في الوقت الذي تتصاعد فيه ألسنة اللهب من غزة ويشتد الحصار على الضفة الغربية، يتحرّك المجتمع الدولي باتجاه سياسي غير مألوف منذ سنوات، عبر مؤتمر نيويورك المرتقب بين 28 و30 يوليو. المؤتمر، الذي تُشارك في رئاسته فرنسا والسعودية،
يهدف لإعادة إحياء حل الدولتين، في ظل زخم دبلوماسي مفاجئ بعد إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن بلاده ستعترف بدولة فلسطين رسميًا في سبتمبر المقبل، وفق ما نقلته وكالة فرانس برس.
إعلان ماكرون: تحوّل دبلوماسي أم مناورة رمزية؟
وُصف إعلان ماكرون من قبل عدد من المحللين بأنه نقطة تحوّل غير تقليدية في السياسة الأوروبية تجاه فلسطين. ريتشارد جوان، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية (ICG)، صرّح أن “إعلان ماكرون يُغير قواعد اللعبة. كان المؤتمر على وشك أن يصبح بلا جدوى، لكنه عاد إلى الواجهة بهذه المبادرة”.
فرنسا، التي لطالما سارت بخطى حذرة في الملف الإسرائيلي-الفلسطيني، قررت هذه المرة كسر التوازن النمطي، في محاولة لتقوية المسار الدولي الداعم لحل الدولتين بعد سنوات من الجمود.
السلطة الفلسطينية: ترحيب حذر وأمل متجدد
رحبت القيادة الفلسطينية بالمؤتمر، ورأت فيه فرصة لإعادة إحياء المسار السياسي. رياض منصور، المندوب الفلسطيني لدى الأمم المتحدة، قال في تصريحات نقلتها وكالة وفا الرسمية: “المؤتمر يتيح فرصة فريدة لتحويل القانون الدولي والإجماع العالمي إلى خطوات عملية لإنهاء الاحتلال.” كما يُتوقع أن يُشارك رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى في المؤتمر إلى جانب عشرات الوفود الدولية.
ومع ذلك، فإن السلطة الفلسطينية تواجه أيضًا ضغوطًا تتعلق بالإصلاح الداخلي، وهو أحد محاور المؤتمر الأربعة التي تشمل:
1. دعم الاعتراف بالدولة الفلسطينية،
2. إصلاح السلطة الفلسطينية،
3. نزع سلاح حماس،
4. ودفع عجلة التطبيع العربي مع إسرائيل.
غياب إسرائيل والولايات المتحدة: موقف اعتراضي حاد
رغم أهمية المؤتمر، أعلنت إسرائيل والولايات المتحدة رسميًا عدم المشاركة. داني دانون، سفير إسرائيل لدى الأمم المتحدة، قال عبر متحدث السفارة جوناثان هارونوف، وفق بيان رسمي نقلته وكالات عدة: “إسرائيل لن تشارك في مؤتمر يتجاهل إدانة حماس ويتغاضى عن قضية الرهائن.”
هذا الغياب يعكس موقفًا سياسيًا واضحًا من إسرائيل وحليفتها الأبرز، ويتمحور حول رفض أي مسار دبلوماسي يمنح الفلسطينيين اعترافًا دون معالجة أمنية شاملة، بما يشمل تحييد حماس ووقف العمليات المسلحة.
أوروبا منقسمة: فرنسا تقود، وألمانيا تتريث
رغم المبادرة الفرنسية، فإن باقي دول الاتحاد الأوروبي لم تُجمع بعد على الاعتراف الفوري بفلسطين. بريطانيا، على لسان وزير خارجيتها، أكدت أنها “لن تعترف بالدولة الفلسطينية من طرف واحد”، متمسكة بخطة سلام أشمل، كما أوردت BBC News.
أما ألمانيا، فلا تزال مترددة، رغم الضغوط من داخل البرلمان وشارعها السياسي، ووفق تقارير DW الألمانية، فإن برلين تُفضل “الحفاظ على توازنها الدبلوماسي مع إسرائيل في هذه المرحلة”.
المواقف العربية: دعم علني وحذر ضمني
في العالم العربي، تنقسم الدول بين داعم واضح وداعم مشروط. السعودية، شريكة المؤتمر، ترى في هذا التحرك خطوة مهمة لإعادة مركزية القضية الفلسطينية، خاصة بعد سنوات من الانشغال بالملفات الإقليمية.
في المقابل، تتعامل الدول المطبّعة مع إسرائيل – مثل الإمارات والبحرين والمغرب – بحذر أكبر. دبلوماسي خليجي تحدث إلى العربي الجديد، قائلاً: “نحن نؤيد الاعتراف بالدولة الفلسطينية، لكن الحديث عن نزع سلاح حماس واستبعادها من الحياة السياسية سيزيد الانقسام الداخلي الفلسطيني تعقيدًا.”
في الشارع الفلسطيني والعربي: الأمل موجود… لكن العبرة في التنفيذ
رغم كل التحركات السياسية، يبقى المزاج الشعبي في الأراضي الفلسطينية والعالم العربي متباينًا. في رام الله، يقول ناشط مدني لموقع القدس دوت كوم: “لا نريد المزيد من المؤتمرات، نريد وقفًا فعليًا للقتل والحصار. الاعتراف مهم، لكنه لا يُوقف قناصًا ولا يُزيل مستوطنة.”
وفي غزة، التي تعيش أسوأ ظروف إنسانية منذ عقود، يُتابع الناس الأخبار بعين مترقبة. فقد تعلّم الفلسطينيون ألا يُراهنوا كثيرًا على الوعود، لكن ماكرون أعاد إليهم شيئًا من الأمل، ولو كان مشروطًا.
استنتاج: مؤتمر نيويورك ليس نهاية الطريق… لكنه بداية ارتداد سياسي جديد
رغم غياب الفاعلين الأساسيين – أميركا وإسرائيل – فإن مؤتمر نيويورك يعيد الزخم لفكرة الدولة الفلسطينية، ويُظهر وجود إرادة دولية – أوروبية تحديدًا – لإعادة التوازن في خطاب الشرعية الدولية.
وحتى إن لم يسفر المؤتمر عن قرارات مُلزمة أو خارطة طريق نهائية، فإن تحوُّل الموقف الفرنسي، ومشاركة واسعة من دول الجنوب العالمي، واشتداد الكارثة في غزة، كلها عوامل تعيد وضع فلسطين على الخريطة السياسية الدولية من جديد، لا كمأساة فقط، بل كقضية سيادية وحقوقية مؤجلة.