د. محمد سيد احمد
في الوقت الذي بدأ فيه البنك المركزي المصري يتجه نحو تخفيف السياسة النقدية عبر خفض أسعار الفائدة، يظل سؤالٌ محوري يطرح نفسه بقوة:
لماذا لا تزال عوائد الأذون والسندات الحكومية عند مستويات مرتفعة؟
هل فقدت أدوات السياسة النقدية قدرتها على التأثير؟
أم أن السوق لديه حسابات أخرى تتجاوز قرار البنك المركزي؟
وما هي التداعيات المحتملة على موازنة الدولة، واستثمارات البنوك، وثقة المستثمرين في أدوات الدين السيادية؟
في هذا المقال، نحاول إيضاح هذا التناقض الظاهري، ونضع بين يدي القارئ رؤية تحليلية لفهم ما يحدث في سوق أدوات الدين الحكومية وتوقع المسار القادم لأسعار الفائدة… فهل نحن بصدد تحول حقيقي في السياسة الاقتصادية؟ أم أننا لا نزال في مربع الحذر؟
لماذا لا تنخفض عوائد الأذون والسندات رغم خفض الكوريدور؟
“نظام الكوريدور (Corridor System) هو نظام تحديد أسعار الفائدة الذي يستخدمه البنك المركزي المصري لإدارة السياسة النقدية، ويتكون من سعرَي الإيداع والإقراض لليلة واحدة، اللذَين يحددان النطاق الذي تتحرك فيه أسعار الفائدة بين البنوك، بما يساهم في ضبط السيولة ومواجهة الضغوط التضخمية.
- استمرار حاجة وزارة المالية للتمويل المحلي:
رغم خفض البنك المركزي للفائدة بمقدار 225 نقطة أساس خلال أبريل 2025، لا تزال وزارة المالية مضطرة إلى تقديم عوائد مرتفعة على أدوات الدين قصيرة وطويلة الأجل لتأمين السيولة المطلوبة لتمويل عجز الموازنة.
- تسعير السوق بناءً على التضخم وتذبذب سعر الصرف:
البنوك والمؤسسات المالية ما زالت تنظر بعين الحذر إلى التوقعات التضخمية المرتفعة، وسيناريوهات عدم استقرار سعر الصرف، ما يدفعها للمطالبة بعوائد أعلى تعكس مستوى المخاطر.
- تراجع نسبي في تدفقات الأجانب للديون السيادية:
على الرغم من بوادر عودة الاستثمارات الأجنبية في أدوات الدين، إلا أن مستويات الدخول ما زالت محدودة، مما يجعل الدولة تعتمد بشكل أساسي على البنوك المحلية التي تطالب بعائد حقيقي موجب.
- أثر خفض الفائدة على أرباح البنوك:
البنوك التجارية تعتبر أدوات الدين الحكومية مصدرًا رئيسيًا للربحية، وخفض أسعار الفائدة المفاجئ قد يضغط على هامش أرباحها، ما يدفعها للضغط من أجل الحفاظ على مستويات عائد مجزية.
توقعات أسعار الفائدة على الأذون والسندات خلال الفترة المقبلة
من المتوقع أن تشهد أسعار الفائدة على أدوات الدين الحكومية تراجعًا تدريجيًا خلال النصف الثاني من عام 2025، خاصة مع سعي الحكومة إلى خفض نسبة العجز في الموازنة وتحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي. بشرط تحقق عدد من الشروط:
- استمرار تباطؤ معدلات التضخم (المعلن رسميًا أقل من 18% بنهاية أبريل 2025).
- استقرار سعر الصرف النسبي.
- ارتفاع الثقة في برنامج الإصلاح المالي والنقدي المدعوم من صندوق النقد الدولي.
- تحسن تدفقات النقد الأجنبي من السياحة، قناة السويس، والاستثمار المباشر.
توقعات قرار لجنة السياسة النقدية الأسبوع المقبل (22 مايو 2025)
تُعقد لجنة السياسة النقدية بالبنك المركزي اجتماعها يوم الخميس الموافق 22 مايو 2025، وفي ضوء المؤشرات الاقتصادية الأخيرة، من المرجح أن تتجه اللجنة إلى تثبيت أسعار الفائدة للأسباب التالية:
- إعطاء فرصة لتقييم أثر خفض الفائدة في الاجتماع السابق.
- تفادي أي إشارات قد تُضعف جاذبية الجنيه أمام المستثمرين.
- الحفاظ على استقرار سوق النقد.
- الحذر من أي تسرع في خفض الفائدة قد يعيد الضغوط التضخمية.
هل يمكن أن يؤدي خفض الفائدة إلى تراجع عوائد الأذون والسندات؟
نظريًا نعم لكن واقعيًا هناك عوامل كثيرة تتداخل حيث أن خفض أسعار الفائدة الأساسية قد يدفع عوائد أدوات الدين للانخفاض، لكن السوق قد يحتفظ بعوائد مرتفعة إذا:
- استمرت الحكومة في التوسع بالاقتراض المحلي.
- لم تتحسن التوقعات التضخمية بشكل كافٍ.
- استمرت البنوك في المطالبة بهوامش ربح مرتفعة لحماية أرباحها
فإن خفض أسعار الفائدة من قبل البنك المركزي قد يؤدي إلى تراجع في سعر العائد على أدوات الدين الحكومي، مما يُنذر بتأثر محافظ استثمارات البنوك في أذون الخزانة، وبالتالي أرباح البنوك منها
رغم خفض سعر الكوريدور من قِبل البنك المركزي، فإن استمرار تمسك الأذون والسندات بعوائد مرتفعة يُعبر عن معادلة معقدة يتحكم فيها: العجز المالي، التضخم والتوقعات المستقبلية، سلوك المستثمرين المحليين وكذا توازنات السوق النقدي
ولذلك، فإن مسار أسعار الفائدة على أدوات الدين سيظل مرهونًا بتوازن دقيق بين السياسة النقدية والسياسة المالية، والثقة في مستقبل الاقتصاد الكلي.