في مطلع القرن العشرين، طرح المفكر اللبناني عمر فاخوري سؤال النهضة العربية في كتابه “كيفَ ينهضُ العَرَبُ؟”، مستنكرًا تخلُّفَ الأمة، بينما يتقدم الغرب. اليومَ، وبعد مرور أكثر من قرن، نجد أنفسنا أمام السؤال المؤلم نفسه، بل أمام واقع أكثر إيلامًا، فما الحلّ إذن؟ الجواب لا يزال كما رآه فاخوري الشاب: ثورة ثقافية تعيد الاعتبار للعقل والهوية، وبناء رابطة قومية حقيقية تقوم على التسامح والمواطنة، وإحياء اللغة العربية ليس كلغةٍ تخاطب فحسب، بل كلغةِ تفكيرٍ وإبداع. فالأمة التي لا تحترم لغتها لا تحترم نفسها، والتي تتنكّر لتراثها تتنكّر لمستقبلها.
ما قال به عمر فاخوري لا يزال راهنًا، أكّده أ. د. عيسى عودة برهومة، الذي انبرى لإصدار طبعة جديدة للكتاب، تليق بقيمته التّاريخيّة، متحرِّرةً من الشوائب.
الكتاب نفسه، وقد صدرت حديثًا عن “الآن ناشرون وموزعون”، في الأردن (2025)، كتب الناقد الدكتور فيصل درّاج تصديرًا له، وفيه يقول: “طرح فاخوري سؤال النهضويّين العرب جميعًا: لماذا تقدّم الغرب وتأخّر العرب؟ ولماذا كلما زاد الغربيّون تقدمًا زاد العرب تأخرًا؟ ينطوي السؤال على احتجاج عَقْليّ مشروع، فقد كان للعرب ذات مرة أمجادهم، بقدر ما يتضمن شعورًا بالغضب وارتباكًا أمام الكرامة الذاتيّة، ذلك أن العربيّ يشعر بالاحتقار الذاتيّ وهو يرى أمّته تخرج من التاريخ، كما لو كانت عبئًا على الإنسانيّة المتقدِّمة، فلا دور للعرب، اليوم، في التّقدُّم العالميّ، ولا دور لهم في الثّورات التقنيّة المتلاحقة، ولا حظّ للشعوب العربيّة من حقوق الإنسان، والشواهد كثيرة، ولا هي بقادرة على الدفاع عن حقوقها القوميّة التاريخيّة، فتكتفي بالبلاغة الفارغة وتتوسّل آخرين للدفاع عنها، لن يقوموا بشيء على أية حال.
قرأ عمر فاخوري، في سياقه، آثار الاستبداد العثمانيّ التي تكشّفت في الجهل والأُميّة واحتقار الجنس العربيّ، وفي تلك العروة الوثقى بين سلطة الثروة والسلطة ـ الثروة، كما لو كان الوالي النبيه هو السارق الفطين… عاين عمر فاخوري ما عاين معتمدًا على مراقبة المعيش وإحساسه الإنسانيّ وثقافته الراقية المبكرة، التي أتاحت له المقارنة والمفاضلة والفضول المعرفيّ.
السؤال الثاني، وهو ملحق بالأول وامتداد له: ما الذي دفع الدكتور عيسى برهومة إلى العودة إلى كتاب فاخوري؟ الجواب هو: السياق الراهن، الذي لم يغيّره قرن من الزمن وأكثر عن السياق الأول، بل هو أكثر منه دمارًا وحُلكةً وسوادًا وبؤسًا عن سياق 1913”.
وخلال تقديمه للكتاب، يُبين أ. د. عيسى عُودة برهومة أن “مآلات النهضة والتّقدُّم والحداثة والمستقبل عند العرب سُؤالات ما تزالُ تنداحُ في نَفْسِ جُلّ مفكّر أو مثقف عربيّ أو قل: جُلّ منشغلٍ بقضيّة العرب المعاصرة، منذ قرنٍ كامل، أي منذ فواتح القرن المنصرم، على نحو يتّصل بموقعهم اليومَ من الدُّنيا، وزمانهم العَذْب المنصرم، وعهودهم الطّيّبات الفوائت، حين كانَ العرب لا ينفكّون عن مزاحمة أرقى الأمم في مجالات العلم والمعرفة والأخلاق”.
وفي السياق هذا جاءت دعوة عمر فاخوري المصوغة في هذا الكتاب على سبيل الإجابة عن هذا السُّؤال وما يُغنيه من أسئلةٍ شائكة ومقلقة، إذ تبدّى له أنّ النهضة العربيّة موصولة بحبل سُرّي لا ينقطع بالجنس العربيّ، إذ يمثِّل هذا الكتاب رسالة في دوافع النهضة وعوامل السقوط، ودور العروبة بوصفها جِنْسًا وأرومةً وعِرقًا في سبيل تحقيق هذه النهضة المرجوّة.
وعليه فإنّ الجنس العربيّ يمثّل عند فاخوري المعوَّل الرّئيس للنهضة، فهو جنسٌ ينماز بخصائص ليس لها نظائر في أمم الدُّنيا الأخرى، وبذا فإنّ تقديس العروبة هو مبعثُ النهضة وسبيلُها الأوحد، وهو ما يفتتح به فاخوري كتابه ويصرّ عليه إصرارًا دائبًا بقوله: “لا ينهضُ العربُ إلّا إذا أصبحت العربيّة أو المبدأ العربيُّ ديانةً لهم”.
وهكذا حاول عُمَر فاخوري من خلال هذا الكتاب، وهو الشّاب العربيّ المتّقد عروبةً وعنفوانًا وثقافةً واطّلاعًا على تجارب الأمم الحيّة، أنْ يجليَ للعرب إجاباتٍ قُصاراها الكشف عن طرائق نهضات الأمم، وأسباب وثباتها، ومباعث تطوُّرها، ينزع في ذلك جُلّه عن قوس عروبيّة، متعصّبةٍ للجنس العربيّ، مأخوذةٍ بالقوميّة، وتفوّقِ الدّم العربيّ على سائر الأمم.
ويضيفُ برهومة: “ولا ريب أنّه قد ساءَ عمر فاخوري هذا الفتى القادم من أقاصي قُرى لبنان من قرية التحتا حال أُمّته إذّاك، إذ كانت مُهلهلة، ضعيفةً، مُفكّكةً، لا قُوتُها مما تزرع، ولا لَبْسها مما تنسج، ولا فكرها مما تكتب، ولا لسانها عربيّ مُبين، وهي من فوق ذلك ومن تحته تئنُّ تحت نير الاستعمار العثمانيّ. ويبدو أن هذا الفتى قد حَلُمَ أحلامًا كبيرةً بأن تعود لحواضر أمته المجيدة في بغداد، وقرطبة، وقاهرة المعزّ، ودمشق بني أميّة، زهوُ الأيام الفائتات، يحدو ذلك بنزعة قوميّةٍ عارمةٍ شديدة”.
تجدر الإشارة إلى أن عمر فاخوري (1314-1365هـ /1896-1946م)، كاتب مبدع، فيه روح شاعر مُلْهَم، وأديب لبنانيّ موسوعيّ الثقافة والفكر، ولد وتوفي ببيروت، التي تعلّم فيها، وهو من بلدة (محلّة البسطة التحتا) اللبنانيّة، وهي بلدة أمضى فيها صباه وشبابه، فكتب ونشر مقالاته عن القوميّة العربيّة، وأصدر عام 1913 أو حول تلك العام كتابه عن العرب الموسوم بـــ«كيف ينهض العرب؟«.
برهومة نفسه أستاذ اللسانيات في الجامعة الهاشميّة، الأردن. وهو عضو رابطة الكتاب الأردنيين. عضو الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب. عضو اتحاد كتَّاب آسيا وأفريقيا. له ما يزيد على أربعين بحثًا محكمًا في مجلات علميّة. شارك في كثير من المؤتمرات والندوات الدوليّة والإقليميّة والمحليّة. نال عددًا من الجوائز، منها: جائزة التذوق الإبداعيّ عن حقل المقالة الجامعة الأردنيّة، 1992. جائزة الجامعة الأردنيّة للتفوق العلميّ، 2001. جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي لأفضل كتاب محقق، مؤسسة السويدي، أبو ظبي- لندن، 2022.
له مؤلفات، منها: «اللغة والجنس، حفريات في الذكورة والأنوثة»، «ذاكرة المعنى، دراسة في المعاجم العربية»، «صراع القيم الحضارية، دراسة في خطاب ما بعد الحادي عشر من أيلول»، «كتاب اللغة العربية وأسئلة العصر»، «معجم المرأة»، «مقاربات في الخطاب والحجاج»، «مرايا المتخيل، في العلاقة بين الشرق والغرب»، «تعليم اللغة للأبناء في المَهاجر»، «المرجع في اللسانيات»..