صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب كتاب بعنوان “القاهرة في الحرب العالمية الثانية 1939 – 1945” من تأليف المؤرخة البريطانية أرتميس كوبِر، وترجمة الدكتور محمد الخولي.
ويُعد هذا العمل شهادة تاريخية نادرة توثق مرحلة مفصلية في تاريخ مصر، حين تحولت القاهرة من عاصمة إقليمية إلى مركز استراتيجي عالمي، تحتضن كبار القادة وتدير أخطر العمليات العسكرية والاستخباراتية في زمن الحرب العالمية الثانية.
مضمون الكتاب وأبعاده
لا ينظر الكتاب إلى الحرب من زاوية عسكرية بحتة، بل يقدم صورة شاملة للقاهرة كمدينة نابضة بالتناقضات: بين القصر الملكي الذي حاول التمسك بسلطته، والوجود البريطاني الطاغي الذي حكم قبضته على السياسة المصرية، وبين حياة الناس اليومية التي تداخلت مع وجود عشرات الآلاف من الجنود الأجانب، وبين النخبة المثقفة التي وجدت في الحرب فرصة لطرح قضية الاستقلال.
ويكشف المؤلف أن القاهرة لم تكن مجرد قاعدة عسكرية، بل كانت أيضًا مسرحًا دوليًا مفتوحًا، شهد المؤتمرات الكبرى مثل مؤتمر القاهرة عام 1943، الذي جمع روزفلت وتشرشل وتشيانغ كاي شيك، كما كانت مركزًا استخباراتيًا يضج بالجواسيس، وميدانًا ثقافيًا شهد تفاعلًا كثيفًا بين المصريين والغرباء.
أهم الفصول والقضايا
1- مصر تحت السيطرة البريطانية: يوضح الكتاب كيف كانت مصر – رغم استقلالها الشكلي – رهينة القرار البريطاني، وكيف تعامل الملك فاروق مع هذا الوضع المربك.
2- الحياة اليومية في زمن الحرب: يتتبع التحولات التي شهدتها الأسواق، والمقاهي، والسينما، والمسرح، وتأثير التقنين الغذائي والظروف الاقتصادية على المجتمع.
3- المخابرات والجاسوسية: يستعرض نشاط أجهزة الاستخبارات الأجنبية في القاهرة، حيث تنافست بريطانيا وألمانيا النازية على كسب المعلومات وتجنيد العملاء.
4- المؤتمرات الدولية بالقاهرة: يرصد أجواء اللقاءات التي جرت على أرض مصر بين قادة الحلفاء، والتي حددت مصير الحرب في الشرق الأقصى وشمال إفريقيا.
5- انعكاسات الحرب على المصريين: يوضح كيف ساهمت الحرب في إحياء الوعي الوطني، وألهمت الشباب والنخبة المثقفة لمواجهة الاحتلال البريطاني، وصولًا إلى ثورة يوليو 1952.
أبرز المقولات والأفكار
تصف المؤلفة القاهرة بأنها “عاصمة الحرب السرية”، حيث اختلط الجنود بالدبلوماسيين والجواسيس والسكان المحليين في شبكة معقدة من العلاقات.
تؤكد أن الحرب لم تكن مجرد معاناة اقتصادية، بل كانت لحظة إعادة تشكيل وعي وطني، إذ أدرك المصريون أن وجود القوى الكبرى على أرضهم يمكن أن يكون ورقة ضغط في معركتهم من أجل الاستقلال.
ترى أن هذه المرحلة كانت منطلقًا حاسمًا للتحولات السياسية التي انفجرت لاحقًا، فمصر ما بعد الحرب لم تعد هي مصر ما قبلها.
أهمية الكتاب
تكمن أهمية هذا الكتاب في أنه يجمع بين السرد التاريخي والتحليل الاجتماعي والثقافي، ليكشف صورة بانورامية نادرة عن القاهرة في الأربعينيات. فهو لا يقتصر على القادة والجيوش، بل يروي أيضًا تفاصيل حياة الناس، ويصف كيف أصبحت القاهرة – دون مبالغة – قلب العالم في زمن الحرب.
كما يشكل مرجعًا مهمًا للباحثين والمهتمين بتاريخ مصر الحديث، خاصة أنه يقدم رؤية من زاوية غربية مدعومة بالوثائق والشهادات.
عن المؤلف والمترجم
أرتميس كوبِر (Artemis Cooper): مؤرخة بريطانية متخصصة في التاريخ الأوروبي الحديث، اشتهرت بكتاباتها عن الحرب العالمية الثانية وتداعياتها على الشرق الأوسط.
محمد الخولي: مترجم مصري بارز، له إسهامات واسعة في ترجمة الكتب الفكرية والتاريخية، عُرف بدقته اللغوية وأسلوبه السلس الذي قرّب هذا العمل للقارئ العربي.
مقارنة مع الكتابات العربية عن المرحلة
رغم أن كتاب كوبِر يقدّم منظورًا غربيًا للأحداث، فإن عددًا من المفكرين والمؤرخين المصريين تناولوا نفس الحقبة من زوايا أخرى:
عبدالرحمن الرافعي في كتبه عن الاحتلال البريطاني، أبرز كيف كانت الحرب سببًا في تصاعد الروح الوطنية المصرية.
أحمد حسين مؤسس “مصر الفتاة”، دوّن مذكراته التي تكشف عن موقف الحركة الوطنية من الحرب والصراع مع الاستعمار.
كما تطرقت بعض كتابات طه حسين والعقاد إلى انعكاس الحرب على الثقافة المصرية، حيث اختلط الأدب بالسياسة في تلك السنوات.
وهكذا يضيف كتاب “القاهرة في الحرب العالمية الثانية” طبقة جديدة من الفهم، تكمل ما كتبه المؤرخون العرب، وتمنح القارئ رؤية شاملة تشمل الداخل والخارج معًا.
البعد السياسي والفكري
يمثل هذا الكتاب وثيقة توضح كيف كانت الحرب العالمية الثانية نقطة تحول في التاريخ المصري. فهي كشفت هشاشة الاستقلال السياسي، وأطلقت شرارة الحركات الوطنية، وأعادت القاهرة إلى قلب المشهد الدولي. لقد اجتمع في شوارعها ملوك وقادة، وجواسيس وصحفيون، وشهدت كيف يمكن لمدينة واحدة أن تصبح مسرحًا للصراع بين القوى العظمى، وفي الوقت ذاته مهدًا لبزوغ حلم التحرر الوطني.
القاهرة في الحرب العالمية الثانية
إن كتاب “القاهرة في الحرب العالمية الثانية” ليس مجرد تأريخ لوقائع عسكرية، بل هو مرآة لمدينة تعيش لحظة استثنائية بين الحرب والاستقلال. ومن خلاله يدرك القارئ أن القاهرة لم تكن مجرد متفرج على أحداث العالم، بل كانت في صميمها، تصوغ وتُصاغ، حتى خرجت من أتون الحرب وهي تمهد الطريق لميلاد مصر الجديدة.