لماذا لا يتحقق التمكين في معاركنا المشروعة رغم عظمة البطولات ووفرة التضحيات؟ 

مضر أبو الهيجاء

الجواب السائد بين الرد المشيخي التقليدي وبين الفهم النبوي:

سؤال معقد وموجع يجيب عليه البعض بالرد التقليدي والسائد، وهو أن ضعف الإيمان وقلة المصلين في المساجد وسوء أحوال العباد وكثرة المظالم المنتشرة بينهم، سبب في فوات النصر رغم التضحيات العظام!

 يعقب السواد الأعظم -لاسيما جزء كبير من الدعاة والوعاظ والمشايخ- بالقول إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فعليكم أن تسارعوا إلى التوبة وإصلاح أحوالكم وما بينكم وما بين الله وعباده ليتنزل النصر ويتحقق الوعد.

إن كل الطرح والجواب السابق هو كلام حق وجزء من الحل، ولكنه يبقى كلاما عاما دون البيان الواجب ولا معاين للمعضلة التي تحول دون النصر، لاسيما أننا شهدنا صلاح أحوال العباد وارتقاء نفوسهم وتقديمهم لأموالهم وفلذات أكبادهم وتركهم لديارهم لله، وذلك في حقبة مهمة من تاريخنا المعاصر، هي حقبة ثورات الربيع العربي المباركة، والتي تجسّد فيها من التجرد والبطولات ما يحدث مثيله الآن في غزة والقدس وجنين.

إن النقص في الجواب السائد عند الدعاة والوعاظ يكمن في قصور الفهم الواجب فهمه كما طرحه وأفهمنا إياه رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، فربط بشكل مباشر بين كمال الايمان والوعي.

نعم ان الإشارة لضعف الإيمان واهتزازه إشارة صحيحة وفي الصميم، ولكن فهمها مختلف بين ما طرحه الرسول صلى الله عليه وسلم وما يطرحه بعض قاصري الفهم من دعاتنا الطيبين!

إن ضعف الإيمان الموجب للهزيمة -كما هو حالنا في عموم الساحات العربية والإسلامية- يكمن في قصور الوعي أو في اهترائه عند القيادات التي تقود الجماهير، سواء أسمت نفسها وطنية أم إسلامية، لاسيما وأنك حينما تقارع السياسة تفاجأ بأن الفروق بين الاسلاميين الحاليين والوطنيين ضعيفة وفي زوايا محدودة وقليلة، وأحيانا تكون خلفيتها أسباب شخصية أو حزبية أو ارتباطات خارجية ! وعلى العكس من ذلك فربما يفاجئك أحد القادة السياسيين الوطنيين في إحدى الساحات الساخنة بموقف متقدم عن حزب وحركة وتنظيم وقائد إسلامي!

 ان هذا لا يعني الإشارة إلى تقدم سوية أحدهما على الآخر، بل مقصود الاشارة إلى وعي أحدهما المتقدم على الآخر، لاسيما وقد تميز بعض الإسلاميين -بكل أسف- حينما قارع السياسة بأنه محدود النظر وسطحي الفهم وقليل التجربة، وأحيانا -وهو العقم السائد- باختزاله لقضايا الأمة في حركته وتنظيمه وشيخه ورقعته الجغرافية، الأمر الذي تسبب بإيذاء حقيقي وعميق لعموم الأمة العربية والإسلامية مقابل مصالح مرجوحة ومنافع موهومة ينالها حزبه وحركته أو بنو قومه وربعه ومن حوله!

وللدلالة على نقص الإيمان الموجب للهزيمة رغم عظمة البطولات ووفرة التضحيات، نتيجة نقص الإيمان المبني على عوج الفهم واهترائه أسوق مثالا حيّا تعيشه الأمة حاليا وتعاين تفاصيله الظاهرة، وتعلم بعض القيادات تفاصيله الخفية، ولكن بعضها يعرف ويحرف والله المستعان!

ايران في الوعي العربي عموما والعقل الفلسطيني خصوصا:

لقد أوقعت بنا وكذبت علينا وخدعتنا إيران، كما غررت بنا حين توهمنا أنها عمود محور المقاومة والأب والداعم والسند ! ثم دفعتنا في خطوة كبيرة للأمام تحت فكرة مهترئة ومخروقة الوعي هي فكرة وحدة الساحات، والتي فرح البعض وتألّق بها، وذلك حين رسمت قوامها في خلدنا ومخيلتنا، بحلف بين فلسطين المقاومة وحزب اللات في لبنان والحشد الشعبي في العراق وسفاح في الشام، وجمعتنا في غرفة عسكرية مشتركة وبوتقة واحدة مع حطب جهنّم الموجب لحلول لعنة الله وغضبه، وليست مجلبة للنصر والتمكين كما يظنّ البعض!

وما أن قامت معركة طوفان الأقصى المشرفة وبدأت دماؤنا تسيل والخيل والفرسان تصول، حتى بالت في أذننا إيران وولت ولها صوت ضراط كالشيطان!

لم يكن أمام إيران من حل لتحفظ صورتها ومكانتها المخادعة أمام جماهير الأمة العربية والإسلامية، التي لا يزال أكثر من نصفها يرفع صورة خامنئي وسليماني والحوثي ونصر الشيطان، إلا أن تحرك عضوها في اليمن بعد أن حاض بضعها في لبنان!

ورغم الوجع الذي لا يفوقه وجع، ورغم أنهار الدماء الزكية التي سالت على أرض غزة والقدس وجنين وطولكرم والخليل ورام الله وكل فلسطين في معركة طوفان الأقصى، ورغم حجم التدمير الذي أنجزته اسرائيل وتتحمل جزءا كبيرا منه إيران المخادعة، والتي عولنا عليها وعلى أذرعها المجرمة .. إلا أن بعضنا وكثير من أبناء أمتنا وقياداتها الوطنية والإسلامية هرعت لتحيي الحوثي بعد أن أطلق الصواريخ، وصرنا نروج له ونحييه، وبدأنا مسلسل الحب الحرام من جديد!

 لم ينظر البعض إلا للظاهر وبشكل مسطّح وفي دائرة ضيّقة، وذلك حين تجاهل ظاهرا أقوى منه في دلالة مشروع إيران وفروعها ووقائعها الدّالة على عدائها الشديد للأمة والدين، وتجاهلنا خطورة مشروعها السياسي والعسكري والاقتصادي والمذهبي الحالي والقادم في المستقبل المتوسط والبعيد!

لم ينظر القوم ولم يعوا برؤيتهم القاصرة وقطرّيتهم المنكرة إلا في حدود اللحظة الراهنة والمساحة المستهدفة، دون النظر لمآلات تمدد هذا الأخطبوط، والذي لا زالت أذرعه تقطر من دمائنا وحرائرنا ومساجدنا وكرامتنا في اليمن والعراق والشام !

ان هشاشة الوعي وفقر الفهم الذي نراه في فلسطين يمكن أن نرى أمثاله بوضوح في التجربة المصرية والعلاقة الملتبسة مع الجيش، وذلك في حقبة الرئيس الشهيد مرسي –رحمه الله وجعله في عليين- ، كما يمكن أن نراه بوضوح في تجربة العراقيين وكيف أسلم البعض أنفسهم للأمريكان والايرانيين وفرّطوا بأرض العراق وشتتوا شعبها المسكين، كما يمكن أن نراه في تجربة السوريين الذين انساقوا خلف الادارة الأمريكية دون رشد ولا ضبط ولا مسؤولية، فعبثت بهم وبدّدت حلمهم وضيّعت الفرصة من بين أيديهم وأفقدتهم القيمة العملية لروعة تضحياتهم، وهكذا قس على اليمنيين الذين كانوا في ضعفهم الشديد متّهمين حتى باتوا اليوم منسيّين وبين توازنات القوى المحلية والاقليمية غير محسوبين !

لماذا الحديث عن الحوثي :

لقد لمع نجم الحوثي في سماء فلسطين، ومن الضروري أن نوضح لأمتنا حقيقة دولة الحوثي الصاعدة، برعاية أمريكية خبيثة وماكرة ! وكنت قد كتبت مع أول إطلاق الحوثي لصاروخ إيراني على الناقلات الغربية في البحر، أن الصواريخ لن تتوقف حتى تشكّل أمريكا في البحر الأحمر قوة عسكرية غربيّة، تقودها بنفسها وتحتل البحر الأحمر وتسيطر على باب المندب وتصبح ركيزة أساسية في ترتيبات أمريكا القادمة في الجزيرة العربية ومحيطها المتوسط والبعيد، لاسيّما والصين ترمق المنطقة عن بعد بعين غائرة  .

الدولة الحوثية خميني الجزيرة العربية القادم :

واليوم أشير بوضوح إلى أن أمريكا وبريطانيا العاقلة – على وجه التحديد – تبني جذورا لازمة لدولة الحوثي باعتباره مكون بلا جذور سياسية تاريخية وسيلعب دورا طليعيّا في الحقبة القادمة، فكان لابد أن يمتطي ظهر المقاومة – وهذا هو الدور الآثم الذي تطوع به البعض بلا وعي ولا مسؤولية – ، كما كان لابد أن يضرب الحوثي من قبل أمريكا – الشيطان الأكبر – ليكسب شرعية حقيقية وتتحشد خلفه جماهير عربية في اليمن وعموم البلاد العربية والإسلامية، وهو ما قد حصل بالفعل، وهو ماض ويكبر ويتعاظم كل يوم !

لقد بدأت تنمو جذور الحالة الحوثية بالفعل، لتصبح غدا أصلب ويستحيل اقتلاعها، بل لتصبح الأقدر على اقتلاع كل من يقف حجر عثرة في وجه المشاريع الغربية الصهيونية، ولتقتل وتحرق في عموم الجزيرة العربية، كما فعلت ايران وميليشياتها وحشدها في العراق وسورية تحت عنوان المقاومة الأبيّة، ولتختطف اليمن كما اختطفت ايران لبنان وأفقدته دوره في الحاضنة العربية والاسلامية !

الدولة الحوثية في مواجهة شعب الحجاز أسير الدولة السعودية :

كلتا الدولتين كفردتي حذاء ينتعلهما الكاهن الأمريكي كيفما يشاء، ثم يضع الناس بين خيارين امّا هذا وامّا ذاك، وتعاد الكرّة في الثنائية الخاطئة التي تفرض خيارات مضلّلة ومبعثرة تهدر جهود وطاقات الأمة وحركاتها، وذلك في ظلّ أزمة الأمة العميقة والحالية بسبب غياب مشروع مستقل يعبر عنها وعن تطلعاتها المبنية على آلامها وتحدّياتها كشعوب وليس كأنظمة وكيلة مستخذية أمام الغرب !

نموذج بشار والمالكي في مواجهة شعوب الجزيرة العربية :

وبالنظر لحالة الجزيرة العربية وشعوبها المقهورة فإن مستقبل حراكها الواعد وثوراتها المتوقعة والمنتظرة في وجه الظلمة – الذين تفشى ظلمهم وتبدلت هويتهم وثقافتهم وانتماؤهم وأدوارهم المعلنة – ستواجه بشراسة ويفتك بها المكوّن الحوثي بعد أن يشتد عوده وتصنع منه أمريكا خميني شبه الجزيرة العربية، وذلك بشرعيّة المقاومة التي تشهد عليها صواريخه العبثيّة والضربات الأمريكية البريطانية الحالية ، تماما كما صنعت سابقا الخميني ومكنته من دولة ايران وأوصلته الى قصر طهران، وحلت لعنة مشروعه الطائفي على الدول العربية كما في العراق وسورية، والتي أبدع فيها المالكي وبشار بذبح المدنيين والمسالمين وصناعة داعش واجهاض الثورات المشروعة وقتل الثوار .

إن على الشعوب العربية في شبه الجزيرة العربية أن تتحسس رقابها، وتسارع لإطلاق مبادرات شعبية جادة وحقيقية لتوحيد ورصّ صفوفها واحتواء مكوناتها الشيعية في دولها، قبل أن يتواصل معها دولة الحوثي  ويعدها بالإمبراطورية التي رسمها الخميني ولي الفقيه في مخيلة عموم الشيعة، واستخدمهم ليكونوا حطبا في مشروع أمريكا والصهيونية، كما في العراق ولبنان وسورية !

غياب أم تغبيش الوعي الجمعي في الأمة :

لم نكن مضطرين لأن يسقط منا أربعة ملايين شهيد على أيدي ملالي إيران، نصفهم في العراق ونصفهم في الشام، وزد عليهم نصف مليون قتلهم الحوثي في اليمن، لنقتنع بأن مشروع إيران السياسي -الذي شكله الملالي بتوافق عميق مع الإدارة الأمريكية، والتي مكنتها من حكم طهران ومدت نفوذها في اليمن والشام وسلمتها العراق واختصتها بكعكة لبنان – هو مشروع إجرامي معاد لأمتنا ودولها، وأنه متخادم إلى حد كبير مع الإدارة الأمريكية ومشاريعها الاستراتيجية في هدم منطقتنا العربية والإسلامية وافقار شعوبنا وتشريدها، ومنع وافشال أي محاولة نهضوية.

وأعتقد أنه – لا سمح الله- لو بقيت الأمة وقياداتها وحركاتها وشعوبها دون موقف واضح تجاه مشروع إيران السياسي المعادي، بحيث يتحقق حوله إجماع كبير ومتواتر بين العلماء كموقفهم تجاه المشروع الصهيوني، ولا يظل بينهم محل خلاف، فإن أذاه سيتجاوز أذى الاحتلال الإسرائيلي وحلفائه، ويكون أصعب وأشقّ علينا الخلاص منه، وذلك بعد أن تنقسم عليه وحوله الأمة، بسبب دوره وشرعيته المخادعة تحت عنوان فلسطين المقاومة، وهنا تكمن أمانتنا كفلسطينيين دعاة وعلماء ومجاهدين تجاه دماء أمتنا القادمة، وتجاه ديننا وفريضة حمل وأداء وتبليغ الرسالة دون تطفيف في توصيف الباطل ومشاريعه !

أسطورة الحوثي وايران نموذج حي لضعف الايمان المورث للهزيمة :

إن استحضاري لنموذج الحوثي وشكل التفاعل والتداعي معه سواء على المستوى الفلسطيني أو العربي أو الإسلامي، وسواء عند القيادات الإسلامية أم الوطنية، هو بهدف تحديد موطن ضعف الإيمان الناتج عن قصور في الفهم وغبش في الرؤية تورثنا الهزيمة وتحول دون التمكين في معاركنا المشروعة، وذلك رغم كثرة وعظم بطولاتها وروعة ونبل ووفاء المجاهدين والشهداء ورغم شيوع حفظ كتاب الله بين الأجيال الصاعدة، ولك أن تتصوّر كيف تتجه أمريكا والغرب الصليبي لمزيد من التفاهم مع ايران، لاسيما بعد أن أثبتت ايران قدرتها على تحريك التنظيمات في المنطقة، كما برهنت للإدارة الأمريكية والبريطانية والفرنسية والألمانية قدرتها الفولاذية على ضبط الساحات حتى لو ناقض ذلك كل شعاراتها التاريخية، فيما يتجه البعض منّا لدوام العلاقة والحلف معها، غير مستوعب أن الشجار والتوترات الحالية بين أمريكا وايران تأتي في سياق التدافع الجزئي والآني لبلورة الصيغة النهائية للاتفاق والانسجام القادم!

ومن المؤسف الاشارة الى توسّع قصور الوعي ليتجاوز القيادات السياسية حتى يصل الى كثير من الدعاة وبعض العلماء الذين يحددون أفهامهم بحسب مواقف السياسيين وامتداداتهم التنظيمية أو ولاءاتهم العاطفية !

وكما برّر البعض مدح وشكر المقاومة للحوثي ومن قبله لأزلام ايران، وذلك بسبب مواقف اسناد ونصرة موهومة بعد غدر بيّن وجليّ، فانه يمكن أن يبرر غدا وصف قيادات المقاومة للسيسي بخليفة المسلمين –لا سمح الله-، لاسيّما اذا حلّت عليه مشاعر الحنان وأدخل لغزة الماء والدواء وشيئا من الطعام والكهرباء ! ولم لا والسيسي لم يقتل ولم يسجن ولم يشرّد من المسلمين عشر معشار من قتلتهم ومن شردتهم ومن تسجنهم ايران وأزلامها في اليمن والعراق والشام !

  

ضعف الوعي عند بعض الدعاة وبعض العلماء :

ولمزيد من معاينة الضعف عند بعض الدعاة والعلماء، تصوّر يا رعاك الله لو أن قيادات المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع ايران أعلنت بشجاعة غدر ايران بالمقاومين في فلسطين، ثم أعلنت براءاتها من ملالي ايران وفروعهم في لبنان واليمن والعراق والشام –كما أعلنه العلامة القرضاوي قبل وفاته رحمه الله -، فهل تعتقد أنه سيبقى واحدا من بين الدعاة والعلماء المسلمين على وجه البسيطة مؤيدا ومبرّرا للعلاقة والحلف مع ايران ؟

الجواب دون تردد لا، فمن الذي يقود اذن، ومن الذي ينبغي أن يوجّه ويرشد ؟ ان الجواب على السؤال السابق يقود لفهم الفرق بين المعادلة القويمة والمعادلة المختلّة في عموم مشاريعنا الاسلامية وثوراتها العربية الأخيرة، والتي يدفع فاتورة قصور وعيها شباب الأمة، وتستهلك رصيدنا دون نتائج وبدون حدّ ولا حساب تحت عناوين الشهادة والخلود في الجنان !

اشكالية العالم في تجاربنا المعاصرة :

ورغم أن العالم وصف دقيق يستوجب شروطا علمية وعملية وسلوكا قويما ومواقف مشهودة، الا أن الأمر قد اختلط في عموم الساحات والتجارب الثورية والاسلامية، وقد أسهم في هذا الخلط عدة عوامل منها :

• غياب التوصيف الصحيح للعالم عند عموم الناس وخصوص روّاد الأعمال الاسلامية.

• صناعة الأنظمة الرسمية وقنواتها الاعلامية لشخصيات علمائية عن وعي وهدف .

• صناعة التنظيمات الاسلامية والحركات الحزبية لهيئات علمائية تضم حملة شهادات جامعية .

• دور بعض العلماء المضطرب في الجمع بين صفة العالم والقائد والمدير التنظيمي في آن واحد، الأمر الذي جعل سلوكه غير موفقا باعتباره عالما يحمل الصفة العلمائية ولكنه يمارس دورا تنظيميا يرسم ويضبط ايقاع حركته وأقواله وأفعاله ومواقفه باعتبار المصالح والمفاسد العائدة على تنظيمه، وهي مصالح ومفاسد مختلفة ومنفصلة عن واجبه كعالم يرث النبوة في تبليغ الدين وبيان الواجب في النوازل حين تنزل وبالشكل والقدر اللازم، وهو أمر لا يطيقه القائد التنظيمي أو القائد السياسي المحاط بظروف خاصة ووقائع خطرة، وحينها يختزل العالم في هذا السياق ويظهر في صورة مغايرة، ويختلط على الأمة دوره مع دور كثير من الوعاظ والدعاة والقيادات الحركية فيصبح الكل عالما بعيدا عن التوصيف السليم ودون استكمال حقيقي لشروطه، لاسيّما اذا كان يحمل شهادة أكاديمية شرعية، أو كان تحت اطار هيئة علمائية، وحينها يختلط الحابل بالنابل ويغيب دور العالم الذي يرث النبوة في بيان الموقف الحق !

 

فلسطين القضية الصلبة ومحلّ الاجماع :

ان القضية الفلسطينية هي أكثر القضايا صلابة ووضوحا واجماعا بين جموع الأمة وعبر تاريخ احتلالها، ورغم أنها القضية الأصلب التي يمكن أن تجمع الأمة وتحقق وحدتها بشكل عمليّ، الا أن المشروع الايراني المعادي استطاع اختطاف اسمها وبات هو عنوانها -وذلك بعد أن احتكرنا قضيتنا كفلسطينيين بين أيدينا وفي حدود أرضنا- ، وكلّما زاد هدر الدماء فينا وعلى أرضنا في مواجهة محتلينا، ارتفعت أسهم ايران وباتت هي المفاوض الأكبر في منطقتنا ! فأي فهم هذا الذي أنقص وينقص على الدوام ايماننا، وذلك حين بتنا نلدغ من الجحر مرتين وثلاثة وحتى العشرة، ودون توقف منا ولا اعادة نظر، ودون انضاج وعي قويم يوجب تغيير المواقف ويصنع الوقائع ويضبط ايقاع أعمالنا السياسية والقتالية –في حضن أمتنا وشعوبنا- بشكل فارق ومغاير ؟

ثغرات مهلكات في التجارب الاسلامية والثورية :

يمكن تحديد عنصرين خالطا أعمالنا الإسلامية والثورية في العقد الأخير، وبدا واضحين سواء في الثورات العربية أو في التجربة والمعركة الفلسطينية الأخيرة، وهما :

أولا : قصور وضعف في وعي بعض القيادات، واهتراء في وعي بعض القيادات السياسية، لاسيما تلك الغارقة في صنم القطرية، أو القيادات التي تلبّست أفهامها وانضبط ايقاع أعمالها ومدّها وجزرها بالحزبية والعصبوية البغيضة.

ثانيا : غياب الثبات وضعف التمسك بالثوابت، وذلك ليس في الميادين الجهادية بل في الميادين السياسية، وعلى وجه الخصوص في المنعرجات التفاوضية وتحالفاتها الخاطئة، ومردودها السيئ على عموم الأمة وقضاياها الحقيقية، حتى لو صادفت مصلحة لفئة وجغرافيا جزئية ومحلية .

 

الثبات هو الدين المفقود في تجاربنا السياسية :

إن الثبات هو الدين المفقود في كثير من تجاربنا السياسية والثورية في المنطقة العربية والإسلامية، وقد برهنت تجاربنا الإسلامية المأساوية، أن الثبات دين عزيز يهتزّ عندما تفتح الدنيا وتفرش البسط وتتهيأ الوزارات لاستقبال الشخصيات الدعوية والثورية -إلا من رحم الله-، وهنا يكمن الثقب الأسود الذي يديره الغرب بوسائله وإمكانياته وعقله الكاهن، ليلتهم التجربة وأصحابها، ويقلب الأماني إلى مآس وجروح غائرة لا تشفى في جيل أو حتى في جيلين .

ان حديث العلماء والدعاة السائد حول الثبات يتعلّق غالبا بالمجاهدين في ميادين القتال، مع أن شعوب أمتنا وأبناء حركاتها الجهادية والثورية أثبتت في جلّ معاركها حالة من الثبات منقطع النظير ومذهل بشكل كبير، كما رأيناه في مصر والعراق وليبيا وتونس واليمن والشام والسودان الجريح، وحاليّا نعاينه في فلسطين ويترجمه أبطالنا الميامين في غزة والقدس ومخيم جنين، ورغم أن الثبات المفقود في معظم تجاربنا هو في مواقف القيادات السياسية والثورية، الا أن الحديث السائد يركز المجهر على المجاهدين ويتجاهل في الوقت نفسه الحديث عن القيادات السياسية  !

وترى من بعض الدعاة والعلماء العجب العجاب، وذلك عندما يطالب المجاهد في الميدان بأن يصبر على فقد أمه وزوجه وولده وأبيه ويبقى مرابطا على ثغره لا يبرحه حتى لو فقد أغلى ذويه، ثم يعذر القيادات ولا يطالب القائد السياسي بأن يثبت أمام دعم مالي معتاد أو أمام تلويح بمغانم سياسية عابرة، وتتوالى له من الدعاة التبريرات، وتنهال في المقابل على منتقديه اللعنات والتشكيكات، دون نقاش ولا نظر جادّ حول الأفكار المطروحة !

أتحدث اليوم بمرارة وقلق كبيرين تجاه إخوة كرام أقحموا في معترك كبير وخطير لم يعد حاضره كماضيه، كما لن يكون مستقبله كحاضره، وأسال الله لي ولهم السداد والثبات، وأدعو الله لهم بالحفظ من الاصطياد، لاسيما أننا على أبواب صياغات ومنعرجات حادة وقوية، قد تطير فيها رؤوس البعض، من الذين يعوقون مسارا يريده الغرب المتصهين، وأمريكا المعتدية، وايران المشروع المعادي والمحتلّ والمتخادمة، والأنظمة العربية الفاسدة وهي مع إسرائيل لاشك في هذا متواطئة ومتحالفة .

 وأذكر نفسي واخواني بقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، والذي رفعناه شعارا لمسيرتنا ورددناه في الميادين آلاف المرات قائلين : القرآن دستورنا .

يقول سبحانه وتعالى ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ۗ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ۗ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ  الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) سورة الحج الآيات 39-40-41

 ويقول سبحانه وتعالى ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين ) سورة العنكبوت الآية 69

 ويقول سبحانه وتعالى ( وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( سورة آل عمران الآية 126

الخلاصة :

ان اختلال الايمان عند الفرد أو الجماعة سبب موجب للهزيمة وسبب مباشر في غياب التمكين الذي ننشده في معاركنا المشروعة رغم عظمة البطولات وكثرة التضحيات !

وان أهمّ ما يغيب في الطرح والخطاب الاسلامي السائد –لاسيما في تجاربنا الأخيرة- هو أن اختلال المعادلة الايمانية الذي يجب أن نبحثه لا يتوقف عند حدود صلاح الأفراد والجماعات، سواء في عباداتهم أو سلوكهم العام وقربهم من الحلال وبعدهم عن الحرام، بل الأرجح والأبرز  في كثير من تجاربنا الثورية أن اختلال المعادلة الايمانية –على وجه الخصوص عند القيادات التي ترسم الخيارات وتتخذ القرارات ويتحشد خلفها الجموع والأتباع-  ناتج عن ضعف وعيها بالسياسات، أو فقر فهمها لكنه المشاريع المعادية، أو اهتراء وقصور نظرها للمشاريع والأطراف التي تتحالف معها أو حتى فهمها لمجتمعاتنا وقدراتنا، الأمر الذي يبعد النصر والتمكين حتى وان كانت معاركنا مليئة بالبطولات والتضحيات، وهو ما ظهر جليّا في بعض التجارب الاخوانية والسلفية وحتى القاعدية في بداياتها النقيّة .

 ما قلته من حق فمن الله ، وما أخطأت فمن نفسي ومن الشيطان وأستغفر الله العظيم،  ورأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأيك عندي محل تقدير واحترام واعتبار ، عسى أن أكون وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

نصر الله المجاهدين، وسدد الله الدعاة الغيورين، وثبت الله على الحق المصلحين، وجعلني وإياكم خدما صادقين للأمة والدين.

مضر أبوالهيجاء فلسطين-جنين 18/1/2024

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
Verified by MonsterInsights