في عمق جبال مرة بولاية دارفور غرب السودان، تحوّلت قرية صغيرة إلى مقبرة جماعية طبيعية بعد انهيار أرضي مدمر وقع في 31 أغسطس 2025، أعقب أيامًا من الأمطار الغزيرة التي ضربت المنطقة.
القرية التي لم يكن يعرفها الكثيرون خارج حدود دارفور صارت تُسمّى اليوم بـ”قرية الألف شهيد”، بعد أن ابتلع الطين والصخور حياة المئات من سكانها في لحظات خاطفة.
انتشال الجثث وسط الصدمة
على مدى أيام متواصلة، قاد مجيب الرحمن الزبير، رئيس الهيئة المدنية في “الأراضي المحررة”، فرق إنقاذ متواضعة الإمكانيات لا تملك سوى أدوات بدائية وأيدٍ مثقلة بالحزن.
وفي خطاب مصوَّر، أكد الزبير أن فرق الإنقاذ انتشلت نحو 375 جثة ودفنتها وفق الشعائر المحلية، فيما لا تزال مئات الجثث الأخرى مطمورة تحت الركام، في انتظار ما إذا كان ممكناً الوصول إليها.
وبينما كان الأهالي يتجمعون للصلاة على الضحايا، ارتفعت أصوات البكاء والدعاء: “أرجو الرحمة لضحايا هذا الحادث المدمر”.
تقديرات متباينة وخسائر كارثية
بحسب حركة تحرير السودان – جيش التحرير، قد يكون الانهيار الأرضي قد أودى بحياة ما يصل إلى ألف شخص، وهو تقدير قريب مما ذكره مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، الذي حذر من أن حجم الكارثة أكبر مما يمكن إحصاؤه سريعًا بسبب صعوبة الوصول إلى المنطقة.
فالتضاريس الوعرة في جبال مرة أجبرت فرق الإغاثة الدولية على استخدام الحمير للوصول إلى بعض المواقع المنكوبة.
استجابة إنسانية عاجلة
أطلقت الأمم المتحدة وشركاؤها مهمة تقييم واستجابة سريعة، شملت نشر فرق طبية متنقلة وعيادات ميدانية، إلى جانب توزيع مساعدات عاجلة على ما لا يقل عن 750 شخصًا من الناجين والنازحين.
ومع ذلك، تبدو الجهود المتواضعة غير كافية أمام حجم المأساة، حيث دُمّرت مساكن وفُقدت عائلات بأكملها. وأوضح متحدث أممي أن “الوضع الإنساني كارثي ويتطلب تضامنًا دوليًا عاجلاً”.
مأساة تتقاطع مع الحرب
تأتي هذه الكارثة الطبيعية في وقت يعاني فيه السودان من إحدى أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم بسبب الحرب الأهلية التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع. الحرب التي قتلت أكثر من 40 ألف شخص وشردت نحو 12 مليونًا، تركت البلاد على حافة المجاعة وانتشار الأوبئة، لتزيد مأساة الانهيار الأرضي الطين بلة.
قرية الألف شهيد رمز الألم السوداني
ليست هذه المرة الأولى التي تضرب فيها الانهيارات الأرضية جبال مرة، فقد شهدت المنطقة حادثًا مشابهًا عام 2018 أودى بحياة 19 شخصًا. لكن مأساة 2025 تختلف في حجمها وصداها، إذ حوّلت قرية بأكملها إلى قرية الألف شهيد. اسمٌ أصبح عنوانًا رمزيًا لفاجعة تختزل معاناة السودانيين بين حربٍ مدمرة وكوارث طبيعية تضرب أرضهم المنهكة.
اليوم، وبينما يُدفن الضحايا تباعًا تحت التراب أو تحت الأنقاض، يبقى السؤال الأعمق مطروحًا: هل ستبقى هذه المأساة مجرد صفحة في سجل الكوارث السودانية الطويلة، أم أنها ستدفع العالم إلى الالتفات بجدية أكبر لمعاناة بلدٍ يكاد يختفي تحت الركام والجوع والرصاص؟
شهادات من قلب المأساة
في موقع الانهيار الأرضي، يقف آدم عبد الله، شاب في الثلاثين من عمره، ينظر إلى أكوام الطين والصخور التي غمرت قريته. بصوت مبحوح من البكاء قال: “كنت خارج البيت أبحث عن علف للماعز حين انهارت الجبال. عدت لأجد أن بيتي اختفى تحت التراب، ومعه زوجتي وأطفالي الثلاثة. لم أستطع حتى توديعهم. لم يبقَ لي أحد.”
أما خديجة محمد، وهي امرأة مسنّة فقدت أربعة من أحفادها، فجلست قرب قبر جماعي، ممسكة بسبحتها، تتمتم بالدعاء وتقول: “كنا نحتفل بالمطر الذي يسقي الأرض، ولم نعلم أنه سيكون سببًا في دفن أولادنا. هذه ليست أمطار رحمة، بل كأنها كانت دموع السماء علينا.”
وبجوارها، حاول يوسف عبد الرحمن، أحد متطوعي فرق الإنقاذ، أن يصف المشهد: “ننتشل الجثث بأيدينا، نستخدم المعاول الصغيرة والحبال. لم نرَ في حياتنا مثل هذه الكارثة. في بعض البيوت وجدنا العائلات متماسكة وهي تحت الأنقاض، وكأنهم ماتوا وهم يحتضنون بعضهم بعضًا.”
هذه الأصوات، رغم بساطتها، تجسّد حجم المأساة أكثر من أي إحصاءات أو بيانات رسمية، وتكشف أن قرية الألف شهيد ليست مجرد عنوان، بل جرح مفتوح في قلب دارفور المنهكة.