في كتابه الصادم لعبة الأمم (The Game of Nations)، يزيح مايلز كوبلاند، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA)، الستار عن واحدة من أكثر فترات الشرق الأوسط تقلبًا وغموضًا، مقدِّمًا شهادة فريدة من داخل الغرف المغلقة لصناعة القرار الأمريكي، وكيف حُكمت دول عربية من وراء الستار، ليس عبر الجيوش وحدها، بل عبر الدعاية والانقلابات وصناعة الزعماء.
لعبة المصالح.. لا الأصدقاء
كوبلاند، الذي عمل في قلب الشرق الأوسط خلال الخمسينيات والستينيات، يكشف في كتابه كيف تعاملت الولايات المتحدة مع المنطقة كلوحة شطرنج ضخمة، تُحرّك فيها البيادق حسب المصالح الأمريكية لا المبادئ. لم تكن السياسات ناتجة عن فهم عميق للثقافة أو التاريخ العربي، بل عن تقديرات باردة: من يمكنه أن يُنفذ لنا الأوامر؟ ومن يجب إزاحته؟
يروي المؤلف تفاصيل تدخلات أمريكية حساسة، من دعم انقلاب 1953 في إيران، إلى صعود جمال عبد الناصر في مصر، وكيف تم تشكيل أنظمة حكم بأكملها لخدمة مشروع الهيمنة الأمريكية، عبر أدوات السياسة الناعمة (كالإعلام وتجنيد النخب) والسياسة الخشنة (الانقلابات والدعم العسكري والاقتصادي المشروط).
شهادة من الداخل.. لا من خيال الروائيين
أهمية الكتاب تكمن في كونه ليس تحليلاً نظريًا أو استشرافًا، بل اعترافًا صريحًا كتبه رجل شارك في التخطيط والتنفيذ. كتبه كوبلاند بلغة هادئة لكنها جارحة، واضعًا أمام القارئ خلاصة عقلية الدولة العميقة الأمريكية في تعاملها مع الشرق الأوسط، وفيه قال:
“في الشرق الأوسط، لا وجود لصديق دائم، بل لحليف مؤقت.”
“السيطرة على الأمم لا تحتاج إلى احتلالها، بل إلى احتلال وعي نخبها.”
“السياسة الأمريكية لا تهمها النوايا الطيبة للحكام، بل مدى قابليتهم للتوجيه.”
سيرة رجل من قلب العاصفة
مايلز كوبلاند (1916-1991)، ضابط استخبارات أمريكي بارز، شارك في الحرب العالمية الثانية، ثم انضم إلى وكالة المخابرات المركزية مع تأسيسها. تخصص في شؤون الشرق الأوسط، وشارك مباشرة في رسم السياسات الأمريكية بالمنطقة، كما ارتبط بعلاقات وثيقة بعدد من زعماء العرب، وكان شاهدًا ومشاركًا في انقلابات وصياغات خفية لمستقبل المنطقة. بعد تقاعده، كتب عدة مؤلفات كان أبرزها لعبة الأمم، الذي أثار ضجة كبيرة وقت صدوره، وفتح الباب أمام أدبيات “نظرية المؤامرة” بمستندات فعلية.
البُعد السياسي.. وأثره الممتد حتى اليوم
يرى كثيرون أن الكتاب لا يروي تاريخًا ماضيًا بقدر ما يشرح الحاضر؛ فالكثير من السياسات الأمريكية الراهنة في العالم العربي لا تزال تُمارَس بالعقلية ذاتها التي وصفها كوبلاند قبل عقود. كما أن فصول الكتاب تُظهر كيف كانت الديمقراطية مجرد أداة ضمن اللعبة، تُستخدم حين تُناسب المصالح، وتُجهَض حين تتعارض معها.
في لعبة الأمم، يُقدِّم كوبلاند تفسيرًا واقعيًا – بل قاسيًا – لكيفية صياغة الخارطة السياسية العربية، ويُثبت أن فهم السياسة الدولية لا يتم عبر متابعة الأخبار فقط، بل عبر قراءة ما كُتب في الظلال.