كتاب محمد نجيب: مرافعة صامتة ضد استبداد ما بعد يوليو
“كنت رئيسًا لمصر” ليس مجرد عنوان لكتاب، بل هو صرخة رجلٍ ظلّ سنوات طويلة يُعامل وكأنه لم يكن، رغم أنه أول رئيس لجمهورية مصر العربية بعد سقوط الملكية عام 1952.
إنه مذكرات الرئيس محمد نجيب، الذي لم تكتب له القيادة الحقيقية، فطُوِيَ اسمه، وجرى عزله عن التاريخ مثلما عُزل عن الحكم.
الكتاب يقدّم وثيقة سياسية وإنسانية نادرة، تتداخل فيها السيرة الذاتية مع شهادات المرحلة، ويكشف بوضوح مدهش أسرار ما جرى في كواليس السلطة عقب ثورة 23 يوليو، وكيف تحولت الثورة من حلم بالحرية والعدالة إلى مشروع لحكم الفرد المطلق تحت غطاء “الشرعية الثورية”.
فكرة الكتاب ومضمونه العام
يروي محمد نجيب في هذا الكتاب كيف صعد إلى موقع الرئاسة دون أن يسعى إليها، ثم كيف أُقصي منها لأنه طالب بالديمقراطية، رافضًا عسكرة الحياة السياسية. يكشف عن صراعات داخل مجلس قيادة الثورة، خاصة بينه وبين جمال عبد الناصر، ويوضح كيف بدأ التنازع حول طبيعة الحكم: هل تبقى مصر دولة مدنية ذات مؤسسات؟ أم تتحول إلى جمهورية يحكمها العسكر بقانون القوة؟
الكتاب ليس بكائية على مجد ضائع، بل صرخة منسيّ ينقلها التاريخ الآن بصوت هادئ، لكنه دامغ.
فصول الكتاب
ينقسم الكتاب إلى عدة محاور وفصول، أهمها:
1- قبل الثورة
يستعرض فيه نجيب نشأته، والتحاقه بالجيش، وخبراته العسكرية، خاصة في فلسطين 1948، التي أكسبته احترامًا واسعًا بين الضباط.
2- الطريق إلى 23 يوليو
يروي فيه كيف انضم إلى تنظيم الضباط الأحرار، وكيف اختير قائدًا لحركة الجيش رغم أنه لم يكن من المؤسسين، بل بسبب مكانته العسكرية.
3- أيام الجمهورية الأولى
يسلّط فيه الضوء على لحظة إعلان الجمهورية، وتوليه رئاسة الدولة، وكيف كانت علاقته مضطربة منذ البداية مع رفاق الثورة الذين رأوا فيه زعيمًا مؤقتًا.
4- معركة الحكم والوصاية
يعرض فيه بداية الخلاف مع عبد الناصر، خاصة حول فكرة العودة إلى الحياة البرلمانية، ودور الجيش في الدولة.
5- العزل والإقامة الجبرية
يصوّر فيه بمرارة تفاصيل إخراجه من الحكم دون محاكمة، وعزله في منزل صغير بالمرج، وحرمانه من زيارة أصدقائه أو حتى حضور جنازة زوجته.
6- نظرة إلى الثورة بعد عقود
يُقيّم فيه تجربة يوليو، وينتقد التحوّل من التحرير إلى التسلط، ومن الحكم باسم الشعب إلى حكم فوق الشعب.
أهم المقولات من الكتاب
“لم أكن أطمح إلى سلطة، بل إلى شرف أن أخدم بلادي.. لكنهم أرادوا رئيسًا بلا رأي، وصورة بلا مضمون.”
“كنا نحلم بالديمقراطية، فإذا بنا نصنع دولة بوليسية جديدة، لا تقل قمعًا عن النظام الذي ثرنا عليه.”
“كان عبد الناصر لا يريدني رئيسًا، بل واجهةً حتى يستتب له الحكم. وعندما طالبت بالدستور والبرلمان، أزاحني.”
“عزلوني عن الوطن، فنسيتني الأجيال.. لكن التاريخ لا ينسى.”
قيمة الكتاب وأهميته
تنبع أهمية الكتاب من كونه شهادة حية من داخل الثورة لا من خارجها، ومن رجلٍ وقف على رأس الدولة، ثم نُزع منها بالقوة. لم يكن نجيب مجرد رئيس صُدفة، بل كان صوتًا مختلفًا داخل منظومة انحرفت عن وعودها الأولى.
الكتاب يمثل رثاءً مبكرًا لفكرة الجمهورية الديمقراطية التي لم تولد أصلًا، ويكشف كيف انتصر منطق السلاح على منطق السياسة. كما يفضح النواة الأولى للدولة الأمنية التي حكمت مصر عقودًا طويلة باسم الثورة.
محمد نجيب
وُلد عام 1901 في السودان لأبٍ مصري وأم سودانية.
التحق بالكلية الحربية عام 1918، وكان من أوائل الضباط الحاصلين على ماجستير في العلوم العسكرية.
أصيب في حرب فلسطين ثلاث مرات، ونال شهرة واسعة داخل الجيش.
قاد حركة الجيش في يوليو 1952، وتم إعلان الجمهورية تحت قيادته في يونيو 1953.
أُقصي من الحكم في نوفمبر 1954، ووُضع تحت الإقامة الجبرية حتى 1971.
توفي في 28 أغسطس 1984، بعد أن أعيد له الاعتبار بشكل رمزي.
البُعد السياسي للكتاب
كتاب “كنت رئيسًا لمصر” هو توثيق صريح لفترة مسكوت عنها في التاريخ الرسمي، ويُظهر حجم التناقض بين شعارات الثورة وممارساتها. يعرض صورة الرئيس الذي أراد حكمًا مدنيًا، فكان جزاؤه النفي الداخلي والصمت الرسمي، في حين صعد آخرون على أكتافه وأحلامه.
ويُقرأ الكتاب اليوم باعتباره إنذارًا مبكرًا بما جرى لاحقًا في تاريخ مصر: سيطرة المؤسسة العسكرية، تهميش الإرادة الشعبية، واختزال الوطن في شخص القائد الواحد.
الثورة التي أكلت أول رئيس لها
“كنت رئيسًا لمصر” ليس فقط عنوان كتاب، بل صيحة من قلب الظلم السياسي، تنبض بالمرارة والكرامة في آن. محمد نجيب لم يكن سياسياً محترفًا، بل ضابطًا نظيف اليد، نقي النية، آمن بأن الشعب يستحق أفضل من الطغيان، فدفع الثمن وحده.
ولعل كتابه يُقرأ اليوم لا باعتباره مذكرات رجل، بل وصية مكتوبة من أجل وطنٍ لا يزال يبحث عن جمهوريته الأولى.