في شوارع القاهرة المملوكية، كان التاريخ يُصنع على أيدي الناس قبل أن يُكتب في قصور السلاطين.
حين تشرق الشمس على المدينة، تبدأ الأسواق بالامتلاء بالباعة والزائرين: سوق النحاسين يطنّ بأصوات المطارق، وسوق العطارين يفوح منه عبق البهارات القادمة من الهند واليمن، فيما يصدح بائع الحرير بعرض بضاعته الشامية. في الأحياء الشعبية، يتجه الأطفال إلى الكتاتيب حاملين ألواحهم الخشبية، والنساء يتهيأن لإعداد طعام اليوم، بينما يستعد العامة للاحتفال بموكب سلطاني أو مولد شعبي.
هذه اللوحة ليست من نسج الخيال، بل منسوجة بدقة في كتاب “الحياة اليومية في مصر: عصر سلاطين المماليك” للمؤرخ الكبير قاسم عبده قاسم، الذي يعيد عبره كتابة تاريخ مصر لا من منظور السلاطين والمعارك، بل من عيون الناس البسطاء.
المماليك.. من عبودية إلى مُلك
المماليك جُلبوا أطفالًا صغارًا من القوقاز وآسيا الوسطى، ودُرّبوا في معسكرات خاصة ليكونوا جنودًا عبيدًا في خدمة الأيوبيين. غير أن القدر هيأ لهم أن يعتلوا عرش مصر بعد سقوط الدولة الأيوبية، فأسسوا سلطنة حكمت لأكثر من قرنين. في عهدهم تحقق النصر الساحق على المغول في عين جالوت، كما صُدّت الحملات الصليبية المتأخرة، وتحولت القاهرة إلى عاصمة العالم الإسلامي.
لكن بعيدًا عن السيوف والمجد العسكري، يطرح الكتاب سؤالًا أكثر عمقًا: كيف عاش المصريون في ظل هؤلاء السلاطين؟ كيف أكلوا، وتاجروا، واحتفلوا، ومرضوا، وداووا أنفسهم؟
فصول الكتاب: صورة مكتملة للحياة اليومية
1- الطبقات الاجتماعية:
يبدأ الكتاب برسم خريطة المجتمع المملوكي: السلاطين في القمة، يليهم الأمراء والعلماء، ثم التجار وأصحاب الحرف، وصولًا إلى الفقراء والغرباء. ومع ذلك، يكشف أن التراتب الاجتماعي لم يمنع من وجود حراك ثقافي واجتماعي متنوع.
2- الأسواق والاقتصاد:
القاهرة كانت قلب التجارة العالمية. البضائع تتدفق إليها من الهند والصين واليمن والشام، ومن أوروبا عبر المتوسط. يقول المقريزي: “في كل سوق ما يبهرك منظره، وتغريك سلعته، وتجد فيه من النظام ما لا تجده في أسواق البلاد الأخرى”.
3- العادات والتقاليد:
الكتاب يتوقف عند الأفراح الشعبية حيث الأهازيج والرقص والموكب السلطاني المهيب، والموالد التي كانت تجمع بين الدين والفرح الشعبي، وعلى رأسها المولد النبوي الذي وصفه المؤرخون بأنه “مهرجان يفيض بالحلوى والأطعمة والأنغام”.
4- المرأة والأسرة:
يخصص قاسم عبده قاسم فصلًا لدور المرأة في البيت والمجتمع. فهي تدير شؤون الأسرة، وتشارك أحيانًا في الأسواق، وتُعنى بتربية الأبناء على حفظ القرآن واللغة.
5- العمارة والحياة الحضرية:
القاهرة المملوكية بُنيت لتبقى: مساجد، مدارس، حمامات عامة، وخانات للتجار. العمارة المملوكية التي ما زالت شاهدة حتى اليوم على روعة ذلك العصر.
6- الطب والصحة:
تناول المؤلف نظام البيمارستانات (المستشفيات)، والأطباء الذين كانوا يزاوجون بين الطب الإسلامي القديم ونظريات ابن سينا، وكيف واجه المصريون أوبئة مدمرة كالطاعون الأسود. يقول ابن إياس عن ذلك: “خلا كثير من الدروب، وأقفرت الأسواق، ولم يُرَ في القاهرة جنازة إلا ولها عشرات الباكين”.
7- الثقافة والعلم:
لم تكن الحياة الفكرية أقل ازدهارًا؛ فقد حفلت المساجد بحلقات العلم، وازدهرت المدارس النظامية، وشهدت مصر إنتاجًا أدبيًا وعلميًا كبيرًا.
أهم المقولات والشهادات
المقريزي عن الأسواق: “لم أرَ في الدنيا مثل أسواق القاهرة حسنًا ونظامًا وبهاءً”.
ابن إياس عن الأوبئة: “كان الطاعون يطوي الأحياء طيًا، فلا يُسمع في كثير من الدور إلا صوت النواح”.
المؤرخون عن المولد النبوي: “كان السلطان يشارك فيه كما يشارك العامة، فيغدو مهرجانًا يوحّد الناس على البهجة”.
لماذا هذا الكتاب مهم؟
عادة ما يختصر التاريخ في أسماء السلاطين والمعارك الكبرى، لكن هذا الكتاب يعيد الاعتبار لـ”التاريخ من تحت”، تاريخ الناس العاديين. إنه محاولة لتوثيق روح القاهرة المملوكية، حيث كانت الأسواق مسرح الحياة، والمواسم الشعبية أعيادًا كبرى، والمدارس والكتاتيب مصانع للثقافة والوعي.
إنه كتاب يعيد رسم الماضي ليضيء الحاضر، إذ نجد الكثير من ملامح حياتنا اليوم ما زالت امتدادًا لذلك العصر: من أسواق خان الخليلي، إلى الموالد الشعبية، إلى العمارة التي تزين شوارع القاهرة حتى الآن.
المؤلف: مؤرخ يكتب للناس
الدكتور قاسم عبده قاسم (1942–2013) أحد أبرز مؤرخي العصور الوسطى في مصر والعالم العربي. عمل أستاذًا للتاريخ الإسلامي بجامعة الزقازيق، وترك إرثًا من المؤلفات التي ربطت الماضي بالحاضر، منها: جذور الحروب الصليبية، ماهية الحروب الصليبية، شخصيات من التاريخ الإسلامي. امتاز بأسلوب يجمع بين الصرامة الأكاديمية وسلاسة العرض، فجعل التاريخ مادة قريبة إلى القارئ العام.
أثر التراث المملوكي على مصر الحديثة
ليس من المبالغة القول إن القاهرة اليوم تحمل في قلبها ملامح مملوكية حية:
أسواقها القديمة ما زالت تنبض بالتجارة كما وصفها المقريزي.
الموالد ما زالت تُقام بروح قريبة مما عاشه المصريون قبل ستة قرون.
العمارة المملوكية ما زالت تزين أحياء القاهرة الفاطمية والسلطانية.
حتى المطبخ المصري الشعبي ما زال يحتفظ بأطباق ورثها من العصر المملوكي.