وسط دخان الحروب وصراخ الضحايا في بقاع عديدة من العالم، وفي الوقت الذي تُزهق فيه الأرواح وتُهدم فيه المدن، نشهد في الجهة الأخرى من الكوكب جماهير تحتفل، وأضواء الملاعب تلمع، ومليارات الدولارات تُنفق ببذخ على لعبة تُعد الأكثر شعبية عالميًا: كرة القدم.
لكن، هل تحوّلت هذه الرياضة التي تجمع الناس، إلى «مُخدر جماهيري» يصرف الأنظار عن القضايا الإنسانية، ويُستغل لتلميع صور أنظمة استبدادية؟
بين المتعة والتغييب:
كرة القدم، في جوهرها، رياضة جميلة توحّد الشعوب وتمنحهم فسحة من الأمل والفرح وسط الحياة اليومية القاسية. لكن الاستخدام السياسي لهذه اللعبة ليس أمرًا جديدًا. كثير من الأنظمة القمعية استخدمتها كأداة «تخدير ناعم» لصرف انتباه الناس عن الأزمات السياسية والاجتماعية.
في الوقت الذي يعاني فيه ملايين البشر من الحروب، التهجير، الإبادة، والمجاعات، يتم استثمار مئات الملايين في شراء اللاعبين، بناء ملاعب فارهة، وتنظيم مهرجانات رياضية ضخمة تحت لافتة «الترفيه».
المثال الصارخ: كأس العالم 1978 في الأرجنتين
واحدة من أكثر اللحظات الجدلية في التاريخ الكروي كانت كأس العالم 1978، والتي استضافتها الأرجنتين في ظل حكم عسكري دموي بقيادة الجنرال خورخي فيديلا.
تزامن تنظيم البطولة مع «الحرب القذرة» في البلاد، والتي شهدت اختفاء وتعذيب وقتل آلاف المعارضين السياسيين.
ورغم الانتقادات الدولية، أصر النظام العسكري على إقامة البطولة كـ«غطاء شرعي» ووسيلة لتحسين صورته أمام العالم.
المباراة الشهيرة بين الأرجنتين وبيرو، التي انتهت بفوز الأرجنتين 6-0 لتتأهل إلى النهائي، أثارت شبهات التلاعب والتواطؤ، خاصة بعد تقارير تحدثت عن صفقات اقتصادية بين النظامين.
كانت النتيجة كافية لإبعاد البرازيل وتأهل أصحاب الأرض، في واحدة من أكثر الوقائع الشائكة في تاريخ المونديال.
مليارات تتدفق.. ودماء تُهدر:
اليوم، تستمر الظاهرة:
ميزانيات ضخمة تُخصص للمنتخبات وتنظيم البطولات.
صفقات لاعبين تتجاوز أحيانا ميزانيات دول نامية.
احتفالات شعبية هائلة تملأ الشوارع بعد كل فوز.
وفي المقابل، تكاد تختفي القضايا الإنسانية عن التغطيات الإعلامية أثناء تلك الفترات. يغيب الحديث عن الإبادة في فلسطين، التطهير العرقي في السودان، المجاعات في أفريقيا، والاعتقالات السياسية في بعض الدول المضيفة للبطولات.
هل الخلل في اللعبة أم في استخدامها؟
اللوم لا يقع على اللعبة ذاتها، بل على من يُحرك خيوطها.
تتحول كرة القدم من مجرد «لعبة» إلى أداة سياسية واقتصادية وإعلامية تخدم مصالح القوى النافذة. تستخدم كـ «عازل شعوري» بين الشعوب وواقعهم، تُنتج هالة جماهيرية يصعب اختراقها وقت الأزمات.
الخلاصة:
نعم، كرة القدم يمكن أن تكون وسيلة للسلام والتقارب، لكن حين تُستغل لتلميع الأنظمة وإسكات الشعوب وصرفهم عن المظالم والجرائم، فإنها تتحول من رياضة إلى «مُخدر جماهيري».
يبقى السؤال: هل يمكن استعادة كرة القدم من أيدي الأنظمة، وإعادتها إلى أحضان الشعوب كحق أصيل لا وسيلة خداع؟