في كتاب بالغ العمق والإثارة، يعود المفكر والاقتصادي الفرنسي جاك أتالي إلى جذور العلاقة التاريخية التي جمعت اليهود بالمال، كاشفًا كيف تحوّل هذا الشعب من جماعات مشتتة في المنافي إلى أصحاب أكبر نفوذ مالي في العالم. عنوان الكتاب كاشف بذاته:
“اليهود والعالم والمال: التاريخ الاقتصادي للشعب اليهودي”، وهو عمل يجمع بين السرد التاريخي والتحليل الديني والسياسي والاقتصادي، ليقدّم رؤية جريئة حول الدور الذي لعبه المال في صياغة هوية اليهود، ودورهم في صياغة العالم.
المال وطنًا ودينًا
يرى أتالي أن اليهود لم يكونوا في جوهرهم “شعب مال”، ولكن الظروف التاريخية والسياسية والدينية دفعتهم إلى هذا التخصص. فقد وجد اليهود في المال لغةً لا تُنسى، ووطنًا لا يُصادر، ودينًا لا يُكفر به.
وفي زمن اضطهادهم وحرمانهم من تملك الأرض أو حمل السلاح، لم يكن أمامهم إلا الاشتغال بالتجارة، والربا، وتدوير الأموال، وهي مهن كانت تُحتقر حينًا وتُستثمر حينًا آخر.
الاقتصاد كوسيلة بقاء وهيمنة
يتتبع الكتاب مسار التحوّل من المال كوسيلة للبقاء، إلى المال كأداة سيطرة ونفوذ عالمي. فالكاتب يوضح كيف تحوّلت أدوات الدين والقروض وأسواق البورصة إلى وسائل لتوجيه سياسات الدول الكبرى، والتحكم في الحروب، وحتى في تشكيل التحالفات.
ولا يخفي أتالي أن الاقتصاد اليهودي كان، في بعض الحالات، أداة لتدمير بعض الدول، أو دفعها إلى الانهيار من خلال الإغراق في الديون، ثم الهيمنة على قرارها السياسي والمالي.
فصول محورية في الكتاب:
1- من إبراهيم إلى الربا: كيف أسست التوراة لنظام اقتصادي داخلي خاص باليهود، يقوم على تحريم الربا داخل الجماعة، وإباحته مع غيرهم.
2- الشتات والتبادل: الشتات لم يكن ضعفًا، بل فرصة لبناء شبكة تبادل مالي وتجاري عالمية عبر المنافي.
3- من المحرقة إلى بورصة نيويورك: كيف تحوّل اليهود بعد المأساة الأوروبية إلى قادة المال في أمريكا والعالم.
4- المال كدين جديد: أطروحة جريئة ترى أن المال صار الدين الجديد للعالم، واليهود هم كهنته.
5- السيطرة من خلف الستار: نفوذ اللوبيات الاقتصادية اليهودية في مؤسسات مثل البنك الدولي، و”غولدمان ساكس”، و”روتشيلد”، وغيرها.
أبرز المقولات من الكتاب:
“المال كان لليهود في الشتات وطنًا لا يُصادر، ودينًا لا يُكفر به”.
“كل اضطهاد كان يعني لليهود بداية نشاط اقتصادي جديد”.
“في عالم اليوم، لا تحتاج إلى جيش لتحتل بلدًا.. يكفي أن تملك ديونه”.
“حين تكون الدولة مدينة، يصبح صاحب الدين هو الحاكم الحقيقي”.
“المال اليهودي صنع إمبراطوريات وأسقط ممالك، وأعاد كتابة خرائط دون حرب”.
السيطرة الاقتصادية وتدمير الدول
يناقش الكتاب، بشكل غير مباشر، دور الاقتصاد اليهودي في إسقاط عدد من الدول الحديثة، من خلال:
إغراق حكومات في الديون ثم فرض الشروط الاقتصادية والسياسية عليها عبر مؤسسات مالية عالمية.
توجيه قرارات الحرب والسلم من خلف الستار، خاصة في الولايات المتحدة وبريطانيا.
احتكار الإعلام والتمويل في الغرب، وتوجيه الرأي العام لخدمة مصالح إسرائيل.
تفكيك الاقتصاديات النامية عبر خطط “الإصلاح الاقتصادي” التي تقودها نخب مالية يهودية.
قراءة متوازنة
ورغم ما يحمله الكتاب من كشف لديناميات السيطرة الخفية، فإن جاك أتالي لا يكتب بروح المؤامرة أو التحريض، بل يُسلّط الضوء على واقع تاريخي معقد. فهو يعتبر أن المال لم يكن وسيلة اضطهاد لليهود فحسب، بل كان أيضًا وسيلتهم في مقاومة الانقراض، ثم أصبح سلاحهم الفعّال في التفاوض، فالنفوذ، ثم السيطرة.
عن المؤلف
جاك أتالي (مواليد 1943)، اقتصادي ومفكر فرنسي من أصل يهودي جزائري، شغل منصب المستشار الخاص للرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، وأسس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، وكتب عشرات الكتب في الفكر والمستقبل والسياسة والاقتصاد والدين.
أهمية الكتاب
يُعد مرجعًا فريدًا في تفكيك العلاقة بين المال والدين والسياسة.
يفسر جوانب من النفوذ اليهودي العالمي دون الانجرار لخطاب الكراهية.
يفتح باب النقاش حول الهيمنة المالية في عصر العولمة، ومن يتحكم فعليًا في مصير الدول.
يعيد قراءة التاريخ اليهودي من منظور غير توراتي، بل اقتصادي وواقعي.
إن “اليهود والعالم والمال” ليس كتابًا عن طائفة، بل عن منظومة قوة مالية عالمية أعادت تشكيل العالم، ولا تزال.
إنه كتاب يهم القارئ العربي، لا ليتبنى ما فيه، بل ليفهم خريطة العالم من جديد، من زاوية المال والنفوذ..