تأتي رواية “قطار إلى سمرقند” للكاتبة الروسية غوزيل ياخينا (مواليد 1977) لتؤكد مرة أخرى أن الأدب قادر على التقاط لحظات التحوّل التاريخي الكبرى، وتجسيدها عبر قصص إنسانية حافلة بالمعاناة والأمل. فبعد نجاح روايتها الأولى زليخة تفتح عينيها التي تناولت تهجير التتار، تواصل ياخينا في هذه الرواية الغوص في جروح الذاكرة الروسية مع بدايات الثورة البلشفية وما تلاها من قحط وحروب أهلية، لكن من منظور الطفولة المهدورة واليتامى الذين وجدوا أنفسهم على هامش التاريخ.
فكرة الرواية والبعد الإنساني
الرواية تدور حول مأساة الأيتام في روسيا عقب الحرب الأهلية (1918–1922)، حيث انتشرت المجاعات والأوبئة، فامتلأت الطرقات بالأطفال التائهين بلا أهل ولا مأوى. هؤلاء الذين أُطلق عليهم “بِسْبْرِيزُورنيي” (الأطفال المتشرّدون)، كانوا ضحايا انهيار المنظومة الاجتماعية، لا مكان لهم سوى الأرصفة ومحطات القطار.
من هنا تنطلق الفكرة: قطار يحمل عشرات الأطفال اليتامى في رحلة طويلة عبر آسيا الوسطى، بحثًا عن الأمان والنجاة. لكن القطار ليس مجرد وسيلة نقل، بل يتحول إلى استعارة عميقة لمسيرة الحياة نفسها؛ رحلة محفوفة بالمخاطر، بين الجوع والبرد والمرض والحنين إلى ذويهم الذين غيّبتهم الحروب.
اليُتم كجرح مفتوح
تجعل الكاتبة من اليُتم محورًا أساسيًا للرواية، ليس فقط كحالة فردية، بل كمرض جماعي أصاب المجتمع كله. فاليُتم هنا لا يعني فقدان الأبوين فحسب، بل هو فقدان الحماية، والذاكرة، والدفء الأسري. تتحول الطفولة إلى صراع من أجل البقاء، حيث يتعلم الأطفال أن يستبدلوا العاطفة بالقسوة، وأن يدفنوا مشاعرهم تحت رماد الجوع والخوف.
الرواية تسائل القارئ: ماذا يعني أن تكبر بلا جذور؟ وكيف يشكّل اليُتم إنسانًا مكسورًا أو مقاتلًا عنيدًا؟
الشخصيات الرئيسية
ديميتر ناظاروف (القائد/المسؤول عن القطار): شخصية متناقضة بين البراغماتية والرحمة، يحاول الحفاظ على حياة الأطفال وسط ظروف قاسية، فيبدو أحيانًا صارمًا حد القسوة وأحيانًا أبويًا حد الذوبان.
الأطفال الأيتام: كل واحد منهم عالم قائم بذاته؛ هناك من فقد صوته، ومن فقد ذاكرته، ومن يهرب من ماضيه، ومن يتشبث بحكايات أمه. عبرهم ترسم الكاتبة بانوراما الطفولة الممزقة.
المربيات والمرافقون: يمثلون آخر خيط من الحنان في عالم قاسٍ، يواجهون مهمة شبه مستحيلة: إنقاذ الطفولة من الاندثار.
أهم المقولات والإشارات في الرواية
“القطار ليس مجرد عربات، إنه وطن متنقل، يحمل من بقي من الوطن في داخله.”
“اليُتم لا يُقاس بعدد الدموع، بل ببرودة الليل حين لا تجد صدرًا تتوسد عليه.”
“الأطفال لا يكبرون بالزمن وحده، بل بالجوع والخوف والرحيل.”
“سمرقند ليست مدينة على الخريطة فقط، إنها حلم بالخلاص.”
أهمية الرواية
1- توثيق أدبي للتاريخ: الرواية تضيء جانبًا منسيًا من التاريخ الروسي، وهو مأساة الأيتام في بدايات القرن العشرين.
2- قيمة إنسانية عالمية: لا تقتصر على تجربة روسيا وحدها، بل تطرح سؤالًا إنسانيًا شاملًا: ماذا يحدث للأطفال في الحروب؟ وهو سؤال ما يزال راهنًا في كل بقاع العالم.
3- البُعد النفسي: ترسم بدقة كيف يتحول اليُتم إلى ندبة في الروح، وكيف تخلق المجاعة أطفالًا بملامح شيوخ.
4- جمالية السرد: تتسم لغة ياخينا بالبساطة الشفافة والقدرة على خلق صور مؤثرة، تجعل القارئ يشارك الأطفال وجعهم وقلقهم.
قطار إلى سمرقند
“قطار إلى سمرقند” ليست مجرد رواية عن الأطفال في الحرب، بل عن الإنسانية حين تُختبر في أقسى ظروفها. هي صرخة ضد النسيان، وتذكير بأن الطفولة حين تُسرق لا تعود أبدًا، وأن اليُتم هو أخطر ما يمكن أن تخلّفه الحروب، لأنه يصنع أجيالًا بلا ذاكرة ولا سند.