الأمة الثقافية

” فَـقْـدٌ “.. قصة: الدكتور ياسر عبد التواب

وهكذا وجدتُ نفسي أسير دونه…

فلأجرّب لا بأس… التخفف وخوض تجربة جديدة يثير الفضول

**

الحرارة مختلفة… الشعور بها يزداد… والشمس تضرب الأرض فتنعكس عليّ… تكاد تخرقني من أسفل مني، وتمتد إلى رأسي…

ليت شعري لم تك تلك عادتها، ولا كان هذا ضعفي أمامها

**

قدرتي على الحركة والإسراع تباينت

صرتُ أبطأ

والبطء يمنحك حكمة التأمل

سلواي في رحلتي أن أطالع الناس… ليتني مثلهم

ما تلك الحيوية… أَكلُّ هذا بسببه؟

هذا يحمل حملاً. وذاك يجري جريًا… وتلك تتهادى… وطفل يتعثر

ما أهنأهم به… وقد فقدته!

**

يقف بائسًا ذاهلًا! أين هو؟ بل أين هم؟

لقد كانوا معه من ساعة… ثم ذهب قليلا… فذهبوا… وتداعى البيت كأن لم يكن، وبقي الغبار ثائرًا كأن بيده شيئًا!

يربت عليه جاره في أسًى!

يريد أن يبكي وأن يصرخ؛ فأين ذهب الدمع؟ ولم تحتجب أحبال الصوت؟

الموت إذ ذاك أمنية… فيا ليتني كنتُ مكانهم… أو حتى معهم

تحتويني ذراع جاري كأني طفل… وأتذكرهم… كم احتويتهم وسعدت بهم!

ويصرخ جار آخر في ظفر : استخرجنا منهم اثنين أحياء!

وأنظر إلى الخلف هائمًا… ترى من راح ومن بقي؟

**

يثير استغرابي هذا التأنق مع ذلك الفقد… وأتوجس أن يلتقيني عزيز على حالتي تلك

ونظرات الناس تعرّيني في فضول:

ما لكم بي؟ دعكم مني وانشغلوا بأنفسكم!

وهذا الطفل يقترب ويحدّق… ويعلي ويصوّب، أهش له فيكمش لي شفتيه ويحرّك ذراعيه للخلف راكعًا؛ في حركة طفولية تدفعني للابتسام!

**

زملائي الذين يشبهونني يتراصون في الطريق كأنهم يحتفون بمجيئي أخيرًا: هل طال انتظاركم يا رفاق؟ شكرا على الترحاب! يا لجلدهم؛ لا أصبر على ذلك ساعة واحدة وهم على هيئتهم تلك طيلة أعمارهم

**

يعبث في الصندوق… ترى هل تركوا شيئا؟

ويواجهه قط متحفز..إليك عني..اغرب، هيا

ينكمش… هو جائع أيضًا لكني أولى منه!

في النهاية يهرب… وينظر إليه فأر… الساحة تخلو لي! على الأقل أنا سيّد الآن! يشعر بنشوة الانتصار… على القط !

خلا لك فلتبحث، ولتنتقِ ما تشاء، أهل هذا الحي بخلاء !

**

يا الله! كيف يفتضح الخلائق حين يواجهون أعمالهم يوم الآزفة

يوم ينكشفون وتنكشف أعمالهم!

وجميعهم حفاة عراة…

لا ينظر بعضهم لبعض… الأمر أشد

وينادى أناس وزنت أعمالهم… أن قد سعد فلان سعادة أبدية

أو شقي فلان شقاءً سرمديًا

**

أتلك حجارة حقا أم شفرات؟

تراني أسير كالتقي يتجنب وادي الشوك ألا تخدشه إحداها!

ومن قلب الحجارة قد تتفجر أنها! فهل تفعلها اليوم..فيهون الأمر علي وأسبح؟!

لا تزال قاسية، ولا أزال أتقيها، أصغرها شأنا تجرب قوتها في… وأنا ضعيف

أي

آه

**

الأطفال يرشقونهم بالحجارة… وهل لديهم غيرها؟!

والأعداء يتهيبونهم ثم يتجرؤون

ويعاود الأطفال الرشق

ويصرخ واحدٌ من بعيد… يهلكون أنفسهم! ويتوارى خلفهم غيرهم!

ويكبر ناشئوهم ويقرعون الأعداء بما سوى الحجارة !

الحجارة… الحجارة… يوم سلاح ويوم أذى… ويوم تلحد القبور

**

الزوج: قد اقتربت المدارس

ينظر إليها ويتنهد

تضيف: والعيال يرغبون بالجديد، لا يخزيهم حالهم أمام زملائهم!

ينهض من جلسته… يفر

**

والسيارات هي الأخرى لا تعذرك! حين تريد العبور إلى الطرف الآخر تغدو تلك مشكلة

كيف تفعل مع زحامها أو مع مروقها؟ فيجتمع خوفك منها مع ما تعانيه وما يلهبك!

المرء يوم القيامة يمر على جسر جهنم!

أحدّ من السيف وأدق من الشَّعر!

إن نظر إلى أسفل هاله مصيره، وإن تشبث بطريقه لم يحز ثقته بنفسه…

ويبقى وقتها التثبيت من الله… ليس من شيء يتعلق بمقاييس الأرض

وبحسب عمله في الدنيا يكون ثباته في ذلك الموقف

أعبر الطريق متحسبًا حذرًا!

**

وجاء دور المتملقين!

انبثق أحدهم لي من تحت الأرض، أو ربما هبط من علٍ!

يكيل لي المدح والثناء

ما تفعله عين التأنق…

إنك رائد من رواده، ولن يلبث الناس أن يقلدوك! ليتك تفتتح دارًا للأزياء!

فلما امتعضتُ أمامه، غيّر كلامه!

بل هذا عين التواضع بمثلك يقتدي الكبار، وعلى خلقك يتربى الصغار!

للحجارة فائدة الآن

إليك عني

يفر هاربًا

**

حين تغدو الحركة عذابًا فأنت إذن طريح

– هل أقدم لك شيئًا؟

تبتسم في صبر : شكرًا..

وهل يملك أحدٌ لي شيئًا؟

هنا الوقت يزحف ببطء، والنوم لا يأتي أبدًا، والألم يلعب بي!

هنا السرير المؤلم، والنوم المرهق، والراحة المزعجة!

**

لا أزال أسير وأتأمل

الإنسان يفقد دومًا… .كل يوم يفقد شيئًا

يفقد ماله/ يفقد عقله

ويفقد صحته… بهجته

يفقد شعره !

يفقد جيرانه وأحباءه..وأهله

يفقد حريته وأمنه

الإنسان كائن فاقد… ومفقود

فلم يفرح بحالٍ سرعان ما يفقده؟

في لحظة واحدة: يزول سلطان، ويفنى مال، وتأتي الدواهي، ويحل الموت!

فما لي أستحضر لنفسي قيمة؟!

**

– لم أفعل شيئًا يا سيدي

– فـلِـمَ أتوا بك إلى هنا؟

– هل من يعترض سلميًّا يصير مجرمًا؟

– أنا هنا الذي يسأل!

– قلتُ لك لم أفعل شيئًا!

– ولِمَ جاؤوا بك إلى هنا؟

– سلهم يا سيّدي فهم من فعلوا !

– يجدد الحبس

**

الأصوات الآن مع حركة الناس تلفت نظري: أصوات لا يسمعها إلا من حالهم كحالي!

أنظر هنا، وألتفت هناك..هل جننتُ؟

لو راقبني أحدهم لظنني مختلًّا أو لتهكم بي!

هذا صوت صرير الخشب وذاك خرير الماء وتلك طرقعة سوط

أحقا تلك أصوات صادرة عن الناس أم أنني أضخّم الأمور بسبب الفقد؟!

ترى هل للعافية صوت يسمعه المتضررون؟

وللأمن صوت يسمعه الخائفون؟

هل يرى الأعمى الإبصار؟

**

لا أزال أسير، ولا تزال الأفكار تتداعى..

حين تفقد شيئًا يتعاظم شأنه عندك؛ ربما أكثر من حجمه في حياة غيرك!

فاقد الذرية يأسى على عدم توريث عبقريته الفجة!

وفاقد المال يتمنى منه ولو شيئًا !

ولو كان الفقر رجلا لقتله (عليُّ) أمير المؤمنين!

بل لعلنا جميعا نجرؤ على قتله إن فقد حراسه، وانقشع عنه مثبتوه!

والمبطون معلول الصحة يتمنى عودة ما فقد؛ ولو بذل ماله ومال الدنيا ليحصله!

البصر.. والسمع… والذراعين… والرجلين… .والعقل

وفاقد الحرية… وفاقد الأمن

كلهم يتمنون ملء الأرض ذهبًا ليشتروا به ما فقدوه

يا رباه أعطنا من النعم ما نغفل عنه ولا ندركه إلا حين نفقده!

**

أسير متمهلًا متهالكًا متأملًا وأقول لنفسي: كقطع “البازل” يبدو الإنسان متماسكًا مكتملًا متراصًّا بينما تنفضح صورته بفقده قطعة منه!

وأتأمل الآن فيما نقل عن رسولنا صلى الله عليه وسلم بأن الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر!

لكن رسولنا ربط ذلك بتواد المسلمين وتراحمهم وتعاطفهم؛ فيا له من ربط له حكمته ودلالاته!

بسبب ذلك كان المسلمون متماسكين متعاضدين؛ بل امتدت أيديهم للبشر يعينون ويطورون

بينما نحن بالكاد يشعر بعضنا بأسرته ؛ إن لم يكن منشغلا فقط بنفسه، لكن يبقى المثل منطبقا بالأصالة على الشخص

**

وها أنا بفقدي ريشة من رياشي أراني عاريًا ضعيفًا وجلًا أسير بتؤدة، وأخشى الناس أن يروني أو أن صخرة تدميني، أو شمسًا تلفحني!

وأقول لنفسي: كيف لا تصبر على فقد نعليك ساعة بعد خروجك من المسجد، وتفقد محلًّا تشتري منه في تلك الساعة!

وغيرك يعيش دونه غالب عمره.. فتستويان لحظة؛ رغم ملكك المال!

وتذكرتُ من يستظل فلا يقيه سقف بيت، ومن لا يجد مأوى من الأساس، ومن تمطره الطائرات… ومن سقفه الموت

إنهم من يفقدون الدنيا – بحق – وسط عجز منهم، وتهاون ممن يملكون!

**

الآن وقد ارتديتُ ذلك النعل المهترئ الذي منحنيه صاحب فرش رآني فأشفق عليّ، وناداني

شكر الله له رفض عوضًا عنه!

وتستغرب من مالك الذي لا ينفعك؛ فقد يمتلئ جيبك به في صحراء، ثم تموت من العطش!

أراني أفضل حالًا فقد وقاني لأواء الشمس وشدة الحصى… وإن لم يكن جمّل قدمي… فمن يعبأ بزينة؟!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى