تقارير سلايدر

قصّة إضراب «المحايدين» الخمسة عن الطعام لمدة شهر هزّت الرأي العام الفرنسي

«لاجودان» كان يسعى لجمع قادة الثورة وتسليمهم لجاك سوستيل

عرفت سنوات الأربعينيات في الجزائر بتشكيل احزاب سياسية وصراعات بين رؤسائها بسبب غياب التوافق في الأفكار والمنهج، فكان لا بد من تشكيل لجنة لفك النزاعات خاصة بعد ظهور الأزمة البربرية، وتشكلت اللجنة من خمسة أعضاء، سميت بلجنة الخمسة المحايدين  لكن وبسبب الخيانة وجد المحايدون الخمسة أنفسهم معتقلون واقتيدوا الى أحد سجون فرنسا، وقاموا بإضراب عن الطعام لمدة شهر كامل، كان هذا الإضراب قد الحق بفرنسا الهزيمة أمام الرأي العام الدولي، لكن لقاء زمورة أعاد الأزمة من جديد داخل الجهاز التنفيذي للثورة و هو ما عرف بأزمة صيف 62.

فعقب صدور قانون العفو العام في ربيع 1946، انتعشت الحياة السياسية من جديد، و بفضل هذا القانون ظهرت الحركة الإصلاحية في الجزائر باسم «الاتحاد الديمقراطي للبيان الجزائري» بقيادة فرحات عباس وتلتها الحركة الوطنية (الاستقلالية) باسم «حركة انتصار الحريات الديمقراطية» بزعامة الحاج مصالي، كانت حركة الانتصار قد عقدت مؤتمرها التاريخي وكان من قرارات هذا المؤتمر إنشاء منظمة شبه عسكرية أطلق عليها اسم «المنظمة الخاصة» OS، بهدف الإعداد للثورة المسلحة، وتقرر تأسيسها في مدينة قسنطينة، وكان رابح بيطاط واحدا من مؤسسيها، حيث ضمت كل من رابح بيطاط، عبد المالك رمضان، عبد الحفيظ بوالصوف، بن طوبال وحباشي، تدرب أعضاؤها على فنون القتال منها رياضة «جو جيتسو»، وأصبح رابح بيطاط المدرب الذي يشرف على تلقين الأعضاء قواعد هذه الرياضة، كما تدربوا على فنون استعمال السلاح، وصنع القنابل التقليدية والتدرب على السير في المسالك الوعرة كالجبال والغابات الكثيفة وحفظ مداخلها ومخارجها، وكل ما من شأنه أن يساعد على العمل الثوري المسلح، و بالنظر إلى عدم تحديد موعد انطلاق الثورة بدأت المنظمة تعرف نوعا من الفتور بعدما استولى الملل على عناصرها.​

و في سنة 1949 عاشت حركة الانتصار ما يعرف بالأزمة البربرية التي انعكست على المنظمة الخاصة، في شكل إبعاد مسؤولها حسين آيت أحمد الذي وجهت له تهمة الضلوع في الحركة البربرية، وتم إبعاده إلى فرنسا ثم إلى القاهرة بدل من معاقبته، بحجة صغر سنه، وتم استخلاف بأحمد بن بلة، ولولا حادثة تبسة الشهيرة، لما تمكن الجيش الفرنسي من اكتشاف المنظمة الخاصة، في بداية مارس 1954 وبعد عودة محمد بوضياف كانت فكرة الحياد تراوده، وكان لا بد من حل الأزمة التي كانت بين رئيس الحزب الحاج مصالي والأمانة العامة بقيادة يوسف بن خدة، انتهت الأمور بضرورة تجاوز الخلافات والانتقال إلى مرحلة الكفاح المسلح، وأطلق على المجموعة اسم «المحايدون»، حيث كوّنوا بعدها هيئة تنسيق تتكون من خمسة أعضاء وهم: (بوضياف، بن بولعيد، بيطاط، ديدوش مراد وبن مهيدي)، وكان مسؤول لجنة التنظيم بالحزب بشير دخلي، قد اقترح تأسيس اللجنة الثورية للوحدة والعمل، لكن المحايدون رفضوا المقترح وبشهادة رابح بيطاط، بسبب عدم جاهزية الأمانة العامة للثورة، ثم أن المقترح كان يهدف إلى تمييع الأصوات داخل الأمانة العامة، ولذلك تقرر حل اللجنة الثورية للوحدة والعمل.​

في ظل هذه الظروف، اتجهت لجنة الخمسة «المحايدون» لعقد اجتماع الـ: 22 الشهير في كلوالبي، بعد إضافة عضو سادس وهو كريم بلقاسم، و أضفت الشرعية على هذا الاجتماع، كون رئاسة الاجتماع أسندت لبن بوالعيد بصفته الأكبر سنا، وكان محل إجماع لاختيار القيادة ، أي تكريس لجنة الخمسة عمليا، خاصة وأن الخمسة أجمعوا على كسب منطقة القبائل إلى الثورة، كانت هذه المنطقة بقيادة كريم بلقاسم أثناء الأزمة أقرب إلى مصالي، وللتواصل مع قادة منطقة القبائل قام ديدوش مراد في أواخر ماي 1954، بالاتصال بمسؤولي جرجرة، لكن اللقاء لم ينجح، فأوكلت المهمة إلى بن بوالعيد، والتقى الجميع بثوار جرجرة وعقد الاجتماع بناحية ذراع بن خدة في منزل سي عمار حارس الغابة، وتم الاتفاق على إنشاء مركز للتدريب على صنع القنابل التقليدية إلى أن قررت لجنة الستة الظهور باسم جبهة وجيش التحرير الوطني، في الاجتماع ما قبل الأخير تم تحديد المناطق، وكلف العضو السادس بالتنسيق بين قادة المناطق والوفد الخارجي المتكون من الثلاثي (أحمد بن بلة، محمد خيضر وحسين آيت أحمد).​

لم تمر الأمور بشكل سلمي، بل كانت الخيانة قد تسللت إلى الصفوف، حيث ظهر فجأة سليمان «لاجودان»، استطاع «لاجودان» أن يصل إلى مكان تواجد بن مهيدي و حاول أن يستغل غياب بوضياف، وأخبر بن مهيدي بأن بوضياف أخبره بوجود صفقة هامة من الأسلحة في طريقها إلى العاصمة، ولكن محاولته باءت بالفشل، لأن بن مهيدي كان على اتصال دائم ببوضياف، وأدرك بأن هناك مؤامرة ، وأن «لاجودان» كان يسعى إلى جمع القادة وتسليمهم لجاك سوستيل، كما تفطن رابح بيطاط لخيانته حين التقى به بمقهى القصبة، توالت الأحداث ليجد الخمسة أنفسهم معتقلون، حيث شنوا إضرابا عن الطعام دام شهرا كاملا، وأحدث هذا الإضراب ضجة إعلامية كبرى هزت معظم السجون الفرنسية، أين سارعت السلطات الفرنسية بنقلهم إلى قصر «أولونو» جنوب شرق باريس، حيث وضعوا في شبه إقامة جبرية تحت رعاية المملكة المغربية بواسطة سفارتها بباريس.​

أراد العاهل المغربي الحسن الثاني ترحيل الخمسة إلى الرباط مباشرة بعد الإفراج عنهم، غير أن رابح  بيطاط ومحمد بوضياف رفضا مقترح الحسن الثاني وفضّلا أن تكون وجهتهما إلى مدينة لوزان بسويسرا حيث يقيم الوفد المفاوض مع الفرنسيين بقيادة كريم بلقاسم والتي توجت باتفاقيات إيفيان، بعدها استقبل الخمسة بالرباط، وفيها التأم شمل الحكومة ولأول مرة بحضور الخمسة الذين تم تعيينهم أعضاء في لجنة التنسيق والتنفيذ الثانية قبل أن يُحَوِّلُوا وجهتهم إلى الحدود المغربية الجزائرية للقائهم بهواري بومدين وظلوا يتنقلون من المغرب إلى مصر ومن ثم إلى تونس ليمارسوا مسؤولياتهم في الحكومة المؤقتة، لكن تنقلب الأمور وتتسبب في تشتت الرفاق، كان ذلك في لقاء “زمورة” الذي جمع ببن بن خدة وممثلين عن الولاية الثانية بقيادة صالح بوبنيدر المعروف باسم “صوت العرب” والولاية الثالثة بقيادة محند أولحاج، والولاية الرابعة بقيادة يوسف الخطيب، وعن كل من اتحادية جبهة التحرير بكل من فرنسا و تونس.​

كانت نتائجه ( أي لقاء زمورة) ضد هيئة الأركان بقيادة هواري بومدين وزل أعضائها، أدى ذلك إلى عودة الأزمة من جديد داخل الجهاز التنفيذي للثورة عندما قام بن يوسف بن خدة بإصدار قرار عزل أعضاء قيادة الأركان في 30 جوان 1962، الأمر الذي أغضب كل من بلة وخيضر، مما أدى إلى استقالة محمد خيضر وانسحاب بن بلة إلى طرابلس ثم إلى القاهرة، وبإعلان الاستقلال وعودة الحكومة المؤقتة إلى العاصمة انتقل الصراع إلى داخل البلاد، وبادر بن خدة بفتح النار على خصومه حيث أعلن في تصريح له بالقول: إن الإرادة الشعبية تقف سدا منيعا في وجه الدكتاتورية العسكرية”، من جهته أعلن بن بلة عن تشكيل المكتب السياسي بحجة أنه حاز على ثقة المجلس الوطني للثورة في طرابلس كسلطة وطنية شرعية.​

ومثلما شهدت تلمسان ميلاد المكتب السياسي، كان موقف منطقة القبائل بتشكيل ”لجنة الاتصال من أجل الدفاع عن الثورة” وضمت كل من محمد بوضياف وكريم بلقاسم الذي أسس “الاتحاد الديمقراطي للثورة الاشتراكية”، وهي حركة معارضة سرية تهدف إلى ضرب نظام الرئيس بن بلة وحليفه العقيد بومدين، ليلتحق بهم حسين آيت أحمد الذي كان على خلاف مع كريم بلقاسم، هذا الأخير كان على مقربة من أن يكون رئيس للجمهورية بعد الإطاحة ببن بلة، وراح الاثنان يؤسسان حزبا سياسيا، حسين آيت أحمد أسس “جبهة القوى الاشتراكية” وبوضياف أسس “حزب الثورة الاشتراكية”، وشرع حسين آيت أحمد في تدريب المقاتلين بمنطقة القبائل بمساعدة العقيد محند أولحاج والقيام بعمليات مسلحة، حيث وقعت اشتباكات بينه وبين الجيش وقوات الأمن والدرك، أدت إلى سقوط قتلى من الجانبين، وذلك في الفترة ما بين 1963 و1964، ونتيجة الاعتداء المغربي على الحدود الغربية للوطن تقرر تجميد الصراع والاتفاق على إنهاء الخلافات  السياسية بين الطرفين والتصدي لحكومة المغرب الأقصى.​

علجية عيش

علجية عيش
صحفية جزائرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *