رغم هول الفاجعة الإنسانية، فإن فهم أسباب ما جرى في ترسين لا يكتمل من دون التوقف عند الطبيعة الجغرافية والبيئية للقرية المنكوبة. فالمكان الذي ابتلع سكانه في لحظات، ليس مجرد تجمع سكني صغير، بل يقع ضمن واحدة من أكثر المناطق وعورة وحساسية جيولوجية في السودان، وهي سلسلة جبل مرة، حيث تتقاطع هشاشة التربة البركانية مع كثافة الأمطار الموسمية، لتجعل أي تجمع سكاني هناك عرضة لكوارث شبيهة.
خلفية عن جبل مرة والنزاع في دارفور
يُعد جبل مرة، الممتد في قلب إقليم دارفور غرب السودان، أحد أبرز الملامح الجغرافية والبيئية في المنطقة. وهو عبارة عن كتلة بركانية ضخمة تتراوح ارتفاعاتها بين 1,200 و3,000 متر فوق سطح البحر، وتنتشر على امتداد مئات الكيلومترات، مشكلةً سلسلة من الوديان العميقة والأخاديد والمنحدرات الحادة. وتتميز تربته بالخصوبة العالية لكنها في الوقت نفسه هشة وعرضة للتآكل والانزلاقات، خصوصًا خلال موسم الأمطار الغزيرة.
من الناحية السكانية، ظل جبل مرة ملاذًا لمئات الآلاف من سكان دارفور الأصليين مثل الفور والزغاوة والمساليت، إلى جانب موجات متعاقبة من النازحين داخليًا بسبب النزاعات المسلحة التي اندلعت منذ عام 2003 بين القوات الحكومية والمجموعات المتمردة. ومع اشتداد الحرب، تحولت القرى الصغيرة المنتشرة في سفوح الجبل إلى ملاجئ جماعية تضم خليطًا من الفارين من العنف، وهو ما زاد من الكثافة السكانية في مناطق تفتقر أصلًا للبنية التحتية والخدمات الأساسية.
جبل مرة… ساحة حرب وكوارث
منذ اندلاع النزاع في دارفور، كان جبل مرة مسرحًا رئيسيًا للمعارك بين القوات الحكومية وحركات التمرد، وعلى رأسها حركة تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور. ويُنظر إلى المنطقة باعتبارها «قلب المقاومة» في دارفور، بسبب وعورة تضاريسها التي تمنح المتمردين قدرة على الاحتماء والمناورة. لكن هذه الطبيعة نفسها جعلت المدنيين الذين احتموا بها عرضة لعزلة قاسية، في ظل غياب تام للمؤسسات الحكومية وخدمات الإغاثة.
وقد ساهمت هذه الظروف في تفاقم هشاشة الأوضاع الإنسانية، إذ يعيش السكان وسط بيئة طبيعية خطرة، دون بنية إنشائية مقاومة للكوارث الطبيعية، ما يجعل أي اضطراب مناخي، مثل الأمطار الغزيرة أو السيول، مرشحًا للتحول إلى كارثة واسعة النطاق كما حدث في قرية ترسين.
الكارثة الحالية في سياق أوسع
انهيار ترسين لا يمكن النظر إليه بمعزل عن الواقع السياسي والإنساني في دارفور. فالقرية المنكوبة كانت تؤوي نازحين فروا من مناطق القتال، ليلقوا حتفهم تحت الأنقاض بدلًا من نيران الحرب. وهو ما يعكس تداخل الكارثة الطبيعية مع الكارثة الإنسانية والسياسية في الإقليم.
ويؤكد مراقبون أن هذه المأساة تسلط الضوء على ثلاثة مستويات من الخطر:
الخطر الطبيعي المرتبط بهشاشة التربة الجبلية وغزارة الأمطار.
الخطر الإنساني المتمثل في نزوح السكان وتكدسهم في مناطق غير آمنة.
الخطر السياسي الناتج عن استمرار النزاع المسلح، والذي يحرم الإقليم من أي خطط حكومية للتنمية أو إدارة الكوارث.
دعوات لإعادة التفكير في مستقبل دارفور
مع تصاعد الاستغاثات المحلية والدولية، يرى محللون أن ما حدث في ترسين يجب أن يكون جرس إنذار مزدوجًا:
داخليًا، بضرورة وقف الحرب والتوصل إلى هدنة إنسانية تسمح للمنظمات الدولية بالوصول إلى المناطق المنكوبة.
وخارجيًا، بضرورة تعزيز خطط التكيف مع الكوارث الطبيعية في السودان، الذي يشهد منذ سنوات تغيرات مناخية قاسية، تتراوح بين موجات الجفاف المدمرة والسيول والانهيارات الأرضية.