت وترعرعت في إيران، لا تعرف من أفغانستان سوى اسمها، كحال آلاف غيرها ممن عاشوا حياتهم في أرض لم تعد ترغب بهم.
في إيران، ازدادت الشكوك تجاه اللاجئين الأفغان مع تصاعد التوترات الإقليمية، وخصوصًا بعد الحرب الأخيرة مع إسرائيل. هناك، بات يُنظر إليهم كجواسيس محتملين، وأصبحت أوامر الترحيل أكثر قسوة ووتيرة التهجير أكثر تسارعًا. في بعض الأيام، تجاوز عدد المرحَّلين من إيران نحو 50 ألفًا، بينما تُحذر منظمات الإغاثة من احتمال وصول العدد الإجمالي إلى أربعة ملايين قبل نهاية العام.
تحت شمس لاهبة تتجاوز فيها الحرارة 45 درجة مئوية، تحاول خيام مفوضية الأمم المتحدة والمنظمات المحلية أن تحتضن ما أمكن من الوافدين، لكنها بُنيت لاستيعاب بضعة آلاف، فيما الواقع يفرض عشرات الآلاف من الأرواح التائهة التي وجدت نفسها في العراء بلا طعام ولا ماء ولا وجهة.
في المخيمات، تتناثر الحكايات المؤلمة بلا انقطاع. رجل مسن اعتُقل في نزهة دون إنذار، وجد نفسه فجأة في أرض لا يعرفها، بلا وسيلة اتصال، عاجز حتى عن تذكّر رقم زوجته. آخرون يؤكدون أنهم طُردوا دون أن تُدفع أجورهم أو يُسمح لهم بجمع متعلقاتهم، فكان المصير أن يصلوا إلى وطنهم المفترض بلا نقود، بلا أقارب، وبلا مستقبل واضح.
بين اللاجئين، أطفال يحملون دُمى ويخوضون أول لحظاتهم في أفغانستان. فتاة صغيرة تتشبث بلعبتها وتقول: “دميتي إيرانية، وأنا الآن مهاجرة، لذا فهي مهاجرة أيضًا”. في مكان آخر، يرفع زوجان بطانية ليحجبا أشعة الشمس عن أطفالهما الأربعة، الذين يتصببون عرقًا، تحدّق عيونهم في المجهول، كأنهم وُلدوا في خضم نكبة.
اتهم العديد من هؤلاء بأنهم جواسيس، لا من السلطات الإيرانية فقط، بل حتى من الشارع. أحد المرحَّلين يرد بمرارة: “قضينا أعمارنا نحفر الآبار ونبني البيوت، أما الجاسوسية فلم تكن يومًا منّا ولا فينا”. ويضيف آخر: “الطرد بحد ذاته شيء، لكن الضرب والإهانة والشتائم هي ما يحطم روحك”.
في ظل غياب شبه كامل للدعم الحكومي الأفغاني، يحاول السكان المحليون تقديم العون، يجلبون الماء والطعام، ينقلون الناس إلى المدن، لكن أفغانستان نفسها تعاني من أزمات لا تنتهي. بلد غارق في الجوع والفقر والجفاف، والآن يرزح تحت موجة ترحيل لم يسبق لها مثيل.
يقول المصور الأفغاني محمد بالابولوكي الذي وثّق هذه المشاهد على الحدود: “شهدت الزلازل والمآسي، لكن لا شيء يشبه هذا، آلاف الناس تائهون في أرض لا يعرفونها ولا يريدون أن يكونوا فيها. إنه الوجع ذاته، لكنه بلا صوت”.
إنها ملامح من كارثة إنسانية تتكشف بصمت عند تخوم الجغرافيا، حيث ينقطع الوطن ولا يبقى سوى الإنسان في مواجهة الغبار والذهول والمجهول.