تميّز الإنسان عن سائر الكائنات بالعقل والتفكير، وجعل الله له الروح سبيلًا للهداية والسمو..
غير أنّ العقل وحده قد يتيه إذا لم يقترن بالإيمان، والروح قد تذبل إذا غاب عنها اليقين..
في القرن الخامس الهجري، وفي زمنٍ غلب فيه الجدل الكلامي والتناحر المذهبي وقلّ فيه الاهتمام بتزكية النفوس، خرج الإمام أبو حامد الغزالي (450-505هـ/1058-1111م) ليكتب كتابه الأعظم “إحياء علوم الدين”، جامعًا فيه بين الشريعة والحقيقة، بين الظاهر والباطن، بين العلم والعمل، ليقدّم موسوعة أخلاقية وروحية ظلّت عبر القرون مرجعًا لا يُستغنى عنه، حتى عُدّ “قرآن الأخلاق” و”دستور التربية الإسلامية”.
بنية الكتاب: أربعون كتابًا في أربعة أرباع
قسّم الغزالي “الإحياء” إلى أربع وحدات كبرى، كل وحدة تضم عشرة كتب، فصار المجموع أربعين:
1- ربع العبادات: الصلاة، الزكاة، الصوم، الحج، أسرار تلاوة القرآن… وربط فيها الغزالي بين ظاهر العبادات وباطنها الروحي.
2- ربع العادات: آداب الأكل، الزواج، الكسب، الأخوة، السفر، السماع… حيث جعل العادات عبادات بنية صادقة.
3- ربع المهلكات: الغضب، الرياء، الكبر، الحسد، الشره، حب الدنيا… وهو تشريح للأمراض القلبية التي تفسد النفس.
4- ربع المنجيات: التوبة، الصبر، الشكر، التوكل، الزهد، المحبة، الرضا… وهو الجانب العلاجي الذي يطهّر القلب ويهدي الروح.
بهذا المنهج أراد الغزالي أن يوازن بين فقه الجوارح وفقه القلوب، فجعل الدين حياة متكاملة لا قشورًا ظاهرية.
مكانة “الإحياء” في الفكر الإسلامي
أعاد الاعتبار إلى تزكية النفوس في زمن طغى فيه الجدل العقيم.
كان جسرًا بين الفقهاء والمتصوفة، جمع بين عقل الفقيه وذوق العارف.
صار مرجعًا للأخلاق والتربية في المدارس والزوايا الصوفية.
أثّر في الأدب والشعر والفكر الإسلامي عبر القرون.
ترجِم إلى الفارسية والتركية والأردية، ثم إلى اللغات الأوروبية، فأصبح له صدى عالمي.
وقد قال الإمام تاج الدين السبكي: “كاد الإحياء أن يكون قرآنًا”. حتى شاع القول: “من لم يقرأ الإحياء فليس من الأحياء”.
الانتقادات الموجهة للكتاب
على عظمة الكتاب ومكانته، إلا أنه لم يسلم من النقد:
1- كثرة الأحاديث الضعيفة والموضوعة
أورد الغزالي عددًا من الأحاديث غير الموثقة.
أبرز المنتقدين: الحافظ العراقي، الذي ألّف كتاب “المغني” في تخريج أحاديث الإحياء.
2- المبالغة في النزعة الصوفية
رأى بعض العلماء، مثل ابن الجوزي في كتابه “تلبيس إبليس”، أن الغزالي بالغ في الاعتماد على أقوال الزهاد.
3- الحكايات غير المسندة
انتقده ابن تيمية لاعتماده على قصص الأولياء بلا تثبّت.
4- مزج الفلسفة بالتصوف
خشي بعض الفقهاء والفلاسفة من خلطه بين المنهج العقلي والفكر الصوفي.
ابن رشد ردّ على الغزالي في كتابه “تهافت التهافت” معارضًا منهجه في مهاجمة الفلاسفة.
الردود العلمية على الانتقادات
قصد الغزالي الوعظ لا التوثيق: لم يكتب “الإحياء” ليكون كتاب حديث، بل كتاب تربية وإصلاح، لذا تساهل في الأسانيد.
إصلاح العلماء لأحاديثه: الحافظ العراقي وابنه ولي الدين، ثم غيرهم، قاموا بتخريج وتنقيح أحاديثه، مما زاد قيمته.
الجمع بين العقل والروح: كان مشروع الغزالي هو إعادة التوازن بين الفقه والتصوف، لا تفضيل أحدهما على الآخر.
أثره العملي الباقي: لو كان الإحياء كتابًا ضعيف القيمة لما لُخّص وحُفظ وأعيد نشره عبر القرون (كما فعل ابن قدامة في “منهاج القاصدين”، وابن الجوزي في “مختصره”).
سيرة الإمام الغزالي
الاسم الكامل: محمد بن محمد بن محمد الغزالي الطوسي.
الميلاد: 450 هـ / 1058م، في طوس بخراسان (إيران الحالية).
التعليم: درس على إمام الحرمين الجويني، وبرع في الفقه وأصوله والفلسفة والمنطق.
المكانة: تولى التدريس في المدرسة النظامية ببغداد وهو شاب، حتى صار “حجة الإسلام”.
الأزمة الروحية: مرّ بحالة قلق فكري دفعته لترك التدريس والعزلة سنوات، ثم عاد مؤلفًا أعظم كتبه، وفي مقدمتها “الإحياء”.
الوفاة: 505 هـ / 1111م في مسقط رأسه طوس.
أشهر أقواله
“العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون.”
“من عرف نفسه فقد عرف ربه.”
“القلب كالمرآة، والذنوب كالصدأ، ولا ينجلي إلا بالذكر والتوبة.”
“الزهد أن تكون الدنيا في يدك لا في قلبك.”
“النية روح العمل، والعمل جسدها، فمن عمل بلا نية كان كجسد بلا روح.”
أثر الإحياء في الغرب والنهضة الأوروبية
لم يقتصر أثر “الإحياء” على العالم الإسلامي، بل وصل صداه إلى الغرب:
تُرجم إلى اللاتينية في العصور الوسطى جزئيًا، وانتقلت أفكاره عبر الأندلس وصقلية.
أثرى الفكر الصوفي الأوروبي، فوجد فيه الباحثون الغربيون مادة غنية لفهم الروحانية الإسلامية.
بعض مؤرخي الفكر الغربي رأوا أن كتابات الغزالي، ومنها “الإحياء”، أسهمت في تهيئة أوروبا للخروج من أسر الفلسفة الأرسطية الجامدة نحو فكر أكثر حيوية.
اعتُبر الغزالي “أفلاطون الإسلام”، وكتابه “الإحياء” مرجعًا للمقارنة بين الأخلاق المسيحية والإسلامية في القرون الوسطى.
إحياء علوم الدين
إن “إحياء علوم الدين” ليس كتابًا عابرًا، بل مشروع حضاري شامل، جمع فيه الغزالي بين الفقه والتصوف، بين العقل والوجدان، ليقدّم رؤية متكاملة للإصلاح الفردي والاجتماعي. ورغم ما وُجّه إليه من انتقادات، ظل الكتاب حيًا يتجدّد تأثيره، حتى وصل أثره إلى الفكر الغربي. لذلك صدق من قال: “الإحياء أحيانا”.