أجاب الكاتب الصحفي جمال سلطان، رئيس تحرير جريدة المصريون، عن السؤال الذي حير الكثيرين حول لماذا رحبت المملكة العربية السعودية بأحمد الشرع الرئيس السوري الجديد، ولم ترحب بالرئيس محمد مرسي، رغم الجذور الإسلامية لكل منهما؟.
وفند سلطان الأسباب الحقيقية لذلك في المقال التالي:-
الملاحظة التي لا تخطئها عين أي مراقب للتطورات الأخيرة في سوريا، أن المملكة العربية السعودية كانت من أوائل الدول التي رحبت بدخول الثوار إلى دمشق، كما رحبت على الفور بالسلطة الجديدة التي كان على رأسها أحمد الشرع، ثم كانت من أولى الدول التي صدقت على شرعية أحمد الشرع كرئيس جديد لسوريا الحرة، كما كانت أول دولة تستقبل الشرع ، الرئيس، في مراسم استقبال مخصصة لقادة الدول، ولقاؤه مع ولي عهد المملكة ورجلها القوي الأمير محمد بن سلمان، مع تعهدات قوية بدعم سلطته ومساعدة سوريا بكل قوة في هذه المرحلة.
هذا كله يعطي انطباعا واضحا عن احتضان المملكة للسلطة الجديدة في سوريا، ورهانها عليها، بل وثقتها في أنها ستكون داعمة للمصالح العربية في المشرق العربي وداعمة للأمن القومي للمنطقة، وأن المملكة قررت أن تلقي بثقلها خلف الرئيس السوري الجديد أحمد الشرع وتدعمه بشكل جدي وكبير، على مختلف المستويات، وفي مقدمتها الاقتصادية، وأيضا الديبلوماسية خاصة نشاطها في توسيع القبول الدولي بشرعيته كرئيس جديد للبلاد .
الانطباعات العامة بين العرب في المنطقة تميل إلى الارتياح الكبير لمجريات الأمور وتطور العلاقات السعودية السورية، والتفاؤل بالمستقبل، لكن ثلاث قوى يبدو أن التطورات سببت لهم قلقا وضيقا متفاوتا، بين التوتر والقلق الشديد، وبين التخوف من تطورات تلك العلاقة، وبين التشكيك في مستقبل تلك العلاقة وقدرتها على الصمود في المقبل من الأيام، وهذه القوى الثلاث هي على الترتيب : إيران “وحلفاؤها في المنطقة بالطبع”، وإسرائيل، وأخيرا جماعة الإخوان المسلمين وخاصة فرعها في مصر، الذي يحمل ضغينة خاصة تجاه المملكة بسبب موقفها الرافض لسلطة الرئيس محمد مرسي رحمه الله، ويتهمونها بالعمل على إسقاطه ومساعدة القائد العسكري عبد الفتاح السيسي.
توتر إيران وحلفائها مفهوم دوافعه، لأن انتصار ثورة سوريا حطم نفوذها في أهم محطة من محطات هيمنتها الإقليمية، سوريا، كما أن التطورات الجديدة توضح بجلاء أن السعودية بدأت في ملأ الفراغ الذي تركه الإيرانيون في الشام، ليس في سوريا وحدها بل وفي لبنان أيضا، أي أن تطور العلاقات بين سوريا الحرة والسعودية يعني خسارة استراتيجية كبرى لإيران، وإنهاء مشروعها التوسعي الخطير في المنطقة، والذي كانت تراهن عليه طويلا، واستثمرت فيه عشرات المليارات من الدولارات، ودفعت من أجله ضريبة الدم من أرواح قادتها وضباطها، كل ذلك يتبخر الآن، وخلال أشهر قليلة تملأ السعودية كامل الفضاء السوري الذي كانت تملؤه إيران.
هجوم إسرائيل على التطور السريع لعلاقات المملكة مع سوريا الحرة مفهوم أيضا، لأن رهان إسرائيل كان على تقسيم سوريا، وتفريغها من مفهوم الدولة ودعم الانفصال الكردي، لتبقى ساحة رخوة للعبث الإسرائيلي، وربما التمدد إن لم يكن هناك عائق جدي، بينما رهان السعودية على وحدة سوريا، وإحياء مفهوم الدولة، وإحياء دور سوريا العربية السنية في حماية الأمن القومي العربي بمفهومه الشامل، أي أن موقف الاثنين : السعودية وإسرائيل، متناقض في سوريا اليوم.
بالنسبة للإخوان، فكما قدمت لا تغفر الجماعة للمملكة أنها عملت على إسقاط تجربة محمد مرسي، وإنهاء مشروع الإخوان بالكامل في المنطقة تقريبا بعد انهياره في مصر، لذلك يكثر النقد من قبل رموز إخوانية للاحتفاء الواسع الذي تبديه المملكة بالرئيس أحمد الشرع، وتكثر المقارنات، لأن مرسي يأتي من جذر حركة إسلامية سلمية في سياقها العام، بينما الشرع يأتي من جذر حركة إسلامية مسلحة وجهادية في سياقها العام، فلماذا قبلت بالشرع ولم تقبل بمرسي ؟.
والحقيقة أن المقارنة على هذا النحو مختزلة، وتتجاهل معطيات أخرى أهم من “الجذر” الذي أتى منه هذا أو ذاك، بل وأهم من انتمائه الإيديولوجي، المعطيات الأهم تتعلق بمصالح الدول وحسابات أمنها القومي، وهنا تكون المقارنات كلها لصالح أحمد الشرع وليست لصالح محمد مرسي، أولا : الشرع صاحب مشروع لإنهاء نفوذ إيران في الشام كله، وقطع دابرها بصورة حاسمة، وهذا يخدم الأمن القومي للخليج العربي بكامله، وفي القلب منه المملكة، بينما مشروع الإخوان في مصر كان ودودا ـ أقولها تجملا! ـ مع النفوذ الإيران في المنطقة، ومتسامحا معه، بل ومدافعا عنه، وهذا ما أفزع المملكة وعواصم خليجية، لأن إيران كانت قد مدت نفوذها فعليا في العراق وسوريا ـ حتى قبل دخول الحرس الثوري ـ ولبنان واليمن، فأن يصل نفوذها إلى عاصمة خامسة بحجم القاهرة، بحجم مصر وقدراتها، كان ذلك مفزعا للغاية، وأعتقد أنه كان حاسما في رفض الخليج ـ باستثناء قطر ـ لمشروع الإخوان وتجربة محمد مرسي.
ثانيا : أحمد الشرع يقود تنظيما صغيرا نسبيا، ومحدد ومحدود جغرافيا، محصور في سوريا، مشروعه كله في سوريا، وليس له أي امتدادات خارجها، كما أنه أعلن منذ اليوم الأول لدخوله دمشق أنه سيحل تنظيمه وبقية التنظيمات وينهي مشروع الثورة ويشرع في بناء دولة، وهذه رسالة شديد الطمأنينة لدول الإقليم وخاصة في الخليج، على عكس تجربة مرسي، لأنها كانت محمولة على مشروع الإخوان، وهو مشروع أممي وله أبعاد تنظيمية دولية، وليس محصورا في مصر، بل إن نفوذه الشعبي له جذور وامتدادات في دول الخليج كافة، وهذا كان مخيفا في ظل فوران المجتمعات العربية في أجواء الربيع العربي، وبدأت تحركات تظهر في هذه العاصمة أو تلك رصدت بطبيعة الحال وسببت قلقا كبيرا على نظم الحكم هناك، خاصة وأنها كانت مستندة إلى قوة وحضور دولة بقدرات مصر السياسية والعسكرية والاستخباراتية لو استقر لهم الأمر، أضف لذلك أن الإخوان تمسكوا بالجماعة والتنظيم حتى وهم في السلطة، ورفضوا حلها، وراوغوا كثيرا في هذا الجانب، فهذا ـ أيضا ـ فارق كبير بين تجربة الشرع وتجربة مرسي .
ثالثا : الشرع فور دخوله دمشق بدأ في إرسال رسائل ذكية للغاية تجاه العواصم المختلفة، بأنه لا يعادي أحدا، وليس داعما لأي حراك ثوري أو غير ثوري في أي بلد آخر، وأن مشروعه هو إعادة بناء سوريا التي خربها النظام السابق، ومنعت سلطاته أي هجوم على أي بلد عربي آخر يصدر من داخل سوريا، رغم ما جره ذلك عليه من نقد، وهذه كانت رسائل تطمئن الجميع بأن مشروع الشرع ليس عدائيا، ولا يحمل أي خطط للتمدد أو الانتشار أو التأثير في نظم الحكم بالإقليم، بالمقابل لم ينتبه الإخوان لتلك الحساسيات، ولم يهتموا بتلك الرسائل الخطيرة، بل على العكس، صدرت من بعض قياداتهم تصريحات وتدخلات وبيانات أثارت فزع عواصم خليجية، لا داعي للاستفاضة في ذكرها وشرحها هنا، لكنها أعطت انطباعات مخيفة في تلك العواصم، أن النظام الجديد سيكون شديد التحرش بها والتدخل في شؤنها، وسيعمل على مناصرة أفرع الجماعة في تلك البلاد بما يهدد نظم الحكم فيها.
أيضا، كان هناك خطأ تاريخي وقع فيه الإخوان، أضر بهم كما أضر بكل الشعوب التي حلمت بغد أفضل مع الربيع العربي، إذ أنه فور ظهور بوادر انتصار الثورات، وانكسار النظم القمعية السابقة، تصدر الإخوان المشهد، بقدراتهم التنظيمية والمالية، مما أعطى انطباعا للآخرين، بأن الربيع العربي أصبح حصانا لجماعة الإخوان، وعندما بدأ ترتيب أحوال الحكم ومؤسساته في دول الربيع العربي بعد انتصار ثوراتها، قفز الإخوان في صدارة مشهد الحكم بل على رأس مؤسسات الحكم، في مصر وليبيا وتونس واليمن مما أعطى انطباعا بأنه تحول إلى “الربيع الإخواني”، وهو ما انعكس قلقا، بل فزعا، في عواصم عربية كثيرة من المحيط إلى الخليج، بدأ بعضهم يقدم بعض التنازلات للمعارضة ـ خاصة الإسلامية ـ لاحتواء التطورات الجديدة، مثل المغرب، والبعض الآخر بدأ يخطط لإنهاء هذا المشروع برمته كما هو الحال في الخليج، وقد كانت الحكمة والبصيرة السياسية تقتضي أن يبتعد الإخوان عن صدارة المشهد في المرحلة الانتقالية، حفاظا على الوليد الجديد وهو ما زال في المهد طري العود، وتفاديا لنشر الخوف والفزع في دوائر قوى إقليمية ودولية تملك إمكانيات وقدرات أكبر من قدرتك على مواجهتها.
سهل أن نطرح التفسيرات أحادية الرؤية، وربما السطحية، لإراحة النفس وتبرئتها من أخطائها في التقدير والإدارة السليمة للفرص التاريخية، ولكن هذا لا يفيد كثيرا، بل لا يفيد أبدا لمن أراد أن يحقق إصلاحا سياسيا أو اجتماعيا، وطرح المسألة على أن السعودية كان لها موقف من التيار الإسلامي ثبت ـ بالتجربة السورية ـ أنه غير صحيح، كما ثبت أيضا من قراءة الخريطة السياسية الحالية للمنطقة أنه وهم، فالسعودية تدعم الإخوان في اليمن، وتدعم الإخوان في السودان، فالقضية ليست حسابات أيديولوجية، وإنما حسابات تتعلق بمصالح الدول وحسابات أمنها القومي، فإذا تقاطعت أنت مع تلك المصالح والحسابات فأنت صديق، وإذا تناقضت معها فأنت عدو، أيا كان انتماؤك الأيديولوجي.
الحياة تجارب، والتاريخ دروس وعبر، والمهم أن نفيد من تلك التجارب، ونذاكر تلك الدروس، للاستنارة بها في خطواتنا نحو المستقبل، ونعترف بالأخطاء التي وقعنا فيها لكي نحسن تفاديها فيما يستجد من فرص، خاصة وأن تلك التجارب، وهذه الدروس، دفع الآلاف فيها أثمانا فادحة، من أعمارهم ومن مصائرهم.