دائما أتوقف أمام عنوان هذا الكتاب الماتع (كتاب الصناعتين) الشعر والنثر، لأبي هلال العسكري،، وتتناوشني علامات الاستفهام: لماذا لم يقل (كتاب الموهبتين)؟؟؟
ولكنه يعاجلني ببعض عباراته الدامغة:
(وليس يَعدِلُ ذو لبٍّ بصناعة البلاغة صناعةً، ولا يعدُّ كلامًا منثورًا أو منظومًا كلامًا، حتى يُقَوَّم بقسطاسها، ويُعَارَض بمقياسها)
أبو هلال العسكري هنا يقرر أن الكلام، شعرًا كان أو نثرًا، لا يُعتدّ به إلا إذا خضع لمعايير الصناعة البلاغية.
ثم يقول: (وليس أحدٌ، وإن بلغ الغاية في الفطنة، واستحكمت له جودة القريحة، يُستغنى عن التعلم، ولا يستبدّ بحُسن الطبع عن التدريب والتثقيف)
هنا يقرّ أبو هلال بوجود الموهبة (حُسن الطبع)، لكنه يشترط معها الصنعة، والتثقيف، بل يؤكد أن الموهبة وحدها لا تكفي.
ثم تأتي كلماته النارية: (وقد يُدرِك بالصنعة مَن لا يُدرك بالطبع، وقد يُدرِك بها مع الطبع من الفضل ما لا يُدرك بالطبع وحده)
يذهب أبو هلال العسكري إلى ما هو أبعد: فربّ من ليس له موهبة كبيرة، لكنّه يتعلّم الصنعة، يتفوّق أحيانًا على من يملك الموهبة وحدها.
ما سبق يذكّرني بحوار دار مع الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، في حجرة مدير مركز شباب حلمية الزيتون، مطلع الألفية، بعد ختام ليلة تكريمه بالمركز،، وكنا ثلاثة شعراء والأبنودي،، وتحدّث في ذلك،، وكان يرد على سؤال لنا،، وقال إن الموهبة (دَفعة) والصناعة قوة كبرى، وهما كقضيبَي القطار، وأكد أن هندسة القصيدة أهم من كتابة القصيدة،
– أبو هلال العسكري كان يؤمن بأن: الموهبة ضرورية، لكنها غير كافية.
والصنعة ضرورية، وهي التي تصنع الفارق بين كلام العامة وكلام البلغاء.
وبالتالي فإن “الشعر والنثر” هما “صناعتان”، لأن الصناعة هي ما يجعل الفن عِلمًا يُدرّس، لا فقط هبة تُلهم.
– أبو هلال العسكري أراد أن يقدّم دراسة تحليلية منهجية لفني الشعر والنثر بوصفهما “صناعتين”، أي علمين يمكن اكتسابهما بالتعلم والتدريب، وضبطهما بالقواعد، وليس فقط عبر الإلهام أو الفطرة.
وقد اختار لفظ “الصناعة” عمداً، لأن غايته أن يؤكد أن:
الشعر والنثر لا يعتمدان فقط على الطبع والموهبة، بل يمكن إتقان أساليبهما وتقنياتهما، كما يتقن الحداد أو النجار حرفته بالتعلُّم والصقل والممارسة.
ولو قال “كتاب الموهبتين”، لأحال الأمر إلى شيء غريزي لا يُكتسب، وبالتالي يخرج عن دائرة “العِلم” و”المنهج”، وهذا ما لا يقصده أبو هلال في كتابه الذي أراد به أن يكون مرجعًا تعليميًّا في البلاغة والنقد.
هل الشعر والنثر “صناعة” فقط، أم “موهبة وصناعة”؟
الشعر والنثر هما موهبة وصناعة معًا.
الموهبة: هي الأساس، وهي ملكة الطبع، وسلامة الذوق والتخييل، التي تميز الشاعر أو الأديب.
الصناعة: هي ما يصقل الموهبة ويهذبها، من معرفة بالبلاغة والنقد والعروض والنحو، والتدرب على الأساليب.
وقد قال كثير من النقاد مثل الجاحظ وابن طباطبا: (الشعر موهبة يكمّلها الدُّربة)
وأبو هلال نفسه يعترف ضمنًا بذلك حين يميّز بين الشعر الرديء والجيد، ويفاضل بين الأساليب، وهذا لا يكون إلا إذا وُجدت الموهبة، ثم جاءت الصناعة فهذبتها ووجهتها.
خلاصة القول:
قال “الصناعتين” لأن هدفه نقدي/بلاغي وتعليمي، يركّز على أن الشعر والنثر يمكن تحسينهما بالتعلم والممارسة.
لم يقل “الموهبتين” لأن الموهبة أمر فطري لا يُكتسب.
ومع ذلك، فالشعر والنثر في جوهرهما موهبة وصناعة معًا، ولا يستغني أحدهما عن الآخر.
عنوان الكتاب:
الصناعتين: الكتابة والشعر
المؤلف:
أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد العسكري، أحد أئمة النقد والبيان في القرن الرابع الهجري.
وُلد في إحدى نواحي فارس السُّنيّة، ونشأ بالعراق، وكان من الموالي المنتسبين للثقافة العربية الإسلامية.
عاش في نهايات العصر العباسي الأول، وتوفّي بعد سنة 395هـ.
تميّز بثقافة موسوعية شملت النحو، والبلاغة، والأدب، والفقه، وله مؤلفات عديدة مثل: الأوائل، جمهرة الأمثال، والتمييز، لكن كتابه الأبرز بلا منازع هو الصناعتين.
الفكرة العامة للكتاب
الصناعتين كتاب نقدي بلاغي موسوعي، يجمع بين فني الكتابة (النثر الفني) والشعر، ويهدف إلى بيان تداخل الصنعة البلاغية فيهما، والكشف عن مواطن الجمال والبلاغة في الكلام العربي المنظوم والمنثور.
وقد أراد أبو هلال أن يربّي الذوق الأدبي، ويضع معايير للتفاضل بين الأساليب، ويعلّم “الصنعة” الأدبية في عصر بدأت فيه البلاغة تنفصل عن الشعر والنثر ليُنظر إليها كعلم قائم بذاته.
أهم الفصول والمحاور
1- فضل الكتابة والشعر:
يفتتح أبو هلال كتابه بإعلاء شأن الكتابة والشعر، مؤكداً أن كليهما من أشرف الصناعات وأدقّها، وأن العلماء بهما أرفع مقاماً من سائر أهل الصناعات.
2- الفرق بين النظم والنثر:
يتناول الفوارق الفنية والجمالية بين نظم الشعر وصناعة النثر، من حيث الإيقاع والمعنى والصورة.
3- البلاغة والبيان:
يشرح شروط البلاغة، ويحلل مفهوم البيان، ويقدّم أمثلة متنوعة من القرآن، والحديث، والشعر الجاهلي والإسلامي.
4- السرقات الأدبية:
فصْل بالغ الأهمية، يُعتبر من أوائل الدراسات المنهجية في موضوع “السرقة الأدبية”، وفيه يميز بين الاقتباس، والمعارضة، والانتحال، ويضرب أمثلة من كبار الشعراء.
5- الفروق اللفظية والمعنوية:
يتناول دقة اختيار الألفاظ والمعاني، وضرورة الملاءمة بينهما، في الشعر والنثر.
6- عيوب الشعر:
يعرض لمواطن الضعف والخلل التي قد تعتري القصائد، من تكلف، أو ركاكة، أو سوء تركيب.
سر خلود الكتاب وشهرته
ريادته النقدية: كان أول من جمع بين النثر والشعر في كتاب بلاغي واحد، مما جعله مرجعًا أساسيًا في الأدب العربي.
عمق التحليل: تميز بتحليل بلاغي دقيق، مبني على الذوق والتجربة والمقارنة.
أمثلة تطبيقية: لم يكن كتابًا نظريًا صرفًا، بل دعّمه المؤلف بشواهد من القرآن الكريم، والشعر العربي في عصوره المختلفة.
أسلوبه المتين: يجمع بين الوضوح والدقة والجزالة، مما جعله يُدرّس في حلقات العلماء والمجامع العلمية منذ قرون.
مكانته في التراث: اعتمد عليه البلاغيون والنقاد بعده، مثل عبد القاهر الجرجاني، وابن رشيق، وابن طباطبا.
كتاب الصناعتين ليس مجرد كتاب في النقد، بل هو مدرسة بلاغية وفنية قائمة بذاتها.
ظلّ حيًا في ذاكرة الأدب العربي، لأنه التزم بالتحليل الدقيق، واحترام ذوق القارئ، والسعي إلى كشف أسرار “الصنعة” الفنية، لذلك بقيت صفحاته تشعُّ إلى اليوم، وتصلح أن تكون مرآة لمن أراد أن يتعلّم البيان، أو يكتب شعراً يُحلّق في عوالم الخلود الإبداعي،، فالخلود لله وحده.
…………
يسري الخطيب